أي خيبات تنتظر "جيش" الاحتلال بعد "ملحمة" الشجاعية البطولية!
في معركة الشجاعية بدت المقاومة من جهة أكثر تماسكاً وصلابةً، ومن جهة أخرى أكثر مرونة تكتيكية، سواء على مستوى الخطط العملانية أو في ما يتعلّق بالمبادرة الهجومية ضد تموضعات "جيش" الاحتلال.
آثرت أن أؤجّل على غير عادتي الكتابة عن معركة حي الشجاعية حتى تظهر نتائجها أو على أقل تقدير جزء منها، مع أني كنت أعرف مسبقاً نتيجة تحليل المعطيات التي أحاطت بها، وبالنظر إلى تجارب سابقة خاضت فيها المقاومة الباسلة معارك من هذا النوع، أن العدو الصهيوني لن يستطع أن يحقّق فيها ما فشل في تحقيقه في معارك سابقة، سواء تلك التي خاضها في الحي نفسه قبل ستة أشهر تقريباً أو في مناطق أخرى مثل جباليا وخان يونس والمنطقة الوسطى وباقي مناطق قطاع غزة.
وعلى الرغم من أن "جيش" الاحتلال حاول استخدام تكتيك جديد في هجومه الأخير على حي الشجاعية، إذ اعتمد على أسلوب المباغتة في وضح النهار من دون سابق إنذار، وتحت ستار كثيف من القصف الجوي والمدفعي الهائل، إلى جانب زجّه بعشرات الدبابات والآليات المدرعة في وسط الأحياء السكنية أو ما تبقّى منها، فإنه فشل في تحقيق الهدف الأساسي الذي كان يسعى إليه، وهو، بحسب مصادر عليمة ومطّلعة، كان يهدف إلى محاصرة بعض مراكز الإيواء الواقعة في وسط الحي، والتي كان يعتقد أن عناصر فاعلة في المقاومة موجودة بداخلها، محاولاً استنساخ تجربة مستشفى الشفاء قبل 3 أشهر تقريباً، إذ تمكّن حينها من تحقيق نجاح نسبي تجاوزته المقاومة بسرعة فائقة ومنعت حدوث ارتدادات سلبية على عملها نتيجة بعض الاعتقالات التي جرت هناك.
في الهجوم الأخير على حي الشجاعية، ثاني أكبر أحياء مدينة غزة، بمساحة تصل إلى 14 كيلومتراً ونصف كيلومتر، وأكثرها سكّاناً، إذ كان يسكنه قبل الحرب أكثر من 100 ألف مواطن، وتقلّصت مساحة البنيان والعمران فيه إلى أقل من النصف نتيجة عمليات الهدم والتدمير التي قامت بها قوات الاحتلال في هجومها السابق عليه، حاولت قوات الاحتلال فرض حصار مطبق على بعض المناطق وإغلاق مداخلها ومخارجها بشكل محكم، في محاولة لمنع انسحاب الأشخاص التي تنوي اعتقالهم أو قتلهم.
وقد ساهم هذا الحصار والإطباق في منع مئات المواطنين من الخروج من الحي هرباً من جحيم القذائف التي انهمرت على رؤوسهم كالمطر، إذ اضطر عدد كبير منهم إلى الخروج على وجه السرعة تحت القصف من دون أن يصطحب معه أياً من أغراضه الشخصية أو ما يقيهم الجوع والعطش، ولا سيما في ظل ما يعانيه شمال القطاع من حصار غير مسبوق أدى إلى ظهور مئات الحالات التي تعاني سوء التغذية، وخصوصاً من فئتي الأطفال وكبار السن، فيما علق المئات الآخرين في بيوتهم أو في بعض مراكز الإيواء التي تفتقد أدنى مقوّمات الحياة، إلا أن تمكّن "جيش" الاحتلال من مباغتة المواطنين الآمنين العزّل، والذين كانوا يحاولون استعادة جزء من حياتهم وسط الدمار الكبير والهائل لم ينسحب على عناصر المقاومة الذين تفطّنوا كما يبدو للهجوم الإسرائيلي نتيجة انتشار فرق الاستطلاع والمراقبة التابعة لهم في كل المحاور، لا سيما الحدودية منها.
وقد كانوا يتوقّعون، بحسب بعض المعلومات، أن هذا الهجوم قادم لا محالة، وأعدّوا العدّة له، ونشروا المقاتلين في عشرات العقد القتالية في مختلف محاور الحي، لا سيما في شارعي بغداد والنزّاز والمناطق المحيطة بهما، إذ تبيّن في اليوم الثاني من الهجوم "الإسرائيلي" أن هذين الشارعين هما مسرح العمليات الأساسي لجيش الاحتلال الذي سبق له أيضاً أن ركّز جهده العملياتي عليهما في الاجتياح الأول لحي الشجاعية.
في الشجاعية، تمكّنت المقاومة، وعلى رأسها كتائب القسام وسرايا القدس، من تحويل التهديد إلى فرصة، إذ نجحت في تكبيد قوات العدو خسائر فادحة في الأفراد والمعدّات. تلك القوات التي تكوّنت من فرقتين قتاليّتين، مستعينة بأكثر من 100 دبابة وآلية مدرّعة، إلى جانب غطاء جوي كثيف على مدار الساعة، تلقّت منذ اللحظة الأولى لتوغلها في الحي عشرات الضربات القاتلة.
وقد بدا لافتاً لجوء المقاومة إلى سلاح العبوات الناسفة الذي اعتمدت عليه بكثافة نتيجة قتالها داخل المناطق العمرانية. ورغم الدمار الكبير الذي حلّ بها، فإن مجرد وجود بيوت، حتى لو كانت متداعية أو أكواماً من الركام، يساعد بشكل كبير في نصب كمائن وأشراك باستخدام العبوات الناسفة، ولا سيما تلك التي يتم زراعتها تحت الأرض، أو العبوات الجانبية التي تملك المقاومة في غزة خبرات كبيرة في كيفية تصنيعها أو الطريقة الأمثل لزراعتها على جوانب الطرق وتفجيرها في الوقت المناسب.
إضافة إلى العبوات الناسفة، استخدمت المقاومة بكثافة سلاح القذائف المضادة للدروع، وهو الذي أثبت منذ بداية العدوان نجاعة كبيرة ضد الدبابات والآليات الصهيونية. وعلى الرغم من وسائل الحماية التي تتوفّر لها، نتيجة تدريعها الحديث، والمنظومات المضادة للصواريخ التي تحظى بها، فإنَّها أصبحت فريسة سهلة للقذائف والصواريخ المحمولة على الكتف نتيجة قرب المسافة التي تُطلق منها. هذا الأمر تحديداً نجح في إبطال منظومة "معطف الريح" الموجودة على بعض تلك الآليات، والتي لا تعمل في حال أُطلقت الصواريخ من مسافة قريبة أو نتيجة توجيه المقاتلين لقذائفهم نحو الخاصرة الرخوة لتلك الآليات الواقع ما بين البدن والبرج.
بحسب كثير من المحلّلين، ومن بينهم "إسرائيليون"، تبدو معركة الشجاعية نموذجاً قابلاً للتكرار في إطار "المرحلة الثالثة" من العملية العسكرية الصهيونية في قطاع غزة، سواء من ناحية الشكل القتالي الذي ظهرت عليه فصائل المقاومة الفلسطينية أو على صعيد حجم الخسائر الكبير واللافت في صفوف جنود وضباط "جيش"" الاحتلال.
هذه المرحلة التي تم الإعلان عن بدايتها أكثر من مرة نتيجة حالة الإرباك الواضحة التي أصابت القيادتين العسكرية والسياسية في الكيان الصهيوني، إذ سبق للاحتلال أن أعلن عن انطلاقها بعيد سحب قواته البريّة من المنطقة الشمالية من القطاع قبل ثلاثة أشهر تقريباً، وادّعى في حينها أنه سيتوجه لما سمّاه بالهجمات "الجراحية" المحدودة المعتمدة على معلومات استخبارية دقيقة، والتي لا تحتاج إلى قوات عسكرية كبيرة، مع إبقائه على لواء "الناحال" -الذي تم استبداله لاحقاً- في محور نتساريم وسط القطاع، من أجل منع عودة النازحين إلى مناطق سكناهم في شمال القطاع.
في معركة الشجاعية التي ما زالت أحداثها جارية حتى الآن، وإن كنّا نتوقع انتهاءها خلال أيام قليلة، بدت المقاومة من جهة أكثر تماسكاً وصلابةً، ومن جهة أخرى أكثر مرونة تكتيكية، سواء على مستوى الخطط العملانية أو في ما يتعلّق بالمبادرة الهجومية ضد تموضعات "جيش" الاحتلال.
هذا الأمر سمح لها بضرب قطاعات "جيش" الاحتلال في مختلف المناطق التي تقدّمت إليها، لا سيّما في محيط مقبرة التوانسي وسط الحي أو في الشوارع الفرعية الواصلة بين شارعي بغداد والنزّاز، وهي شوارع في مجملها ضيّقة ومتعرّجة، وتشبه إلى حدٍّ كبير شوارع المخيمات الفلسطينية، وهو الأمر الذي أعطي المقاتلين مساحة أكثر للتحرّك الآمن، وللاقتراب إلى مسافات صفرية من جنود الاحتلال، سواء أولئك الذين يحتمون بالفولاذ المصفّح داخل دباباتهم وآلياتهم أو الذين يتموضعون في البيوت والمنشآت، وخصوصاً من فرق القناصة.
كلمة السر في تطوّر أداء المقاومة خلال معركة الشجاعية هي استعادتها عافيتها أو جزءاً كبيراً منها بعد تعرّضها لضغط كبير خلال المرحلة السابقة، ولنقص بدا واضحاً في الذخائر والمعدّات، ولا سيما على صعيد الأسلحة الصاروخية التي تستهدف مستعمرات غلاف غزة أو في ما يتعلّق بالعبوات الناسفة التي استخدمت منها عدداً كبيراً خلال شهور الحرب الأولى.
في الشهرين الأخيرين، تمكنت المقاومة من الحصول على عدد كبير من الوسائل القتالية المصنّعة محلياً، سواء على صعيد السلاحين المشار إليهما أعلاه أو في ما يتعلّق بالصواريخ المضادة للدروع، إضافةً إلى صواريخ الأرض-جو المضادة للطيران، إذ ظهر جليّاً من خلال البيانات العسكرية التي تصدرها الفصائل والفيديوهات المصوّرة التي تنشرها عبر صفحاتها المختلفة ارتفاعاً ملحوظاً في المهام القتالية التي تُنفّذ باستخدام تلك الوسائل، وهو الأمر الذي أدّى إلى ارتفاع ملحوظ في عدّاد الخسائر في صفوف جيش الاحتلال.
أحد الدلائل الملموسة على استعادة المقاومة عافيتها هو استئناف ورش التصنيع العسكري فيها لعملها من جديد. هذا الأمر بدا جليّاً في الفيديو الذي بثّته سرايا القدس عشيّة عيد الأضحى المبارك قبل أسابيع، والذي يظهر فيه عناصر وحدة التصنيع وهم يجهّزون عشرات الصواريخ قصيرة المدى، والتي باتت تُطلق بشكل شبه يومي على مستعمرات الغلاف خلال الشهرين الأخيرين تحديداً. وقد وصفت الصحافة الإسرائيلية الصلية الأخيرة منها بأنها "استثنائية"، إذ أطلقت السرايا أكثر من 20 صاروخاً دفعة واحدة باتجاه المواقع والمستعمرات شرق مدينة خان يونس.
دليل آخر هو الفيديو الذي بثّته كتائب القسام قبل أيام أيضاً، والذي أظهر وحدات التصنيع وهي تجهّز عشرات العبوات الناسفة من نوع "العمل الفدائي"، والتي، على الرغم من صغر حجمها، باتت تمثّل تحديّاً جديّاً لدبابات الاحتلال وآلياته، وخصوصاً أنها توضع على بدن الدبابة بشكل مباشر، كما فعل المقاتلان القساميّان في رفح قبل أيام.
إلى جانب استئناف المقاومة عمليات التصنيع الحربي لديها، فقد تمكنت أيضاً من استعادة جزء كبير من شبكة اتصالاتها الأرضية الآمنة، وهي الشبكة التي تعتمد عليها بشكل أساسي للتواصل بين غرف العمليات والمقاتلين في الميدان. وقد بدا هذا الأمر واضحاً في كثير من الفيديوهات التي تم بثّها مؤخراً، والتي أظهرت تواصلاً بين المقاتلين في العقد القتالية والكمائن وقيادة المحاور العسكرية باستخدام تلك الشبكة، والتي حاول العدو منذ بداية العملية العسكرية على القطاع تدمير أكبر جزء منها، سواء من خلال القصف الجوّي الذي استهدف مناطق اعتقد العدو أنها تحوي شبكات من هذا النوع أو في خلال التوغل البري الذي حرصت فيه قوات الاحتلال على تدمير كل الغرف الموجودة تحت الأرض، ومعظمها تابع لشركة الاتصالات الفلسطينية أو لشركة توزيع الكهرباء.
على كل حال، ولأن المقام ضيّق، سنكتفي بالإشارتين السابقتين للدلالة على استعادة المقاومة جزءاً كبيراً من عافيتها، واللتين، كما أشرنا سابقاً، كانتا من أهم العوامل التي ساعدت المقاومة على الظهور بهذا الشكل في تصدّيها لجيش الاحتلال في حي الشجاعية. وكما نعتقد، سيصبح ذلك نمطاً مستداماً، وسيتكرّر في كل عمليات التصدّي القادمة، سواء في المنطقة الشمالية من القطاع أو في المنطقتين الوسطى والجنوبية، والتي تملك هي الأخرى إمكانيات نوعية رأينا جزءاً منها في معركة رفح.
ختاماً، يمكننا القول إن محاولات جيش العدو الحد من مناوراته البرية، وسحب الجزء الأكبر من قواته إلى المناطق الحدودية بغرض تقليل حجم الخسائر في صفوفه، فيما تبقى طائراته الحربية تصب جحيم صواريخها وقنابلها على رؤوس المدنيين الفلسطينيين، لن تنجح، ولن يتمكن العدو من فرض معادلة جديدة تُبقى الفلسطينيين تحت النار فيما قواته تضرب وتقصف من بعيد دون التعرض لخسائر تُذكر، فالمقاومة لديها خياراتها بالتأكيد، وما يحدث في محور نتساريم خير دليل على ما نقول، وهو الأمر الذي سيتكرر لاحقاً في محور فيلادلفيا في حال أبقى الاحتلال قواته هناك.
المقاومة لن تعدم الوسيلة على الرغم من التضحيات الجسام التي تقدّمها من أجل إرغام العدو على سحب كل قواته من أراضي القطاع، سواء بالمفاوضات السياسية الساعية إلى وقف إطلاق النار التي شهدت بعض التقدّم خلال الساعات الأخيرة أو من خلال مروحة واسعة من الخيارات الميدانية التي ما زالت تمتلكها، إلى جانب الدعم الكبير الذي تتلقاه من قوى المقاومة في الإقليم، والتي تبذل هي الأخرى جهوداً جبارة من أجل إجبار الاحتلال على وقف العدوان على غزة.
مستقبل الاحتلال في حال قرر البقاء في غزة أو في جزءٍ منها لن يكون ورديّاً على الإطلاق، وهو لن يجني من استمرار عدوانه سوى مزيد من الخيبات والهزائم؛ هذه الخيبات التي سترتفع وتيرتها من دون أدنى شك خلال المرحلة القادمة، بفعل الكثير من التطوّرات التي يمكن أن تشهدها المعركة المحتدمة في القطاع وباقي جبهات المساندة.