يهود أوروبا إلى "الغيتو" مجدداً.. واحتمالات الهجرة الثانية إلى فلسطين؟
قد تكون فرنسا الحلقة الثانية بعد هولندا، مسرحاً لمواجهات في الشوارع تفوق بتداعياتها ما حصل في أمستردام.
كشفت أحداث أمستردام عن واقع جديد لوضع اليهود في أوروبا، يذكّر إلى حد ما بما كان عليه الوضع في ثلاثينيات القرن الماضي، مع انقلاب الرواية والأسباب.
ما عاناه اليهود في أوروبا قبل نحو 100 عام، وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية، كان نتيجة عنصرية أوروبية وصلت ذروتها مع وصول أدولف هتلر إلى أعلى منصب في ألمانيا عام 1935. وكانت الجريمة التي ارتكبها النازيون بمنزلة فرصة لم تتكرر بالنسبة للصهيونية، التي قررت 1897 إقامة وطن لليهود على أرض فلسطين، إذ وضعت يهود أوروبا أمام خيارين: الانتقال إلى "الأرض الموعودة" المزعومة في فلسطين، أو مواجهة خطر الإبادة على يد النازيين، ونجحت في إقناع مئات الآلاف منهم بالانتقال واستعمار الأرض الفلسطينية، إلى أن أعلن إنشاء كيان الاحتلال في الأمم المتحدة، عام 1948.
ما يجري حالياً في أوروبا، وأظهرته أحداث أمستردام إلى العلن هو أن الصهيونية، بمساعدة الحكومات الأوروبية ودعمها، تضع اليهود الأوروبيين مرةً جديدة أمام الخيارين ذاتهما: الانتقال إلى "إسرائيل"، أو تحمّل خطر ما يزعم أنه "معاداة السامية" في أوروبا. وقد قالها أفيغدور ليبرمان، زعيم حزب "إسرائيل بيتنا" المعارض لنتنياهو، صراحةً، بعد يوم واحد من أحداث هولندا: "على يهود أوروبا (البالغ عددهم 1.6 ملايين) عدم المماطلة كما حدث عشية المحرقة، وترك كل شيء والهجرة إلى إسرائيل".
حملة تخويف اليهود الأوروبيين انتقلت إلى السرعة القصوى، مع ما جرى في أمستردام. بنيامين نتنياهو دق ناقوس الخطر، عندما أعلن عن إرسال طائرات بهدف إجلاء الإسرائيليين من هولندا بأقصى سرعة، وهو إجراء تأخذه الدول عادةً في حالة وجود خطر داهم على حياة الرعايا، كالحروب والنزاعات والكوارث الطبيعية. وقد رأينا خلال الأشهر الماضية أن الدول الأوروبية لم تطلب من رعاياها في لبنان السفر منه، إلا عندما بدأت محاولات الغزو البري الإسرائيلي، علماً بأن الحرب بدأت بالفعل منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
إعلان نتنياهو إرسال الطائرات بهدف إجلاء الإسرائيليين، ودعوته اللاحقة إلى عدم السفر للمشاركة في مناسبات رياضية أو ثقافية في أوروبا، ضاعف شعور اليهود الأوروبيين بعدم الأمان.
الحكومات الأوروبية تتحمّل بدورها مسؤوليةً كبيرةً بجعل اليهود يشعرون بالخطر الدائم، منذ الـ7 من أكتوبر 2023. هذه الحكومات اتخذت اجراءات أمنية غير مسبوقة من أجل "حماية اليهود في أماكن سكنهم ومتاجرهم وأماكن عبادتهم"، حتى وصل الأمر إلى فرز عناصر أمن من أجل حماية المقابر اليهودية.
الحكومات الأوروبية وضعت اليهود في نوع من "الغيتويات" المغلقة، بحراسة أمنية مشددة مع سياسة حظر الآخرين، ولاسيما العرب، من الاقتراب منهم.
أخبرني صديق أنه ركن سيارته في شارع إحدى الضواحي الباريسية، وبعد عودته، بعد ساعة تقريباً، وجد عناصر الشرطة قرب السيارة يحاولون تفتيشها، وعندما سأل عن السبب قالوا: "أوقفت سيارتك قرب مركز يهودي، وهذا ممنوع"، وأشاروا عن بعد إلى لافتة كتب عليها: "مركز دافيد الثقافي".
تقول الحكومات الأوروبية إن ما تزعم أنه "معاداة السامية" تضاعف بشكل كبير جداً بعد الـ7 من أكتوبر. لكن هل ما حدث هو فعلاً "معاداة للسامية"، أم لليهود، أم للصهيونية؟
لقد تعاطت الحكومات الأوروبية بشكل سيء جداً مع الاعتداءات الإسرائيلية منذ الـ7 من أكتوبر 2023، ووقفت صراحةً إلى جانب "إسرائيل"، محاولةً إخفاء حقيقة ما يجري في قطاع غزة، ووضعته ضمن معادلة الصراع بين "الضحية الإسرائيلية والإرهاب الفلسطيني". هذه الاستراتيجية خدمت الأهداف الصهيونية طيلة العقود الماضية، لكن لا يمكن تمريرها اليوم، في عصر التواصل الاجتماعي والصورة التي تصل إلى الجميع.
هذا ما حصل فعلاً في أمستردام. الكل رأى بأم العين اعتداءات الإسرائيليين على المتعاطفين مع الفلسطينيين من أهل البلد وعلى المكوّن العربي في هولندا. ورأينا أيضاً كيف رفض الرأي العام الهولندي قيام الحكومة الهولندية، وحكومات أوروبا بصورة عامة، بقلب الحقائق لإبقاء الإسرائيلي بصورة "الضحية للعنف العربي والإسلامي". ونتيجة ذلك، تحولت شوارع عاصمة هولندا إلى ساحة مواجهة وعنف بين الشرطة ورافضي الرواية الرسمية، من مناصرين للفلسطينيين، لما حصل ليلة الخميس - الجمعة.
هذه المواجهات اعتبرت الأعنف منذ بدء حراك الشارع الأوروبي ضد الإجرام الإسرائيلي وضد دعم الحكومات الغربية لـ"إسرائيل"، فقد وصل عدد الذين اعتقلتهم الشرطة في أمستردام إلى 297، إضافةً إلى نحو 10 جرحى.
الوضع في فرنسا، حيث تعيش الجالية اليهودية الأكبر في العالم، بعد "إسرائيل" والولايات المتحدة، يمكن أن يكون أسوأ من هولندا، فاللوبي الصهيوني قوي جداً، إلى درجة أنه تجرّأ على إقامة حفل تكريم لوزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، الذي يفكر الاتحاد الأوروبي بوضع اسمه على لائحة "غير المرغوب بهم" في أوروبا.
في فرنسا أيضاً، تشكّلت منذ عام جبهة رفض واسعة للسياسة الفرنسية الرسمية وللعدوان الإسرائيلي، تألّفت من أحزاب يسارية ونقابات ومنظمات حقوقية دولية وجاليات عربية وإسلامية كبيرة، تظهر اعتراضها بالنزول الكثيف إلى الشارع وفي الجامعات والنقاشات العامة وحتى في الانتخابات.
فرنسا قد تكون الحلقة الثانية بعد هولندا، مسرحاً لمواجهات في الشوارع تفوق بتداعياتها ما حصل في أمستردام، خصوصاً أن الموساد الإسرائيلي وصل إلى باريس قبل أيام من موعد اللقاء الرياضي المقرر في 14 أكتوبر بين الفريقين الإسرائيلي والفرنسي.