أميركا... تقديم القرابين والتضحية بالأصدقاء
بعد الحرب العالمية الثانية، دخلت الولايات المتحدة في حرب باردة مع الاتحاد السوفياتي، وانقسم العالم إلى معسكرين، وانتهى بسقوط الاتحاد السوفياتي وبروز الولايات المتحدة كقطب وحيد على الساحة الدولية.
لم تنجح الولايات المتحدة في الحروب التي خاضتها بشكل مباشر، بل نجحت أكثر في الحروب التي خاضتها بالوكالة. ومن هنا، فقد أصبحت عقيدتها العسكرية الحالية تعتمد على هذا النوع من الحروب، وهو ما نراه الآن في الحرب الأوكرانية، وما تسعى إلى فعله عبر تايوان.
لقد مر على تأسيس الولايات المتحدة نحو 250 سنة، خاضت خلالها 93 حرباً، استغرقت نحو 222 سنة. بمعنى أن تاريخ الولايات المتحدة يكاد لا يخلو من الحروب التي افتعلتها ضد غيرها من الدول، فالتوجه الأول للولايات المتحدة هو الحروب.
ويمكن أن نحدد أهدافها من خوض تلك الحروب بأربعة أهداف، هي: التوسع والتمدد، والسيطرة على الموارد، وخاصة النفط، والتخلص من الديون، وتصدير أزماتها الاقتصادية إلى دول العالم، والسعي إلى إضعاف منافسيها المحتملين.
وعندما قامت الحرب العالمية الأولى كان الهدف منها هو تدمير الإمبراطوريات الأربع: القيصرية الألمانية، والنمساوية المجرية، والبلشفية السلافية والعثمانية الإسلامية.
وسُمّيت الفترة بين 1815-1914 بـ "قرن الإمبراطورية البريطانية"، وفقاً لبعض المؤرخين. ونجحت الولايات المتحدة الأميركية في اقتناص اللحظة التاريخية التي تدخل فيها الحرب، لتكون الكاسب الأكبر من غنائمها.
واعتمدت في حروبها على استراتيجية ما يمكن تسميته "القتال من وراء الجدران"، إذ دخلت الحرب العالمية الأولى في نهايتها تقريباً لكنها حصدت الغنائم كافة، وكذلك في الحرب العالمية الثانية نجحت في جعل أوروبا والسوفيات في المقدمة، وكانت هي من يدير الأمور من الخلف، فكانت الكاسب الأكبر من الحرب والذي سيتسيّد العالم في ما بعد.
ولتكريس نفسها دولة قوية، لا تتردد في استخدام أي نوع من أنواع الأسلحة، فقد استخدمت القنبلة النووية ضد اليابان متسببة في أبشع مأساة بشرية عرفها التاريخ. لتعود بعد ذلك وتكرس نفسها وصياً على حماية الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم، مستغلة تلك القضايا ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول ولعدة عقود.
وبعد الحرب العالمية الثانية، دخلت الولايات المتحدة في حرب باردة مع الاتحاد السوفياتي، وانقسم العالم إلى معسكرين، غربي تتزعمه الولايات المتحدة وحلف "الناتو"، وشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي وحلف "وارسو"، انتهى بسقوط الاتحاد السوفياتي وبروز الولايات المتحدة كقطب وحيد على الساحة الدولية.
كما نجحت في استنزاف السوفيات في أفغانستان عبر إقامة تحالف مع الجماعات الإسلامية المتطرفة (تنظيم القاعدة) لتجنيدهم في القتال ضد السوفيات، بالاعتماد على فتاوى بعض المشايخ المأجورين، وتمويل عدد من الدول التي وجدت في انهيار نظام الشاه في إيران وبروز الدولة الإسلامية الإيرانية خطراً يهدد عروشها يجب وضع حد له، فكانت الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988.
تلك الحرب التي استنزفت قوة العراق وإيران، كما استنزفت موارد الدول الخليجية النفطية. ليأتي بعد ذلك الفخ الأميركي الذي نصبته السفيرة الأميركية لدى العراق غلاسبي، والمتمثل بتشجيع العراق على غزو الكويت في 2 آب/أغسطس 1990، ثم تشكيل أكبر تحالف دولي ضد العراق في العام 1991، وهو ما أدى إلى تدمير رابع أكبر جيش في العالم.
لقد حمل العام 1991 حدثين كانا بمثابة نهاية الثنائية القطبية، وبداية العالم أحادي القطبية، الذي أعلن عن ولادته الرئيس بوش الأب. هذان الحدثان هما: تفكك الاتحاد السوفياتي وتدمير الجيش العراقي، وهو ما أدى إلى قبول العرب الذهاب إلى مؤتمر مدريد للسلام في العام 1991، بعد أن فقدوا حليفهم التقليدي (الاتحاد السوفياتي)، وبعد أن تغيرت معادلة القوة في المنطقة لمصلحة "إسرائيل"، بعد تدمير الجيش العراقي.
ومن هنا، تكرس دور الولايات المتحدة كقطب وحيد مهيمن على الساحة الدولية، وظهرت أطروحات فكرية تدعم ذلك التوجه وتكرسه، مثل كتاب "نهاية التاريخ" لفرانسيس فوكوياما الصادر في العام 1992، والذي رأى أن التاريخ قد انتهى بانتصار الغرب والليبرالية، وأن التاريخ لن يعيد نفسه أبداً.
وكذلك صدر كتاب "صراع الحضارات" لصموئيل هينتغتون في العام 1993، والذي تحدث عن تغير العدو في قادم الأيام، فالعدو في المستقبل لن يكون دولاً، بل هو حضارات، وتنبأ بأن العدو القادم هو العدو الأخضر (الإسلام)، بعد أن انتصرت الولايات المتحدة الأميركية على العدو الأحمر (الاتحاد السوفياتي).
لم تلق كتابات صموئيل هينتغتون أهمية كبيرة إلى أن جاءت أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، والتي نفذها "مسلمون"، ليعود العالم كله ويتحدث أطروحة عن صراع الحضارات، والتي أصبحت بمثابة النبوءة لهينتغتون.
بدأت الحملة الأميركية على الإرهاب، الذي أصبح يعني (الإسلام) من وجهة نظر العديد من دول العالم، فكان هذا الانشغال فرصة كبيرة لروسيا والصين لإعادة بناء قدراتهما للعودة إلى المنافسة على الساحة الدولية.
روسيا والصين... دولتان غير قانعتين
في ظل الانشغال الأميركي بالحرب على الإرهاب، بدأت روسيا العمل لاستعادة دورها على الساحة الدولية، عبر بناء اقتصادها وتطوير قوتها العسكرية لمواجهة العدو التقليدي لها، والمتمثل بحلف "الناتو"، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
أما الصين، والتي انكفأت على ذاتها لعقود طويلة، فكانت قد بدأت، ومع سياسة الإصلاح والانفتاح، بتطوير اقتصادها والانتقال من الاقتصاد الزراعي إلى الاقتصاد الصناعي، فأصبحت تحقق قفزات اقتصادية كبيرة بصمت وهدوء، بعيداً عن المناكفات الدولية، بعد أن استوعبت الدرس السوفياتي جيداً، فلا قوة لدولة بلا اقتصاد قوي.
وبدأت الصين وروسيا تفكران في التخلص من الهيمنة الأميركية على النظام الدولي، تلك الهيمنة التي اعتمدت على:
- القوة العسكرية للولايات المتحدة وحلفائها في "الناتو".
- الأمم المتحدة كمنظمة دولية تعطي غطاءً سياسياً لأي تصرفات تقوم بها الولايات المتحدة بصفتها الدولة المهيمنة على المنظمة.
- الدولار الأميركي، الذي أصبح يشكل معضلة حقيقية لجميع اقتصادات العالم، بعد أن أصبح احتياطي الدول معتمداً عليه، باعتباره العملة المستخدمة في التبادلات الدولية.
- صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، كمؤسستين قادرتين على فرض أجندات سياسية على الدول الراغبة بالاقتراض، وكوسيلة للتخلص من التضخم الناجم عن طباعة المزيد من الدولارات الورقية.
من هنا، فقد بدأت الدولتان محاولة بناء المؤسسات التي ستشكل الحامل الرئيس للنظام الدولي القادم. فروسيا لديها مشروعها الأوراسي، وحلم استعادة الجمهوريات السوفياتية السابقة وتوحيدها.
أما الصين، فقد بنت رؤية متكاملة للنظام العالمي البديل من نظام العولمة الأميركية. فطرحت مشروع الحزام والطريق في العام 2013، والذي يعد أضخم مشروع سياسي واقتصادي عرفه التاريخ. ومن خلال هذا المشروع، استطاعت جعل العديد من الدول تخرج من عباءة الولايات المتحدة الأميركية، وتنضم إلى هذا المشروع، مثل "إسرائيل" التي تعد الحليف الأقرب لأميركا.
ومن خلال هذا المشروع، استطاعت بكين قيادة نحو 180 منظمة دولية كانت قد انبثقت عن هذا المشروع، والتي ستكون بديلاً عن الأمم المتحدة مستقبلاً. كما أسست بنك الاستثمار الآسيوي الذي سيكون البديل عن البنك الدولي، خاصة أنه لا يضع شروطاً سياسية على الدول المستقرضة.
كما قامت بالتعاون مع موسكو بتأسيس منظمة البريكس، التي اكتملت في العام 2010 بعد انضمام جنوب أفريقيا إليها. وهي المنظمة التي تشكل خطراً كبيراً على الولايات المتحدة الأميركية. وتضم الدول التي تعدّ صاحبة أسرع نمو اقتصادي في العالم، وهي دول في مرحلة متماثلة من التنمية الاقتصادية المتقدمة حديثاً، وفي طريقها إلى أن تصبح دولاً متقدمة.
وتشكل مساحة هذه الدول ربع مساحة اليابسة، وعدد سكانها يقارب 40% من سكان الأرض، وتمتلك 25% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ومن المتوقع بحلول عام 2050 أن تنافس اقتصادات هذه الدول، اقتصاد أغنى الدول في العالم حالياً، كما تسعى هذه الدول إلى تشكيل حلف أو نادٍ سياسي في ما بينها مستقبلاً.
واليوم، تسعى روسيا والصين لإقناع كل من السعودية ومصر والجزائر بالانضمام إلى هذه المنظمة.
ونظراً إلى دورهما في تأسيس البريكس، فقد بدأت الولايات المتحدة تفكر بضرورة توجيه ضربة إلى كل من روسيا والصين.
ففي العام 2010، بدأت الاحتجاجات في أوكرانيا التي كانت تطالب بالاستقلال، واستمرت تلك الأحداث لمدة 4 أعوام، وفي العام 2014، تم عزل الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا، فيكتور يانكوفيتش، وتعيين اليهودي زيلينسكي بدلاً عنه. ووصفت روسيا القادة الجدد في أوكرانيا بالفاشيين.
وبدأت الولايات المتحدة بنشر قوات حلف "الناتو" حول روسيا، كما أعلنت عن رغبتها بضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي لاستفزاز موسكو، وجرها لاحتلال أوكرانيا.
واليوم، وبعد مرور أكثر من 6 أشهر على بداية الحرب في أوكرانيا، بدا واضحاً أن الهدف الأميركي من الحرب هو استنزاف روسيا في المستنقع الأوكراني، عبر تقديم المزيد من الأسلحة لأوكرانيا بما يكفل استمرارية الحرب، وتدمير أوروبا كمنافس، ليتسنى لها التوجه نحو الصين، في محاولة لجرها إلى الحرب في تايوان عبر الاستفزازات المتكررة لبكين، والتي بدأت في العام 2016 بعد وصول تساي إنغ وين إلى رئاسة تايوان، وهي من الحزب الديمقراطي التقدمي، وتعد من أكثر الموالين لأميركا، وبالتالي فقد حدث في تايوان كما حدث في أوكرانيا في العام 2014.
واليوم، تسعى الولايات المتحدة إلى سرقة صناعة الرقائق الإلكترونية من تايوان ونقلها إلى أميركا، وبالتالي حرمان الصين منها والتأثير في الاقتصادين الصيني والتايواني، وهو ما يقودنا إلى سؤال من المهم جداً الإجابة عليه، وهو لماذا تسعى الولايات المتحدة إلى إشعال الحروب في العالم؟
في ظل ما تعانيه الولايات المتحدة من أوضاع اقتصادية وسياسية واجتماعية سيئة، وتنامي قوى منافسة على الساحة الدولية وخاصة روسيا والصين، بدأت الولايات المتحدة تشعر بأن النظام الدولي الحالي، والذي قامت هي ببنائه وهندسته وفقاً لرؤيتها وخدمة لمصالحها أوشك على الانهيار، وسيترتب على ذلك خسائر كبيرة بالنسبة لها.
لذا، فقد اعتمدت على ما يمكن تسميته "سياسة القرابين" التي تقوم على جعل الآخرين يخسرون أكثر منها عبر سلسلة من الإجراءات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- نقل أزمة العقارات التي حدثت في الولايات المتحدة في العام 2008، وتحويلها إلى أزمة عالمية يتوجب على العالم تحملها. إذ قامت الولايات المتحدة بطباعة المزيد من الدولار لتجاوز تلك الأزمة. ولكي لا تقوم بضخ تلك المبالغ في السوق الداخلية حيث سيؤدي ذلك إلى تضخم كبير، قامت بخفض سعر الفائدة وتشجيع الدول على الاستقراض، وضخ تلك الأموال إلى الخارج.
- إشعال الحروب والفتن بين الدول، وبالتالي تشجيع تجارة السلاح الأميركية، التي تستحوذ على 37% من حجم تجارة الأسلحة البالغة 1.830 مليار دولار. ونتيجة للحرب في أوكرانيا، ارتفعت أسعار الأسهم لشركات صناعة الأسلحة الأميركية. فبعد أقل من أسبوع من اندلاع الحرب في أوكرانيا، ارتفع سهم شركة لوكهيد مارتن بأكثر من 16%، كما ارتفع سهم شركة نورثروب غرومان بأكثر من 15%، وسهم شركة رايثيون ارتفع بأكثر من 10%.
- حدوث الحروب والاضطرابات يجعل أصحاب رؤوس الأموال يسعون إلى اقتناء الدولار بدلاً من العملة الوطنية، التي تبدأ قيمتها بالتراجع مقابل الارتفاع الكبير في سعر الدولار، إذ بلغ مجموع المبالغ التي تستنزفها الدول النامية يومياً من احتياطاتها الأجنبية لدعم عملاتها مقابل الدولار ملياري دولار تقريباً.
- انتقال الشركات والمصانع الكبرى ورؤوس الأموال من الدول التي تشهد اضطرابات وحروباً إلى الولايات المتحدة في ظل التسهيلات التي تقدمها الحكومة الأميركية، إذ تدفق إلى الولايات المتحدة أكثر من تريليون دولار من أصحاب الأموال.
- فرض العقوبات على الشركات التي تتعامل مع الصين وروسيا، وبالتالي خضوعها للمضايقات المالية نتيجة حرمانها من التعامل البنكي، وهو ما سيدفعها إلى التفكير في الانتقال إلى الولايات المتحدة. فروسيا تواجه حالياً أكثر من 5000 عقوبة، كما تم تجميد 300 مليار دولار أميركي من الذهب الروسي واحتياطيات العملات الأجنبية المخزنة في الغرب.
- محاولة إشغال المنافسين للولايات المتحدة في حروب غير منتهية، وإجبار العديد من الدول على تمويل تلك الحروب التي ستستنزف اقتصاد الجميع، ليبقى الاقتصاد الأميركي هو الأقل تضرراً. فعلى سبيل المثال، أصبحت أوروبا ونتيجة للحرب الأوكرانية، تعيش أسوأ أزمة عرفتها منذ الحرب العالمية الثانية، إذ تشهد ارتفاعاً غير مسبوق في أسعار الطاقة، وتتحمّل أعباء اقتصادية كبيرة ناتجة عن مساعدتها لأوكرانيا اقتصادياً وعسكرياً.
واتسعت الخلافات داخل الاتحاد الأوروبي بشأن كيفية معالجة أزمتي الطاقة وأوكرانيا. هذا بالإضافة إلى انخفاض قيمة اليورو أمام باقي العملات الأخرى. كل ذلك ينذر بشتاء بارد ومظلم لم يعرفه الأوروبيون من قبل.
فالولايات المتحدة ترى أن تدمير القوى الدولية البديلة، وعرقلة نمو الاقتصاديات الكبرى، هما ما سيشكل طوق النجاة بالنسبة لها، وما يتطلب منها تقديم القرابين والتضحية بالأصدقاء لو اقتضى الأمر ذلك. فلا وجود للصداقات في عالم اليوم، والمصالح التي تلتقي اليوم ستفترق غداً.