استراتيجية المواجهة (1)
حجم المعركة لا تقرره جغرافية فلسطين، بل قررته وتقرره شمولية العدوان الإسرائيلي والمعسكر الذي يقف خلفه. معركة فلسطين لم تكن منذ البداية معركة بلد واحد، بل هي معركة أمة ووطن تشمل العالمين العربي والإسلامي على الأقل.
إن رفع عوامل الكبح والتعطيل عن المجاهدة والمقاومة هو رسم الخطوات الأساسية لاستراتيجية المواجهة. وإننا نعتقد أن عامل الفعل والمبادرة الرئيس يقع في أيدي الشعوب وقيادات مسؤولة من العمل الإسلامي والوطني. وإن فعل الحجز والتعطيل الرئيس هو منطق الدولة المجزَّأة المنفصلة عن شعوبها، والتي قام عليها ما سُمِّي النظام الإقليمي الذي عُدّت "إسرائيل" جزءاً منه، بل إنها السبب والهدف في قيامه، والذي هو ركيزة للنظام العالمي الذي تقوده اليوم الولايات المتحدة الأميركية.
بناءً على ما تقدَّم، ومن دون مقدمات كثيرة، سنوضح ذلك عبر النظر إلى الأمر من زوايا متعددة، وأخذ التجربة اللبنانية والكفاح الفلسطيني والعربي والإسلامي في الحسبان.
من يرَ المعركة في فلسطين معركةَ تحرير فسيتباين عن أولئك الذين يرون أن المعركة هي المطالبة عبر ما يسمى بعملية التسوية لقيام دولة. ولا يغير في ذلك التقاء الأهداف في مقاطع معينة. النظرتان ستتباينان في المقابل في مقاطع مهمة، وخصوصاً في استراتيجية العمل وتحديد القوى التي يُركن إليها، والأصدقاء والأعداء.
إذاً، ما دامت المعركة في فلسطين هي معركة تحرير لتأتي الدولة تتويجاً لها، وليس تأسيس دولة تقنن وتشرع للاحتلال وتقف حاجزاً امام التحرير، نقول ما دامت المعركة هكذا، فإننا يجب أن نقرّ بأننا لا نمتلك ولم نمتلك بعدُ، مركز قرار فاعلاً أو واضحاً (أو على الاقل محصلة مركز قرار) يمكن الركون إليه لتنظيم المعركة واستراتيجيتها.
وهذا يتباين عما جرى في تجربة جنوبي لبنان، إذ على الرغم من وجود الدولة اللبنانية، فإن ذلك لم يمنع من أن يقوم من خارجها، ولاحقاً بالتعايش معها، مركز قرار سوقي وتعبوي موحد وواضح الرؤى والاتجاهات بالتعابير الحربية، مثّله حزب الله من جهة، والتنسيق والدعم الإيرانيان والسوريان واللبنانيان في الأساس، من جهة أخرى.
استطاع هذا المركز أن يمسك بقضيته بقوة وعناد، واستطاع أن يتجاوز كل الضغوطات والعقبات، ويوفر كل المتطلبات والشروط ليستطيع أن يستثمر عدالة القضية بما تعكسه من تعاطف جماهيري، وبالتالي رسمي لبناني وعربي وإسلامي وعالمي، ليخوض حرباً طويلة النفس استمرت نحو عقدين (أي أطول من تجربة الحربين الجزائرية والفيتنامية، على حد سواء)، فاستطاع أن يحول احتلال العدو للأرض والنفوس إلى هزيمة نكراء مُنيت بها القوات الإسرائيلية ودفعتها إلى الانسحاب على رغم كل التفوق العسكري الذي تمتلكه، وعلى رغم الدعم الذي تحظى به، وعلى رغم الضغط الذي شكله ما سُمي عملية التسوية والتطبيع، والتي لا تمثل في المحصلة سوى صيغ مبتكرة لتقنين الاحتلال وقبوله. وهي عملية أُريد لها إيقاف تحول ميزان القوى الذي كان يسير واضحاً لمصلحة منطق المقاومة والتحرير.
كانت المقاومة الفلسطينية، عبر تاريخها المجيد، ثم جاءت حرب أكتوبر بانتصاراتها التي لم تقلل من شأنها اختراقات الهجومات المضادة، ولم تستطع "إسرائيل" أن تساوم لبنان على احتلالها له عام 1982، فانهارت اتفاقية أيار بسبب العمليات الاستشهادية البطولية، والتي أرغمت "الجيش" الإسرائيلي على الانسحاب ليكتفي باحتلال أجزاء من الجنوب، ثم انهار بدوره تحت وقع الضربات التي قام بها حزب الله والمقاومة اللبنانية، كما ذكرنا.
هذه التطورات كلها تكشف بوضوح أن توازن القوى بدأ بالتحول موضوعياً لمصلحة قوى التحرير، وأن إغراء قيادة المنظمة بإدارة فلسطينية، لا سلطة ولا مبادرة ولا سيادة لها، وتعطيل إرادة الحكومات العربية والإسلامية عبر عملية التسوية والتطبيع، هدفا ويهدفان إلى تعطيل العامل الإرادي والذاتي للمجاهدة والمقاومة والتحرير، وهو ما ظهر بوضوح عندما ربط قيام السلطة وعودة عرفات إلى الضفة بإيقاف الانتفاضة الفلسطينية الأولى واتهام المتمردين على القرار بالإرهاب والتطرف والتخريب.
إذاً، أجرت عملية التسوية وانخراط القيادة الفلسطينية بها خلافاً بين التجربتين اللبنانية والفلسطينية.
في الأولى استطاعت قوى المقاومة والتحرير أن تمسك بزمام المبادرة والقيادة، الأمر الذي سمح لها بالاندفاع في العملية إلى أهدافها.
أمّا في الثانية فإن قوى المقاومة والتحرير طبّعت وطُوّعت إلى درجة باتت تقف فيها في وجه عملية التحرير، فعطّلت قوى المجاهدة، وخصوصاً الأكثر رقياً، ونقصد بذلك "الجهاد" و"حماس"، عن أخذ زمام المبادرة وقيادة المعركة نحو أهدافها. وكان يجب انتظار انتفاضة الأقصى ليصحح الشعب المعادلة في ثورة الحجارة، التي ستعتمد التطورات اللاحقة على الأساليب التي ستُرسيها الانتفاضة، سواء في إسقاط الحواجز التي وُضعت في طريق المقاومة، أو في تطوير الأسلوب الملائم الذي سيعتمده العمل الجهادي لتحرير الأرض والنفوس.
باختصار، تعلمت التجربة اللبنانية من التجربة الفلسطينية في تطوير الكفاح المسلح، وفي فهم العدو ونقاط الضعف التي يعانينها. في المقابل، تميزت المعركة اللبنانية وطوّرت دور الإعداد، فردياً وعقيدياً، وأسلوب التنظيم وطبيعة القتال وخططه، وطورت الخطاب وأنماط التحالفات وضبط الخصومات والعداوات.
تماماً كما ساعدت الانتصارات في الساحة اللبنانية على تهيئة أجواء الانتفاضة الثانية، وفتحت جبهات إضافية بعثرت قوة العدو، وسمحت لقوى المقاومة بأن تطور فعالياتها ومبادراتها.
في كل حال، لم تكن معركة لبنان معركة جنوبي لبنان فحسب، بل كانت في الأساس، أيضاً، معركة الأمة ومعركة في طريق تحرير فلسطين.
فحجم المعركة لا تقرره جغرافية فلسطين، بل قررته وتقرره شمولية العدوان الإسرائيلي والمعسكر الذي يقف خلفه. معركة فلسطين لم تكن منذ البداية معركة بلد واحد، بل هي معركة أمة ووطن تشمل العالمين العربي والإسلامي على الأقل، من جهة، وتشمل بالإضافة إلى "الدولة اليهودية"، المعسكر الغربي، في كل تلاوينه، من جهة أخرى.
معركة لها أبعاد تاريخية ودينية ووطنية واستعمارية معقدة وعميقة الجذور، الأمر الذي يجعل مسألة إدارة المعركة نقطة مركزية، من دون إنجاز متطلباتها لا يمكن صياغة خطط واستراتيجيات وتصورات صحيحة وفعّالة. فاستراتيجية الخصم، محلياً وعالمياً، كانت استراتيجية موحدة شاملة، في حين تمت محاصرتنا عبر تجزئة جغرافياتنا ومصالحنا، الأمر الذي وضع أكبر الحواجز أمام تطور عملية المقاومة والتحرير.
ومن دون أن نقلل من شأن التضحيات التي بُذلت، لكن التقويم المنصف لتطور المواقف سيشير إلى أن أفضل وضع تتمناه "الدولة العبرية" ومن يقف خلفها هو أن تتولى الدول العربية، أو منطق الدولة المجزَّأة والمحاصَرة والضعيفة زمام القرار والإدارة للوصول إلى حل نهائي لمسألة فلسطين.
لقد جربت الحكومات العربية، بسبب الضغوط الشعبية أو بسبب غيرة بعض المسؤولين، طريق الحرب ففشلت فيها. فأوضاعها المأسَوية لم تكن تسمح لها بسلوك هذا الطريق، فكانت هزيمة حزيران/يونيو عام 1967.
تلك الهزيمة التي سمحت للشعب الفلسطيني، مدعوماً من الشعوب العربية والإسلامية، بأن يتولى قيادة المعركة. فشهدنا طوال نحو عقدين قيادة أكثر ثورية وفعّالية، ونقصد بها قيادة السيد ياسر عرفات، من دون أن يلغي هذا التطور منافسة قيادات فلسطينية أخرى لقيادة السيد ياسر عرفات، ولم يُلغِ أيضاً انتهاء دور الدول العربية في الإدارة والقرار.
كان يجب تطويق هذه القيادة ومحاصرتها من داخلها ومن خارجها. من داخلها عبر تصفية كل الخطوط الأكثر تجذراً أو وزناً، كأبي جهاد وأبي إياد، ليتم استدراج هذه القيادة في مرحلة لاحقة، بالتنسيق مع بعض الدول، وخصوصاً العربية، التي أصابها اليأس وأغلقت كل الخيارات إلا خيار الاعتراف بشرعية الاحتلال وقبول الهيمنة الأجنبية، كما يوضح ذلك تعبير راعي السلام، ويُقصَد به الولايات المتحدة الأميركية.
فعملية التطبيع والسلام والمفاوضات لم تكن، منذ زيارة السادات للقدس المحتلة، إلى اتفاقات أوسلو وما تلاها، إلا محاولة لاستثمار الخصم للضعف في عاملنا الذاتي، وخصوصاً عبر تحريك ضعف الدولة ومنطقها، كما بُنيت عليه في منطقتنا، لإيقاف انقلاب ميزان القوى لمصلحة عملية التحرير، والتي برهنت أنها ممكنة من الناحية الموضوعية، كما دللت على ذلك حرب أكتوبر عام 1973، أو معركة لبنان والنجاح في طرد "الجيش" الإسرائيلي من عاصمته وبعض مناطقه أولاً، ثم من جنوبه ثانياً.
تستبطن أوضاعنا، إذاً، من الناحية التاريخية والحاضرة والمستقبلية منطقين من دون الفرز بينهما. لن نعرف ما الخطوط الفاصلة لا في التعامل مع داخلنا، ولا في التعامل مع عدونا.
فنحن أمام سياقين ومنطقين: المنطق الأول يقول إن معركة فلسطين هي معركة الشعب والوطن والدين. أمّا المنطق الثاني فإنه حوّل معركة فلسطين إلى معركة للدولة، أو إنها معركة دول. وهذا تمييز غاية في الأهمية في نظرنا، من دونه لن نستطيع أن نقوّم علاقتنا بدولنا، لا تأييداً ولا رفضاً، وستختلط علينا مهمّات الدولة، سواء باصطفافها عملياً مع الشعب والتحرير، أو باصطفافها عملياً مع العدو في حجز عملية التحرير.
فالمعركة، منظوراً إليها من زاوية الأوطان والشعوب والمعتقد، هي غير المعركة منظوراً إليها من زاوية الدول، وخصوصاً في المنطقة العربية. فالنظام الإقليمي، الذي رعته في مطلع القرن، كل من بريطانيا وفرنسا، ثم الولايات المتحدة الأميركية بعد الحرب الثانية، قام على نظام التجزئة الذي مركبه الرئيس تكوينات الدول وحدودها ومصالحها وارتباطاتها المحلية والدولية.
ومن دون أي رغبة في التبسيط والحكم المتسرع، فإن الوقائع برهنت، طوال القرن الماضي، أن النظام الإقليمي، بناءً على قواعده العامة وليس الاستثنائية، وعند التمييز بين مفهومي الدولة والحكومة، فإن "إسرائيل" ستبدو في وسطه كضرورة للمنظومة، بل هي، في نظر مؤسسي النظام الإقليمي، الطرفُ الرئيس في هذه المنظومة، ليبدو التناقض بين الدول والمنظومة، من جهة، وشعوب المنطقتين العربية والإسلامية ومصلحة الأوطان، من جهة أخرى، تناقضاً حادّاً لا يقبل المشاركة والتقاسم، وليُطرح سياق التطبيع والمشاركة مع "إسرائيل" كاستراتيجية وحيدة يصرحون بمناسبة أو من دون مناسبة بأنهم لا يمتلكون خيارات غيرها.
فالدول المجزَّأة المنفصلة عن شعوبها في المنطقة هي جزء من المنظومة الإقليمية، التي تجد مقومات شرعيتها ومصالحها وتمثيلياتها، ليس في مصالح الشعوب والاوطان أساساً، بل في محافظتها، وفق تعبير مغلّف وغامض، على ما يسمى الأمن والمنطق للدولة ومصالحها، الأمر الذي سيخدم في النهاية ما يسمى التوازن الإقليمي، الذي هو في المحصلة المصالح الدولية أولاً، وقبل كل شيء. فدول التجزئة المنفصلة عن شعوبها، استولت منذ بداية تأسيسها إلى اليوم على الاجتماع والمجتمع، وامتلكت في نهاية التحليل قيمومة على الحاكم والحكومات. فإما أن يخضع الحاكم لمنطق الدولة وإما أن تخضعه الدولة لمنطقها.
ويمكننا أن ندلل على صحة هذه الرؤية عبر عدة إشارات، والتي أن تم تأملها جيداً ستشكل بدورها ملامح الاستراتيجية الوطنية والتحريرية، والتي تستحق كل منها وقفة طويلة لولا قصر الوقت.
منعت قوة الاجتماع اللبناني بسبب الحريات النسبية التي يتمتع بها وبسبب توازنات داخلية وعوامل خارجية معروفة من قيام دولة أقوى من اجتماعها. وهذا وضع يسهل استثماره سلباً كما يسهل استثماره إيجاباً، إذ يكفي لحركة المقاومة والجهاد، إن هي أدركت، فطرة أو وعياً، عوامل الضعف والتأزم الموجودة لدى العدو والمعسكر الذي يقف معه وخلفه، أن تستثمر ضعف الدولة وثُغَرَها أو إخلاص الحاكم واستعداده لتحييد عنف الدولة وعدوانيتها لتؤسس لنفسها منطقاً يفلت من أنظمة التقييد والكبح، لينطلق في عملية التحرير.
وهو ما يفسر كيف استطاعت المقاومة الفلسطينية المسلحة أن تستقر في لبنان بعد أن عجزت عن الاستقرار في الأردن (الذي نصفه من الفلسطينيين)، أو في سائر الدول العربية. فلم تستطع لا الدولة اللبنانية ولا حتى الدولة السورية في حينها من إخراجها من المعركة أو السيطرة عليها، وهو ما تطلب أن تتدخل "إسرائيل" عام 1982 لإخراجها منه أو لإنهاء استقلاليتها وحريتها في المبادرة والمقاومة، الأمر الذي فتح الباب – في ظل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، والنهضة الإسلامية التي شملت لبنان أيضاً – على أن تنظم المقاومة الإسلامية نفسها على موضوعة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للبنان، والذي خدم ويخدم وسيخدم إنهاء الاحتلال الإسرائيلي.
ويجب أن نذكر ثبات موقف الأعداء، سواء قبل الاجتياح الإسرائيلي للبنان أو خلاله أو الآن، بشأن مطالبتهم بعودة الدولة وسلطتها وذراعها الجيش، بديلاً من سلطة المقاومة والشعب. ولعل ما جرى في لبنان، منذ عام 1967، قد يكون الصورة الأنقى لما يمكن للمقاومين والمجاهدين – فلسطينيين أو لبنانيين أو غيرهم - أن يفعلوه لكنه عمل لم يكن خاصاً بلبنان كما يقول بذلك البعض، بل هي حقيقة لها مقومات وعناصر في كل وضع وبلد.
وعلى المقاومين والمجاهدين إيجاد الثُّغر لاختراق منطق الدولة لإعادة مركز الإدارة والقرار إلى المقاومين والمجاهدين، شعوباً كانت أم حكومات. ويمكننا أن نقدم أمثلة متعددة على اختراقات كثيرة، لكننا سنقف عند اثنين منها:
– لعل أعظم اختراق شهدته أمتنا في هذا العصر، والذي قدم نموذجاً فذاً عن استنباط الوسائل الملائمة لتصحيح معادلة مركز إدارة الصراع وقيادته، ما قامت به الانتفاضة الفلسطينية، أو ثورة الحجارة. فهي إن كانت ستقدم الدليل على أن أمتنا لن تعجزها الوسيلة لتحرير أراضيها فإنها تقدم البرهان أيضاً على أن منطق الدولة – كما بُني عليه في منطقتنا - هو الكابح الرئيس لمنطق التحرير.
فالانتفاضة الأولى لم يكبحها سوى منطق السلطة وإقامة الدولة الشريكة لـ "إسرائيل"، وليس المستقلة عنها. أمّا الانتفاضة الثانية فإنها استغلت أول لحظة تأزم مع العدو لتسعى لتصحيح علاقة السلطة بشعبها وللسير نحو تجذير عملية التحرير وتطويرها.
– أدركت شعوبنا، عبر تجربتها وحسها، نقاط الضعف لدى العدو ونقاط القوة لدينا. فسعت لتحييد قوى العدو المادية ووسائله التقنية، وحاولت التخلص من عوامل الضعف في صفوفها، وهو ما أبرز تجربة غاية في الأهمية، ونقصد بذلك العمليات الاستشهادية. في لبنان، ساهمت هذه العمليات في تحرير الأرض على يد المقاومة الاسلامية.
وفي فلسطين ساهمت وستساهم هذه العمليات في تحرير الأرض على أيدي القوى المقاومة، وخصوصاً قوى الجهاد وحماس. وكي لا نؤرخ خطأً يجب أن نتذكر أن الفداء كان أسلوباً ثابتاً في العمل ضد العدو الإسرائيلي قبل تأسيس "الدولة" العبرية وبعد تأسيسها، وأنه كان الشكل الرئيس الذي أبقى جذوة الكفاح متقدة، والذي سمح لعملية التحرير بأن تنتقل من مرحلة إلى مرحلة أرقى وأكثر تقدماً، من حيث التنظيم والأسلوب والقيادة. عندما نظمت هذه العمليات ضد العدو وبقيت في حدودها الفعالة، ولم تنتقل إلى أعمال غير مسؤولة ونحو أهداف لا تمس كيان العدو، فإنها أعطت نتائج باهرة أرعبت العدو، وغيرت كثيراً من موازين القوى.
أشرنا تلميحاً اعلاه إلى أهمية التمييز بين مفهومي الحكومة والدولة. فالدولة في منطقتنا، بعد تجزئة الكيانات الإسلامية الكبيرة، كالدولة العثمانية والدولة الصفوية، هي مؤسسات أو مصالح وكيانات مرتبطة بمنطق لا يرى مصلحة الأوطان إلا بالتناغم مع مصلحة الخارج الأجنبي. فهي في عمومها دول منفصلة عن إرادات اجتماعها وشعوبها.
أمّا الحكام والحكومات فهم أفراد يأتون إما لتلبية شروط عمل هذه الكيانات (الدولة المجزَّأة المنفصلة عن اجتماعها)، وإمّا تدفعهم ظروف خاصة إلى استيعاب حقيقة الدولة، فيأتون وهم على وعي جزئي أو كلي بشأن أهمية استيعاب منطق الدولة عبر السيطرة على مصادر الفعل السلبي فيه من جهة، واستثمار مصادر قوته لإيجاد حركية، أعلى مضموناً وفاعليةً من منطق الدولة المجزَّأة المنفصلة عن اجتماعها ومحيطها، لا للخضوع لمنطقها ومتطلباتها.
ولن أبالغ إن قلت إنه لو كان بيننا اليوم الإمام الخميني أو الرئيس الأسد أو الرئيس عبد الناصر، رحمهم الله، أو كان بيننا اليوم قادة يحتلون مواقع في قرار السلطة، لتكلموا لنا على مدى العقبات والضغوط التي تمارَس ضدهم، ليس فقط من الخارج والدول الأجنبية، بل قبل كل شيء أيضاً من داخلهم، ومن أجهزة الدولة وشبكتها المعقدة.
إن شعار الدولة الفلسطينية، في الشكل المعروض فيه رسمياً، لا يمثل إنهاء الاحتلال، بل تكريسه. فهذه ليست دولة تحرير (أي تنتزع بعض الأرض لتواصل تحرير البقية)، أو دولة تفرضها عملية التحرير في إطار موازين قوى معركة التحرير، بل هي دولة يراها ويريدها العدو عنصراً من أمنه، لا تغير في ذلك النيات الطيبة أو الوطنية لعناصرها.
لذلك، ليس من دون دلالة أن يتكلم الطرف الإسرائيلي والطرف الفلسطيني على الشريك في الطرف المقابل عندما تجري عملية التسوية على ما يرام، ويتكلمان على عدم وجود شريك عندما تتعثر العملية.
فإعطاء صفة الشريك للمحتل هو اعتراف بشرعية المحتل وإزالة طابع العدوان عن عمله السابق وعمله اللاحق؛ بل أكثر من ذلك: هو قبول أداء دور لمصلحته، بما في ذلك تعطيل عملية التحرير والوقوف ضد المقاومين والمجاهدين.
فالمحتل عدو وليس شريكاً، وهذا بمفرده يعكس الخلفية التي تقاد بها المعركة، كما أن كل الدلالات يجب أن تُستنتج من ممارسة يراها من يدير العملية ممارسة مشروعة، وهي ارتباط تقدم المفاوضات من أجل الدولة بوضع المجاهدين في السجون ليخرجوا منها ويجدوا بعض التشجيع من أوساط السلطة عندما تتعثر المفاوضات، كما تشير إلى ذلك أحداث كثيرة، أهمها ما جرى خلال انتفاضة الأقصى الأخيرة.