استراتيجية المواجهة (2)
استراتيجية المواجهة هي استراتيجية أن تستعيد الشعوب والأوطان إرادة المقاومة لتحرير الأرض والنفوس. إنها استراتيجية انتزاع إدارة الصراع والقيادة من أيدي الدول لتتحول إلى أيدي المقاومين والمجاهدين.
الأعداء يجدون في مشروع الدولة الفلسطينية – كما في مجمل نظام التجزئة العربية والإسلامية، والذي أقام دولاً مستلبة، نقول يجدون في هذه التركيبة محاوراً وشريكاً، لأنهم يجدون في الدولة سلطة تضبط لهم حركة الشعب والمقاومة.
أما الشعب والمقاومة فإن منطقهما يقف بالتعريف الأول بالضد من مصالح العدو والاحتلال، فلا مجال لأي شراكة بينهما، بل هناك عداوة مطلقة، لأن التاريخ والمنطق لم يقدما أيَّ صيغة لتنظيم العلاقة بين الشعوب وحركات الاستيطان والاحتلال والعدوان غير علاقات العداء والاقتتال. وعليه، فالأصل هو الدفاع والمقاومة والقتال، فإن حدث حوار، فهو حوار المتحاربين وليس الشركاء، ليس إلا. لذلك، عندما اندلعت الانتفاضة ولم تستطع السلطة إيقاف القتال، تكلم إيهود باراك على عدم وجود شريك له في الطرف الآخر.
وعندما استخدم باراك الدبابات والطائرات وقصف المقارّ الرسمية الفلسطينية، تكلمت السلطة على عدم وجود شريك لها في الطرف الآخر، الأمر الذي يكشف بمجمله الدور الذي أدّته الدولة في مجمل تاريخ الصراع مع العدو الإسرائيلي.
وإذا كنا نشدد على أهمية التمييز، وخصوصاً في منطقتنا، بين النظام الإقليمي والدولة أو الدول من جهة والأوطان والشعوب من جهة أخرى، ليكون الحاكم أو الحكومات نقطة تأرجح، إن كانت تميل منطقياً مع الطرف الأول عموماً، لكنها لا تعدم إمكانات جادة ومهمة للميل مع الوطن والشعب من جهة أخرى، فإننا نشدد أيضاً على أهمية رؤية التمايزات ايضاً في كل جبهة منعاً من الخلط والتعميم، إذ لا يمكن الكلام على الدول والنظام الإقليمي وفق درجة الكلام نفسها على "إسرائيل" مثلا، كما لا يمكن الكلام على مقاومة الحكومات بالدرجة نفسها في الكلام على القوى المقاومة والمجاهدة.
كل ذلك أمر مهم، علينا جميعاً رؤيته، لأن تنظيم استراتيجية المعركة سيبقى امراً متعذراً ليمنع عملية المقاومة والجهاد من تنظيم صفوفهما، وتوفير أفضل الظروف لنجاحهما. وبخلاف ذلك، سنمزق قسراً قوى الثورة ولا نستثمر كل الطاقات الموجودة، سواء في حركيات كل بلد، أو حركيات المنطقة عموماً، أو في الإطار العالمي. عندما لا تنظم هذه القضية وفق ميزان دقيق، سيجد المقاومون والمجاهدون أنفسهم دخلوا في فتنة واقتتال يعطلان جزئياً أو كلياً عملية التحرير.
استراتيجية المواجهة هي استراتيجية أن تستعيد الشعوب والأوطان إرادة المقاومة لتحرير الأرض والنفوس. إنها استراتيجية انتزاع إدارة الصراع والقيادة من أيدي الدول لتتحول إلى أيدي المقاومين والمجاهدين.
إنها استراتيجية تعطيل كل ما يمكن تعطيله من عقبات وعوائق، سواء في صفوف الشعب أو بين الشعب وحكوماته ودوله، لتُفتَح كل أبواب المقاومة والجهاد بكل أشكالها، إن كانت بالأنفس أو بالأموال. إذا كان هذا هو الواقع، فإن أولى مهمّات الاستراتيجية الصحيحة هي إعادة تنظيم مركز إدارة الصراع لينهي هيمنة السلطة أو الدولة عليه، وليصبح في جانبه القتالي على الأقل في أيدي المقاومين والمجاهدين، وإن التجربة اللبنانية وتجربة الانتفاضتين الفلسطينية الأولى والثانية هي مَعلَم جيد في هذا الطريق.
إذا اُنجزت هذه المهمة - وهي قطعت شوطاً لا يستهان به من الإنجاز، وخصوصاً إذا استثمر الانتصار الباهر في جنوبي لبنان واندلاع الانتفاضة المباركة وتحرك الشعوب العربية والإسلامية الأخير - فإن الأمور الأخرى، من تنظيمية أو خطابية، أي مجمل المهمّات السوقية والتعبوية، بما في ذلك مصالح الناس اليومية، ستجد حلولها الملائمة والطبيعية.
إننا من القائلين إن ميزان القوى بيننا وبين العدو الإسرائيلي بلغ ذروته بانتصارات "إسرائيل" عام 1967. وإن الانتقال من مقاومة الدول والحكومات إلى المقاومة شبه الرسمية وشبه الشعبية، والتي مثلتها منظمة التحرير الفلسطينية، إلى المقاومة الشعبية التي مثلها حزب الله والجهاد الاسلامي وحماس وسائر الفصائل والقوى المجاهدة، والتي باتت مدعومة من دول وحكومات قوية وبارزة، هو دليل ذو وجهين:
الأول، أن العدو يفقد المبادرة لمصلحتنا، وأن نفوس المحتلين أصابها بعض الارتباك، وأن عقيدة النصر تتعزز في نفوسنا. إذا تعززت هذه الاتجاهات، فإن هذا السياق سيتعمق أكثر فأكثر ليزداد اصطفاف القوى الشعبية أو الرسمية مع خيار التحرير، وليسجل التاريخ أن عملية التسوية والتطبيع لم تكن سوى مرحلة تراجع أراد بها المحتل أن يجدد قواه، وأن يغري بعض قوانا، وأن يستغل نقاط الضعف في صفوفنا، وخصوصاً منطق الدولة وإثارة مصالحها، للوقوف في وجه عملية التحرير، حاجِزاً عبر ذلك الإرادات الشعبية والجهادية عن القيام بما يمليه عليها التكليف والواجب، ومحولاً المعركة من معركة أمة ووطن مع عدو محتل إلى معارك داخلية وسلطات يراد لها أن تكون أشرطة لضمان أمن "إسرائيل"، تماماً كما عكست ذلك تجربة الشريط الحدودي في جنوبي لبنان بعد أن عجزت الدولة اللبنانية عن أداء هذا الدور.
ثانياً، إن الطريق ما زال شاقاً وصعباً، وإن المعارك هي أمواج صاعدة وهابطة، تنتقل من الهجوم إلى الدفاع ومن الدفاع إلى الهجوم. قد تنجح الولايات المتحدة و"إسرائيل" في الضغط على السلطة الفلسطينية وعلى الدول العربية لاستعادة المبادرة في عملية التسوية والتطبيع، لتنهي بذلك الانتفاضة ولتوقف كل التطورات الإيجابية التي حدثت منذ انتصار حزب الله في جنوبي لبنان، ومنذ اندلاع انتفاضة الأقصى وما رافقها من تحركات رسمية وشعبية، عربياً وإسلامياً.
وإن المطلوب من القوى المقاومة والمجاهدة، الرسمية والشعبية على حد سواء، أن تدرك أن عليها ألّا تخسر كثيراً من الوقت، بل عليها أن تسارع لتعزز مبادراتها وفعالياتها لتمتلك ناصية أعلى في المعركة المقبلة.
يجب استثمار الظروف التي بدأت ملامحها واضحة من خلال ما مفاده:
– الانتصار في جنوبي لبنان واندلاع الانتفاضة وانتصار منطق المقاومة وعودة فصائل كبيرة من داخل فتح وغيرها إلى منطق المقاومة، بما في ذلك المسلحة.
– انهيار، أو على الأقل نكسة طريق التسوية، إذ يجب أن نتذكر أننا كنا نعيش قبل عدة أشهر ضغط كامب ديفيد جديدة، وأن القوى المعادية والمتآمرة كانت تحاصر قوى التحرير عبر منطق التسوية ومكاسبه ووعوده الوهمية.
– انعقاد مؤتمري القمة العربي والإسلامي اللذين، على رغم كل الثُّغَر، كانا أقرب إلى مواقف الشعوب والأوطان من اقترابهما إلى موقف العدو والخصوم. وعلى رغم أن كثيراً من التردد ما زال يسم خطوات المسؤولين فإننا نعتقد أن خطوات مهمة أُنجزت، منها إيقاف علاقات بعض الدول بـ "إسرائيل" وتأسيس صناديق دعم الانتفاضة والبنى والمصالح الفلسطينية، والوعد بقطع العلاقات مع أي دولة تنقل سفارتها إلى القدس المحتلة، في موقف واضح سيغضب الولايات المتحدة من دول عُدّت دائما دولاً تسير في الفلك الأميركي.
– انتقال الفعل الضاغط والمقاوم إلى الشارعين العربي والإسلامي، بما في ذلك بالنسبة إلى عرب فلسطين عام 1948، الأمر الذي يشير بمجمله إلى إمكان تفكك النظام الإقليمي، كما يريده العدو ومن يقف خلفه، لبناء ملامح علاقات جديدة تكون أقرب إلى مصلحة التحرير وإرادة الشعوب والأوطان من أي شيء آخر.
– إحراج وارتباك واضحان في الرأي العام الأجنبي المؤيد لـ "إسرائيل" مع بروز بعض المواقف المتباينة في المعسكر الأوروبي.
– تأزم وخوف شديدان في "المجتمع" الإسرائيلي، وظهور حالات من الانقسام الحادة، وفقدان متزايد للمبادرة، ونقص متزايد في المناورة، وقصر يد، لا يمكن إلا تقويمها ورؤيتها في تراجع الحيلة وإمكان إيقاف هذا التدهور الخطير الذي أصاب ويصيب الكيان الصهيوني.
– حالة من الضعف والموازنات الحرجة المعطلة للمبادرات وقدرات الضغط في القرار الأميركي.
الظروف الإيجابية هذه يمكنها أن تعطل أو تخفف كثيراً من الأوضاع السلبية المعروفة في أوضاعنا. وإنه بقدر الضغط لتطوير الأوضاع الإيجابية فإنه، وفق المقدار ذاته، يمكن دفع العوامل السلبية إلى الوراء.
من هنا، تتطلب الأوضاع الراهنة اليوم تحركاً شعبياً ورسمياً سريعاً كي نستثمر هذه الظروف ونعزز قدرات القوى المقاومة والمجاهدة، لا كي تديم هذه المعركة فقط، بل للاستعداد للمعارك المقبلة أيضاً.
لكن الأمر يجب ألّا يتوقف على نقاط الاحتكاك والمواجهة فقط، بل يجب أيضاً استثمار هذه الظروف في كل نقاط الأمة، لنُضعف قبضة السلطة والدولة على حركة الشعوب والأوطان، ولنعزلها أكثر فأكثر عن منطوق المنظومة الإقليمية كما يريدها الأعداء، لنستعيد مفهوم الأمة المتحدة في فعلها وكلمتها ومصالحها، ولنُدخل في روح الحكومات وممارستها كثيراً من روح الشعب والمقاومة، لتتحول الدول إلى ممثلة لإرادة شعوبها وأوطانها لا إلى أسيجة وسجون تحبس فيها الإرادات الوطنية لمصلحة "إسرائيل" والأعداء.
أمام تصور استمرار تطور الأوضاع إيجاباً يمكننا تصور احتمالين على الأقل، وهو ما يستدعي تصور السياقات أو الاستراتيجيات الملائمة لها:
- على رغم صعوبة الأوضاع الدولية والمحلية، فإن هناك احتمالات لا يستهان بها لاندلاع حرب ذات بعد تكتيكي، بل أوسع من ذلك: حرب تشنها "إسرائيل" أو تشنها الولايات المتحدة الأميركية، إذ كما يبيّن تاريخ المنطقة والعالم، فإن تأزم العدو، الذي ما زال يملك كثيراً من القوى المادية، هو حل ثابت تلجأ إليه القوى العدوانية لتصحيح ميزان القوى لمصلحتها، ولتستعيد سيطرتها ومبادرتها على الأوضاع.
ويُخطئ من يعتقد أن ذخيرة العدو استُنفذت، لا في مجال القوتين العسكرية والمادية فقط، بل ايضاً في مجال استغلال النتوءات والتناقضات في أوضاعنا، وتحريك العوامل السلبية في منطق الدولة، واستغلال حماقات تلك الزعامات الرسمية وغير الرسمية المزايدة والشعاراتية، والتي مهمتها إثارة الفتن والانقسامات.
صحيح أن هذه الحرب قد تنسف جهوداً بذلتها الولايات المتحدة و"إسرائيل" لما يسمى "طريق السلام"، الذي ما هو في النهاية سوى طريق الاستسلام، لكن هذه الحروب، كما تبين حربا الخليج الأولى والثانية اللتان حركتاها أجواء الشعارات والحماقات، كانت سبباً مباشراً في اتفاقات مدريد، ثم لانطلاق ما سُمِّي سياسة التسوية.
فالحرب، إن اندلعت، فلن تكون بتمدد العدو، كما حدث في الضفة الغربية بعد عام 1967، أو بعد عام 1982، ليتحرك العامل الشعبي لمواجهته، بل ستكون في الغالب بالضرب في مواقع ضعفنا، ونقصد بذلك في إطار الكيانات والمؤسسات الرسمية، أو في إطار إثارة الفتن، أو نزعات التزعم والتمحور، كما حدث بعد الانتصار الباهر في أفغانستان، أو في مجازر الجزائر، أو في غيرها من أوضاع، لاستثمار كل عوامل الضعف والارتباك والقلق والخوف الموجودة في مواقع متعددة في صفوفنا.
فالهدف، بالنسبة إلى العدو، هو إعادة الحياة إلى نظام الضبط الإقليمي، وإبعاد تداعياته لمصلحة الشعب والوطن، ليتحول من جديد إلى صمام أمان للاحتلال والعدوان. من هنا، فإن الوضع الأفضل، بالنسبة إلى قوى الجهاد والمقاومة الجادة والمسؤولة، وليس تلك المزايدة والتي لا توحي في أي ثقة، هو إبقاء حالة الارتباك والعجز في أوضاع العدو وتصوراته، وتعطيل إرادته؛ أي أن نُدخله وضعَ اللاسلم واللاحرب، وألّا يذوق طعم السلام، عبر أعمال مسؤولة ومقاومة واضحة تستنزفه وترهقه، وأن نزن أفعالنا كي لا نترك أمامه أي خيار سوى خيار العدوان والحرب في شكلها أعلاه.
ولعل أفضل منظم لهذه السياسة هو أن نفعل نوعاً من الوحدة الضمنية، وليست الفعلية أو الكلية، بين القوى المقاومة والمجاهدة مع قوى التردد والوسطية، حكومات كانت أو حركات؛ أي أن نحافظ بوعي ومبادرة على جزء من النظام الأمني المتمثل بالدول التي أرادها العدو ضماناً لأمنه. مثل هذا التصور، إن نجحنا في ضبط مساراته، كما نجح حزب الله في تنظيمه بالنسبة إلى الدولة اللبنانية، وأيضاً بالنسبة إلى قطاعات مهمة غير ثورية من الشعب اللبناني، فإن من شأنه أن يُدخل عامل التردد وضعف الحيلة عند العدو، فلا يستطيع ضرب كل مرتكزاته ولا يستطيع إمساك زمام المبادرة أمام مقاومة تستظل بغطاء لا يمكنه اختراقه لضربها وتحجيمها.
عند النجاح في ذلك، وهذا أمر ممكن ويستدعي وعي المجاهدين المسؤولين والتزامهم، فإن قوى الجهاد والمقاومة، حركات كانت أو حكومات، تستطيع أن تجر العدو إلى معارك بطريقتها التي تجيدها هي، والتي لا يجيدها العدو، الأمر الذي سيبقي المبادرة وميزان القوى لمصلحة عملية التحرير.
– أن تصيب حالة التصعيد الراهنة الأنظمة والحكومات، بل حتى قطاعات غير رسمية، بحالة من الإرهاق والخوف والقلق، وخصوصاً أن مصالحها قد بنيت بالتواصل مع منطق يجعلها أقرب إلى مصالح الخارج والعدو منها إلى مصالح شعوبها وأوطانها. فالعدو، ومن ورائه الولايات المتحدة، قد يزيد ضغطهما في مواقع ليرفعا عن مواقع أخرى الضغط، ويفتحا أبواب التصالح وبعض التنازلات الشكلية. وما يرجّح مثل هذه التصورات، أن كثيرين من الحكام، إن لم نقل أغلبيتهم، ما زالوا يرددون ويكررون أن لا خيار سوى خيار ما يسمى السلام المزعوم، والذي ما هو في النهاية سوى سلام لـ "إسرائيل"، وحرب وفقر وتمزق بالنسبة إلى شعوبنا.
بكلمات أخرى، سيشجع العدو كل العوامل كي يتحرك نظام الضبط الإقليمي من جديد ليحجز طريق التحرير والثورة. والمشكلة الكبيرة، كما ذكرنا في البداية، أننا في معركة فلسطين الشاملة والكلية لم نمتلك ولا نملك بعدُ مركز قرار فاعلاً وواضحاً (او على الأقل محصلة مركز قرار في يده إدارة المعركة وتوجيهها وضبط مساراتها واستراتيجياتها).
فالمعركة مع العدو فيها كثير من ردود فعل، هي خليط من إرادات حكومية وشعبية تتباين في وجهات نظرها. وهي في أحيان كثيرة متعارضة، بل متصارعة. وهنا، لا مجال لتعطيل مثل هذا التطور السلبي إلا عبر التشديد على طرح الملفات، التي لا يمكن لأي سلطة أن تتنازل عنها، كملف القدس أو عودة اللاجئين ومنع توطينهم، والسكوت عن منطق الدول ولو تكتيكياً عبر الاستظلال بقرارات ما يسمى الشرعية الدولية، مثل قرار التقسيم أو القرار 242، والذي إن كان لا يلبي مطلب التحرير الكامل، أو الذي قد يفتح باب المساومات مجدداً، لكنه في المقابل يمثل قرارات تجاوزتها "إسرائيل" ذاتها، ولم تعد قادرة على تحقيقها. كل ذلك من أجل تصعيد عوامل التناقض بين الحكومات والدول العربية والإسلامية من جهة، والعدو من جهة أخرى. في المقابل، على القوى المقاومة والمجاهدة أن تشجع كل خطوة إيجابية تتخذها الحكومات والدول، لا أن تحاصرها، إما بالدخول في معركة ضدها وإما بالذهاب لتستنجد بقوى خارجية على شعوبها.
إننا نعتقد أن النجاح في المعارك السابقة، وفي تغيير كثير من موازين القوى، سيكون بالنسبة الينا أمراً أكثر ثباتاً. ونعتقد في المقابل أن الهجمات المضادة للأعداء ستكون، على رغم هولها وتضحياتها، أقل فعالية. فالأوضاع ما تطورت بالصورة التي تطورت فيها إلا بسبب دماء الشهداء والتضحيات العظيمة التي قدمتها أمتنا.
فهي ليست أخطاء حساب عند العدو سببتها زيارة مدروسة أو غير مدروسة لشارون للأقصى الشريف، أو سببها الحصول على أصوات في معركة انتخابية تجري في "إسرائيل" أو في الولايات المتحدة. إنها، في نظرنا، تطورات تاريخية تجد لنفسها مقومات وجذوراً عميقة في منطق تاريخي وفي وقائع إقليمية وعالمية لا يمنع رؤيتها بالنسبة إلى البعض إلا بسبب استمرارهم على روحية الشك والقلق والخوف وعدم الثقة، والتي استشرت في النفوس بعد أجيال الهزيمة والضعف.
فالنهضة الإسلامية حقيقة امتدت إلى العالم كله، والشعوب الإسلامية تزداد ثقة بنفسها. والعدو يزداد ارتباكاً، ومنذ عام 1967 لم يحقق أي نصر حقيقي له، بل راكم عدداً من الهزائم والنكسات. وإن قوى التدخل الأجنبي، إن كانت قادرة على الاستمرار في ضغطها، فإنها فشلت في معظم مهماتها الرئيسة، ومنها القضاء على الثورة الإسلامية في إيران، أو على حزب الله، أو على قوى الجهاد في فلسطين أو في غير فلسطين، أو في ترتيب الأوضاع في العراق ودول الخليج، أو في سائر الدول العربية، لمصلحتها.
فالمعركة، منظوراً إليها بالعين التاريخية والعين الاستراتيجية، وليس بحرب المواقع، تسجل خطاً صاعداً لعملية التحرير، وخطاً نازلاً للعدوان. وهذه حقيقة يجب ألّا تغيب عن صنّاع القرار في الحركات أو الحكومات عند اتخاذ قراراتهم، فينفد صبرهم ولا يتحملون ضغط اللحظة، فيصيبهم الإحباط والهلع والتراجع، فيتخذون قرارات تعطل سياقات التاريخ الصحيحة، فيصيبهم الخوف والتردد مانعَين اياهم من اتخاذ القرارات التاريخية، التي يعززها المنطق وسير التاريخ.
إذا نجحت قوى المقاومة والمجاهدة – إن كانت في مواقع الحكم أو الحركات – في إدراك هذه الصورة، فإننا نعتقد أن الوقت لن يتأخر كي ننجز أخطر وأهم مهمة، وهي أن تعود الأمة إلى الاتفاق على مركز قرار أو محصلة مركز قرار، سيعبر وحدة الأمة، والتي كان تمزيقها هو العامل الأول والاخير في تأخرنا وانحطاطنا وفقدان الثقة بأنفسنا والاعتماد على غيرنا، لتضيع الأوطان، وليضيع الإنسان، ولتضيع فلسطين، ويُدنَّس أقدس مقدساتنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
اقرأ أيضاً: استراتيجية المواجهة (1)