وديعة من زمن الاستعمار.. "مايوت" أرض عربية تحتلها فرنسا حتى اليوم
موقعٌ استراتيجيّ يمرّ عبره 80 % من النفط العالمي، ثروات طبيعية هائلة من النفط والغاز، طبيعة استوائية خلابة وتنوّع بيولوجي استثنائي. هل يفسّر كل ذلك استماتة فرنسا في مواصلة احتلالها لجزيرة "مايوت" العربية التابعة لدولة جزر القمر؟
في إطار هجومه على "الهجرة غير الشرعية وعنف الأجانب"، لم يجد وزير الداخلية والأقاليم الواقعة ما وراء البحار، الفرنسي، جيرالد موسى دارمانان، سوى جزيرة "مايوت" في المحيط الهندي، لتكون رمزاً لنيته وتصميمه على طرح أفكاره لمحاربة الهجرة، فأعلن في آب/أغسطس 2022، نيته إصلاح قانون منح "حق التراب" في الجزيرة.
و"حق التراب"، أو "حق الأرض"، هو تعبير يعني حصول غير الفرنسيين الذين يولدون على الأراضي الفرنسية على الجنسية الفرنسية بشكل آلي، وهو البند الذي تم تعديله في قانون الهجرة الفرنسي الجديد في العام 2023 رغم مواجهته انتقادات حادة، ويشترط البند المعدّل أن يعبّر المترشّح عن رغبته في الحصول على الجنسية بطلب يتقدّم به بين سنّ السادسة عشرة والثامنة عشرة، ليُعرَض الطلب بعدها على لجنة للنظر فيه، فتقبله أو ترفضه.
مهاجرٌ يكره المهاجرين.. واستعمارٌ مباشر في زمن الاستعمار المقنّع!
المفارقة تكمن في أنّ دارمانان، اليميني المتشدّد، والذي كرّس نشاطه السياسي والوزاري لمكافحة "المنحرفين الأجانب"، كما يسمّيهم، يكاد لا يفوّت مناسبة من دون استغلالها في توجيه التحية لمن حمل اسمه تكريماً له، وهو جدّه لوالدته، المهاجر الجزائري موسى واكيد، المولود في بلدة "أولاد غالية" القريبة من مرداس، ولوالدته آني واكيد، عاملة النظافة التي كانت تعمل طوال النهار في كيّ ملابس الجيران كي توفر لابنها حياةً أفضل!
وبعيداً من هذه المفارقة، ومن تفاصيل أزمة المهاجرين الشائكة، ومن الاستعمار المقنّع الذي تمارسه فرنسا في أفريقيا التي تشهد في السنوات الأخيرة صحوة ضد النفوذ الفرنسي، فإن لــ"مايوت" الواقعة جغرافياً ضمن أرخبيل جزر القمر، خصوصيةً، باعتبارها أرضاً فرنسية خارج الحدود، لا تحتاج فرنسا معها إلى نظام سياسي محلي متواطئ معها، ولا إلى استعمار مقنّع، ربما يكون الوضع في "مايوت" أقرب إلى "وديعة من زمن الاستعمار المباشر"، أو "استعمار مباشر بمفعول رجعيّ"!
وتشترك "مايوت" في هذا الواقع الجيوسياسي، مع جزيرة "لاريونيون" القريبة من موريشيوس، وجزيرة "مارتينيك" القريبة من ترينيداد وتوباغو، وجزر "غوادالوب" في المحيط الأطلسي، ومنطقة "غويانا" على حدود البرازيل وسورينام، وجميعها مقاطعات فرنسية تقع خارج حدود فرنسا الطبيعية.
جزر القمر.. أرخبيل العطر في المحيط الهندي
تقع جمهورية "جزر القمر" في المحيط الهندي، بين شواطئ تنزانيا، وموزمبيق، ومدغشقر، وينحدر الإرث الثقافي لشعبها من قارّة أفريقيا، ومنطقة الشرق الأوسط، وقارّة أوروبا، وأغلبُ الشعب من المسلمين بنسبة تصل إلى 98% من إجمالي عدد السكان.
يعتقد المؤرخونَ بأنَّ أولى المستوطنات البشريّة في جزر القمر كانت في القرن السادس للميلاد، حيث ارتحلَ بعض السكان من أفريقيا، وجنوب شرق آسيا، وأوقيانيا، واستقرّوا في الجزر، تبعهم بعد ذلك القادمون من الخليج العربي، وأرخبيل الملايو، ومدغشقر، ومع الزيارات المتكررة من قبل المسلمين أصبحت جزر القمر مركزاً مهمّاً للتجارة البحريّة، فقد كانت موطناً للمرجان، وزهرة اليلانج، والعاج، والخرز، والتوابل، والذهب.
تسمّى جزر القمر بـ"الجزر العطرية"، لوفرة الحياة النباتية فيها، وما تنعم به من جمال، وهي تُعَدّ دولة فقيرة، إذ يعيش 50% من سكانها تحت خط الفقر.
جغرافياً، جزر القمر عبارة عن أرخبيل مؤلف من 4 جزر، أما "جمهورية جزر القمر" فتتألف حالياً من 3 جزر فقط، هي "أنجوان" و"موهيلي" و"القمر الكبرى"، وتتخذ مدينة موروني عاصمةً رسميّةً لها.
الجزيرة الرابعة هيَ "مايوت"، الواقعة تحتَ حكم فرنسا، وهي أرخبيل صغير بمساحة 376 كلم 2، يتألف من جزيرتين رئيسيتين هما "غراند تير" و"بوتيت تير"، وتبعد نحو 70 كلم عن جزيرة "أنجوان".
رحلة جزيرة الموت من "المستعمَرة" إلى "المقاطعة"..
ظهور "مايوت" للمرة الأولى في خرائط أوروبية، كان في خريطة لأرخبيل جزر القمر وضعها الرحالة البرتغالي دييغو ريبيرو عام 1527، وبعدها توافد رحالة فرنسيون وإنكليز إلى الجزيرة، وفي العام 1843 أصبحت مايوت مستعمرة فرنسية.
الاسم الأصلي للجزيرة هو اسمها العربي القديم "جزيرة الموت"، وقد سمّيت كذلك لأنها مُحاطة بشعب مرجانية تحطّم السفن القادمة إليها، وقد حرّف الفرنسيّون الاسم إلى "مايوت".
ويتذرّع الفرنسيون لتبرير احتلال "مايوت"، برفض شعبها الاستقلال أو الانضمام إلى جزر القمر، في كل مرة يتم تنظيم استفتاء فيها، خلافاً للجزر الأخرى التي اختارت منذ استفتاء العام 1974 الاستقلال عن فرنسا والاتحاد في دولة جزر القمر.
نسبة المؤيدين للبقاء ضمن الجمهورية الفرنسية، ارتفعت من 64% في استفتاء العام 1974، إلى 99,4% في الاستفتاء الثاني عام 1976، قبل أن تنخفض إلى 73% في الاستفتاء الثالث عام 2000، وترتفع مجدداً إلى 95,2% في استفتاء العام 2009، وفي عام 2011 أصبحت مايوت المقاطعة الخامسة من مقاطعات ما وراء البحار، والمحافظة الفرنسية رقم 101، وحازت منذ العام 2014 على توصيف "منطقة نائية جداً تابعة للاتحاد الأوروبي".
مطالباتٌ عربية وإسلامية.. بلا نتيجة
دولة جزر القمر، التي رفضت الاعتراف بنتائج الاستفتاء، وعدّت فرنسا دولة احتلال في "مايوت"، بذلت كل الجهود الدبلوماسية لاستعادة الجزيرة، وانضمّت إلى منظمة الوحدة الأفريقية عام 1975، وإلى الجامعة العربية عام 1993، فتبنّت المنظمة الأفريقية موقفها الرافض للاستفتاء وأقرّته، بينما اكتفت الجامعة العربية بالتأكيد في البيانات الختامية لقممها على الهوية القمرية للجزيرة، من دون تبنّي موقف جزر القمر ضدّ فرنسا بشكل كامل.
ورغم تلميح مسؤولين فرنسيين إلى رابطٍ ما بين تجدد مطالبة القمريين باستقلال مايوت، وبين العلاقة الجيدة بين إيران وبين جزر القمر، والتي تعود إلى زمن الرئيس الأسبق أحمد بن عبد الله سامبي الذي تولى المنصب بين العامين 2006 و2011، والذي كان قد درس في إيران، إلا أن قطع جزر القمر علاقتها مع إيران في العام 2016، أسوةً بدول عربية أخرى، على خلفية موقف الأخيرة من العدوان على اليمن واتهامها بالتدخل في شأن داخلي عربي، ثمّ الحكم على سامبي بالسجن مدى الحياة في العام 2022، لم يغيّرا شيئاً في إصرار جزر القمر على المطالبة بإعادة الجزيرة إليها.
استفتاءات تقرير المصير.. أو "كيف يغدو الاحتلال قانونياً"!
يستند الموقف الفرنسي إلى نتائج استفتاءات تقرير المصير المتكررة، التي، بصرف النظر عن شرعيتها وصحة نتائجها، لا تبرر قانونياً احتلال فرنسا للجزيرة ولا تمنحها حق ملكيتها.
وقد أثارت هذه القضية جدلاً قانونياً عالمياً، لجهة غرابة فكرة أخذ تصويت كل جزيرة على حدة في دولة واحدة من الناحيتين الجغرافية والسياسية هي "جزر القمر"، في حين أنّ وحدة أراضي الدول مبدأ ثابت لا يتم التعامل معه على نحو مجزأ عبر أخذ تصويت منطقة بشكل مستقل عن الأخرى.
كما أنّ هذه الاستفتاءات تجري في ظل تفاوت في الدخل الفردي بين سكان "مايوت" وباقي مناطق جزر القمر، يبلغ قرابة عشرة أضعاف، وهذا سبب كافٍ لفهم اختيار بعض سكان الجزيرة البقاء تحت الحكم الفرنسي، ويفسّر أيضاً هجرة بعض مواطني جزر القمر إليها عبر قوارب الـ"كواسا كواسا" (kwassa-kwassa)، والإقامة في أكواخ مصنوعة من الصفيح داخل أحياء فقيرة، وقيام فرنسا بحملات مستمرة لطردهم واتهامهم بالتسبب بأعمال عنف داخل "مايوت"، ورفض جزر القمر استقبال مواطنيها المبعَدين من "مايوت"، ومنعها العبّارات التي تنقلهم من الرسو في موانئها، انسجاماً مع موقف مبدئي يعتبر هؤلاء قمريين في أرض قمرية ولا مبرر لطردهم منها، ويرى أنّ استقبالهم هو اعتراف بحق فرنسا في طرد مواطنين من جزر القمر إلى جزر القمر، وإعطاء هذا الطرد شرعية لا يستحقها.
وقد اشتهرت قوارب الـ"كواسا كواسا" بعد النكتة التي ألقاها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في زيارته إقليم مربيان شمالي غربي فرنسا، في مطلع حزيران/يونيو عام 2017، إذ قال ضاحكاً "الكواسا كواسا لا تصطاد إلا قليلاً لكنها في المقابل تجلب سكان جزر القمر"، وهو ما أثار ردود فعل غاضبة ومطالبات بالاعتذار، حيث ترتبط ذكرى هذه القوارب بمأساة حقيقية بعد أن تسببت محاولات البحث عن حياةٍ أفضل في وفاة الآلاف من سكان جزر القمر غرقاً في الأعوام الأخيرة.
عقودٌ من العبث.. "فرّق تسُد" قاعدة استعمارية لا تَبلى
على الرغم من محافظة سكان "مايوت" على هويتهم العربية والإسلامية والقمرية، من جهة الزي واللغة وسواها، فإن نسبة كبيرة منهم تؤيد عمليات طرد المهاجرين القمريين، متأثرةً بالخطاب الفرنسي الرسمي، بل يذهب هؤلاء إلى حد المزايدة عبر مطالبة فرنسا بالتشدد أكثر في تطبيق هذا القانون، وليست هذه الفتنة القمرية – القمرية، بطبيعة الحال، عفويةً أو بعيدة عن الأصابع الفرنسية.
وإذا كان الواقع وفقاً لهذه السردية يبدو داعماً للموقف الفرنسي، لجهة حق أي دولة في ضبط حدودها والتحكم في حركة الدخول إليها والخروج منها، بيد أن هذه المقاربة يجب ألا تغفل عن عدم أحقية فرنسا في حكم الجزيرة في الأساس، ولا عن كون الامتيازات النسبية التي يحصل عليها سكان الجزيرة مقارنةً ببقية مواطني جزر القمر مموّلة من جزء من خيرات بلادهم وليست مكرمات فرنسية، ولا عن تدني الدخل الفردي في "مايوت" نفسها مقارنةً ببقية محافظات فرنسا التي تعيش بدورها على خيرات أفريقيا.
ويقرّ خبراء فرنسيون بمعاناة إدارات مقاطعات ما وراء البحار من نقصٍ في الموارد، وفي المساعدات التي تقدمها الدولة، مقارنةً بإدارات المحافظات الفرنسية الواقعة داخل الحدود، ومعاناة "مايوت" بشكلٍ خاصّ أكثر من غيرها من هذه المقاطعات، حيث يسمّى أهلها، الأغنياء مقارنةً بسكان محيطهم الطبيعي "جزر القمر"، بـ "فقراء فرنسا"، رغم وقوعها على قناة موزمبيق في المحيط الهندي، التي تشكل طريقاً أساسياً للتجارة العالمية، ما يعطيها بعداً استراتيجياً بالنسبة لفرنسا، إذ تتحدث إحصاءات عن مرور نحو 80% من النفط المستهلك في العالم من دول الخليج، عبر هذه القناة.
ولا تكفّ فرنسا عن التدخل في الشؤون الداخلية لدولة جزر القمر، في كل محطة من محطات العملية السياسية الديمقراطية فيها، ما يجعل أي رئيس منتخب مضطراً إلى الموازنة بين مواصلة المطالبة باستقلال "مايوت" وعودتها إلى مكانها الطبيعي جزءاً من "جزر القمر"، وبين اعتماد لغة دبلوماسية هادئة قدر الإمكان في مقاربة هذا الملف، تجنباً لاستفزاز فرنسا القادرة على تحريض المعارضة وتحريكها ضدّه وصولاً إلى الإطاحة به، فالمصالح الفرنسية في جزر القمر تبقى بوابة لرئاستها، والثقل الاقتصادي الفرنسي فيها لا يزال محافظاً على قوته حتى الآن.
هذا الدور السياسي السيئ لفرنسا في جزر القمر ليس جديداً، فمع إصرار رئيس الحكومة القمرية أحمد عبد الله بن عبد الرحمن (1919 – 1989) على إعلان استقلال بلاده من جانبٍ واحد، وإصراره على أحقيتها في مايوت، أوكلت فرنسا إلى المرتزق الفرنسي روبرت دينارد المعروف بـ "بوب دينار" (1929 – 2007) تنظيم انقلاب عسكري ضده، وبعد تولي علي صويلح (1937 – 1978) الحكم، انقلب عليه أحمد عبد الله بمساعدة خصمه دينارد هذه المرة، وكافأ عبد الله دينارد بتعيينه مسؤولاً عن الحرس الرئاسي، وحين قرر عزله اغتيل في العام 1989، وتورّط دينارد بعدها بانقلابَين على رئيسَين آخرَين، ليصبح "أشهر صانع انقلابات فرنسي في أفريقيا".
وعند محاكمة فرنسا لبوب دينار على أفعاله في جزر القمر، قال إنه قام بالمهام التي أوكلت باريس إليه تنفيذها، وأنه عمل تحت إشراف الأجهزة الفرنسية وبتوجيهاتها، وأنه قُدِّمَ في النهاية "كبش فداء" للجمهورية الفرنسية.
بين القرم و"مايوت".. كيف يتجلى النفاق الغربي؟
هذا النفاق الفرنسي ليس بعيداً عن نفاق عموم الغرب الذي فضحته جزر القمر أيضاً، وإن كان النفاق الغربي لم يعد يحتاج إلى أدلة إضافية لفضحه، بعد الإبادة المستمرة في قطاع غزة بدعم رسمي أميركي وأوروبي، إلا أن حالة "مايوت" تصلح للاستدلال أيضاً، فقد توقف الكاتب محمد سليم قلالة في مقالة له في جريدة "الشروق" الجزائرية عند مفارقة رفض الاتحاد الأوروبي ضمّ روسيا إلى شبه جزيرة القرم ولوغانتسك ودونيتسك عملاً بنتيجة استفتاء شعبي، وإقراره بأحقية فرنسا في جزيرة "مايوت" بالذريعة نفسها.
فرنسا مطرودةً من أفريقيا.. هل تكون "مايوت" استثناءً؟
حركة التاريخ تؤكد أن لا احتلال أو استعمار، مهما تنوّعت واختلفت أشكاله وتسمياته، يدوم إلى الأبد، وأن مصير كل أرض هو العودة إلى أهلها الأصليين، وهو أمر يتحقق تلقائياً بمجرد تجاوز كلفة البقاء كلفة الانسحاب، وهو أمر لا يبدو بعيداً في ظل تنامي الغضب ضد الفرنسيين في جزر القمر، ربطاً بالخطاب العدائي والعنف الذي يمارسونه تجاه من يسمّونهم بـ"المهاجرين"، وبحرمان مواطني "مايوت" من حقوق مماثلة لتلك التي يحصل عليها بقية الفرنسيين، وبتدخلهم الدائم في الشؤون الداخلية لجزر القمر ودعم المعارضات وتحريضها، ويتزامن هذا كله مع صفعات متتالية تتلقاها فرنسا في أكثر من مكان على امتداد القارة السمراء.
ويمكن الاستنتاج أنّ أي حراك شعبي يرفع شعار الاستقلال، سيجد قبولاً واهتماماً ودعماً أكبر لدى الرأي العام العالمي، والغربي على وجه الخصوص، بعد أن حطّم العدوان على غزة الأكاذيب الأميركية والغربية حول طبيعة الصراع العربي -الإسرائيلي، وأيقظ شعوب العالم على حقائق لطالما نجحت الآلة الإعلامية الغربية الجبارة في إخفائها عنهم.