من رصاص الجميل للطوفان: هكذا نبتت كتائب المقاومة في الضفة الغربية
كيف نبتت كتائب المقاومة في الضفة الغربية؟ وكيف تطورت؟ ومن هو "الشرارة" الذي أعاد للضفة هيبتها؟
في السنوات الأخيرة، تطورت المقاومة في الضفة الغربية من اشتباك فردي ينفذ من قبل فدائي وحيد أو ضمن عمليات مزدوجة أو مجموعات صغيرة تصل لخمسة فدائيين في أكبرها، إلى كتائب مقاومة تجوب الأزقة والشوارع بكامل عتادها العسكري، بل وتصدر بيانات عسكرية وتدعوا لإضرابات عامة وتحظى بالتفاف شعبي كبير. وتطورت أشكال المقاومة لدى الكتائب من الدفاع عن المخيمات والمدن والقرى وصد اقتحامات جيش الاحتلال ومستوطنيه إلى الهجوم على المواقع العسكرية، عبر تنفيذ عمليات فدائية بشكل منظم ونصب للكمائن والالتحام سويةً مع بقية الكتائب في قلب المعارك الميدانية. فكيف نبتت هذه الكتائب؟ وكيف تطورت؟ ومن هو "الشرارة" الذي أعاد للضفة هيبتها؟.
من فدائي واحد إلى كتيبة مقاومة
بدأت بذور تشكيل كتيبة جنين من فكر الفدائي الشهيد جميل العموري، والذي نفذ أولى عملياته الفدائية عام 2020، واستمر في عملياته الفردية بإطلاق النار حتى صار من أوائل المطلوبين لدى الاحتلال، وكان العموري حينها فارساً وحيداً، يطلق رصاصاته اتجاه جنود الاحتلال المقتحمين لمخيم جنين تاره والمتمركزين على الحواجز العسكرية تارة آخرى، ثم يعود لمنزله منتصراً دون لفت للإنتباه.
ذلك الجميل، والذي ورث جينات حب فلسطين من عائلته وسيرة عمه الأسير شادي العموري، المحكوم بالمؤبد، عاد بعد 20 عاماً من اعتقال عمه ليعيد فوهة البندقية إلى اتجاهها الصحيح. وبعد عام من المطاردة، أي في العام 2021، بدأ العموري بتشكيل أولى الخلايا المقاومة التي صارت لاحقاً نواة لكتيبة جنين. وقد زادت قوتها بالعدد والعدة في معركة "سيف القدس عام 2021"، ثم لمعت أكثر بعد "عملية نفق الحرية" الذي صادفت نفس العام، إذ تعهدت الخلية علناً بتأمين مأوى للأسرى الذين انتزعوا حريتهم من سجن جلبوع وعرقلة كافة محاولات اعتقالهم. وكان أشهر ما قاله العموري في بيان عسكري في قلب جنين مقولة شهيرة ما زالت تتردد حتى اليوم: "شبابنا الذين تحملون السلاح في الضفّة، لا تُطلِقوا رصاصكم في الهواء، إنّ هذا السلاح أمانة في أعناقكم، وواجب ديني وشرعي أن يتوجه إلى الاحتلال."
وربما من الواجب أن نقف قليلاً عند أسرى سجن جلبوع، لأنه حدث غير منفصل عن تشكيل الخلايا المقاومة في الضفة الغربية، وهو الحدث الذي دفع خلية جنين للإعلان عن تشكيلها بشكل رسمي في 7 أيلول 2021. ولعل الأسرى الستة، وأقدمهم محمود العارضة المعتقل منذ 1996، لم يعلموا أن ضوء الشمس الذي رأوه لأول مرة بعد سنوات السجن الطويلة بدون شبك وجدار أو حاجز، قد أزال الغمامة عن بصيرة مئات الشباب في الضفة الغربية، والذين شكلوا مجموعات مقاومة للدفاع عن الأسرى المنتزعين لحريتهم، ثم شقوا بعد ذلك طريقهم في الجهاد والنضال بنور الفكر الذي لمسوه بعد ذلك النفق، وكأن النفق كان انتزاع للحرية والوعي، الحرية لستة أسرى والوعي لجيل كامل.
نعود لكتيبة جنين، الكتيبة الأولى والأشهر في الضفة الغربية، والتي ضمت عناصر من مختلف الانتماءات، منها مجموعة لكتائب شهداء الأقصى أسسها الشهيد داود الزبيدي، شقيق زكريا الزبيدي أحد الأسرى الستة الذين انتزعوا حريتهم. وقد طورت الكتيبة أدواتها في القتال وأبرزها حفر الأنفاق، تلك التي لم تعتد الضفة الغربية على وجودها كما اعتادت غزة، كما طورت العبوات المتفجرة لتكسر أسطورة الجيش الذي لا يقهر بعد أن نجحت بقنابلها محلية الصنع بتفجير "مدرعة النمر" المدرعة التي تعتبر الأقوى والأحدث في جيش العدو في حينه.
على إثر ذلك التطور الكبير، بدأت قوات الاحتلال بشن معركة لاجتثاث المقاومة في جنين في عملية أطلقت المقاومة عليها اسم "معركة بأس جنين" وأطلق الاحتلال عليها "عملية بيت وحديقة"، وقد بدأت في تموز عام 2023، تخللها اغتيالات متكررة وقصف جوي واجتياح بري اعتبر الأقسى منذ اجتياح جنين عام 2002 في انتفاضة الأقصى، شمل نزوح وتدمير واسع للبنية التحتية. لكن اللافت، كان زيادة الحاضنة والدعم الشعبي للمقاومين، وقد تجلى أجملها بمنع التصوير داخل المخيم حماية لأبطال الكتيبة، كما نصب الأهالي شوادر وأقمشة لتسهيل حركة المقاومين في زقاق المخيم وحماية حركتهم من طائرات الاستطلاع.
قوة الأثر للكتائب المقاومة
ولم تكن كتيبة جنين وحيدة أو يتيمة، بل وَلَدَت فلسطين عشرات الكتائب المقاومة، تركزت معظمها في شمال فلسطين، وكان أشهرها عرين الأسود الذي تأسس على يد الشهيدين محمد العزيزي وعبد الرحمن صبح وانطلق بشكل رسمي في أيلول عام 2022 من حارة "الياسمينة" في قلب البلدة القديمة لمدينة نابلس. وتميز العرين بذات الفكر الجامع لكل الأحزاب السياسية، ما أكسبه ثقة الناس وحبهم، حتى صار الفلسطينيون يتناقلون بياناتهم، ينشدون أغاني باسمهم. وما أن يدعوا العرين للنفير حتى تردد كل زوايا فلسطين بالتهليل والتكبير.
وفي تطور مهم، انتقل مقاوموا العرين من الدفاع عن نابلس جراء اقتحامات جنود الاحتلال المستمرة إلى الهجوم على الحواجز ونصب الكمائن والتصدي للمستوطنين المقتحمين لقبر يوسف في المدينة، وقد تطورت قوتهم حتى نفذوا عمليات فدائية مشتركة مع كتائب أخرى مثل كتيبة جنين وكتية بلاطة وكتيبة عسكر. وقاموا بتنفيذ أول عملية إعدام لعميل في الميدان بشكل علني في الضفة منذ انتفاضة الأقصى عام 2000، وذلك بعد إخضاعه للتحقيق وتصوير اعترافه ونشره على الملأ.
وقد تميز العرين أيضاً بعروضه العسكرية، وتلك الشبرة الحمراء التي تغلق فوهات البنادق في حفلات التأبين وزفات الشهداء بمعنى ضمني أن "بنادقهم لا تطلق رصاصاتها إلا ضد المحتل"، كما تميز بخطاباته وبياناته الموجهة لشعب فلسطين، إذ جمعت البيانات بين شحن الناس نفسياً والوعد بحمايتهم ضد الاحتلال وبين الفخر بالصمود والمقاومة ونشر الإنجازات الميدانية بالصوت والصورة. وفي كل خطاب، كان العرين يوجه نداءه للشعب بكلمات تلامس القلوب وتشحنها، مثل بيانهم في الإضراب الشامل ضمن معركة طوفان الأقصى، والذي دعى له العرين ولبى الكل الفلسطيني النداء، قال فيه: "يا تاج رؤوسنا ونبض قلوبنا نحييكم ونحيي التزامكم الوطني الذي أبديتموه اليوم في الإضراب الشامل في كافة مناحي الحياة ونعود ونؤكد لا حياة طبيعية في الضفة الغربية وإخواننا مازالت أجسادهم مسجية تحت الأنقاض"
تضعف كتيبة فتحيا أخرى
بين كتيبة جنين وعرين الأسود، انطلقت كتيبة نابلس في أيار 2022، وكتيبة طوباس في تموز 2022، وكتيبة قباطيا في آب 2022، وكانوا كلهم تابعين لسرايا القدس الجناح العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي. وبعد انطلاق عرين الأسود، أزهرت عشرات المجموعات والكتائب المسلحة ذات الإنتماءات المختلفة في مناطق مختلفة في الضفة الغربية منها; برقين وجبع وبلاطة وعقبة جبر ويعبد والجلزون، وفي بعض المناطق انطلقت أكثر من مجموعة، فمع بداية عام 2023 شهدت طولكرم انطلاق كتيبتين بفارق شهر واحد، الكتيبة الأولى "كتيبة طولكرم – الرد السريع" ولدت على يد الشهيد أمير أبو خديجة في مدينة طولكرم، والكتيبة الثانية "كتيبة طولكرم – سرايا القدس" ولدت على يد الشهيد سيف أبو لبدة من مخيم نور الشمس الذي يقع أيضاً في طولكرم. وقد تلاحمت الكتيبتن على أرض الميدان في معارك مختلفة ضد الاحتلال الاسرائيلي، وشاركت كتائب أخرى في عمليات مشتركة، بل أن مؤسس الكتيبة الثانية الشهيد سيف أبو لبدة ارتبط بعلاقات قوية مع مجاهدي كتيبة جنين ومؤسسها جميل العموري، واستشهد في كمين للاحتلال على أرض جنين برفقة اثنين من مقاومي كتيبة جنين، هم صائب عباهرة وخليل طوالبة.
وبهدف القضاء على الكتبيتين، اجتاح الاحتلال المخيم مراراً حتى وصلت حصيلة المجازر المتتالية إلى 50 شهيداً من طولكرم خلال شهرين ونصف في العام 2023. لكن الكتائب أثبتت أنّ المقاومة لا تنتهي مع استشهاد مؤسسيها، بل تقوى وتتمدد، وما إن تضعف كتيبة حتى تحيا وتقوى كتيبة أخرى في منطقة ثانية.
وفي مثالٍ آخر، شهدت طوباس ثلاثة كتائب مقاومة، في مدينتها وريفها ومخيمها، أي في مدينة طوباس نفسها وبلدة طمون ومخيم الفارعة، وقد انطلقت الأولى في المدينة بتاريخ 17 تموز 2023، وبعد أقل من شهر واحد أعلنت كتيبة مخيم الفارعة عن انطلاقها رسمياً بتاريخ 7 آب 2023، وفي 6 كانون الأول 2023 ولدت الكتيبة الثالثة في طمون.
وقد ركزت الكتائب في عملياتها على إطلاق نار، ونصب الكمائن، وزرع العبوات، لتتحول الاقتحامات إلى معارك تتطلب من العدو مسيرات وسيارات عسكرية مصفحة تعلوها رشاشات آلية وجرافات عسكرية. وقد تلاحم مجاهدي طوباس مع الكتائب المقاومة في شمال الضفة الغربية مسطرين عمليات مشتركة في الدفاع والهجوم.
ولم يقتصر هذا التلاحم على كتيبتين أو ثلاث، بل إنّ كافة الكتائب تتوحد لتحمي ظهر بعضها لحظة العدوان، وهذا ما أعلنته الكتائب نفسها في بياناتها العسكرية التي أكدت فيها خوض ملاحم مشتركة على أرض الميدان، بل وتشاركت المعرفة وطريقة تطوير العبوات الناسفة والسرية بالعمل.
هذه التفاصيل تعكس عدة أمور، أهمها أن الكتائب المقاومة، والتي تنتمي لأحزاب مختلفة، قد وحدت جهودها ضد المحتل في الميدان رغم الانقسام على المستوى السياسي، فصححت البوصلة وترخت بطولات لم تشهدها الضفة الغربية منذ سنين تمتد لانتفاضة الأقصى عام 2000. والأمر الآخر، أن استشهاد قادة الكتائب ومؤسسيها لم ينهيها كما اعتقد الاحتلال بعد تفعيله لسياسة الإغتيالات، بل أن المقاومة اعتمدت على الاستمرارية في بناء الإنسان المقاوم الواعي لأهمية الكفاح المسلح، لا الإتكالي المعتمد على القائد الواحد، وهذا ما ساعدها في الانتشار والتطور.
وقد راحت بعض الكتائب لتشكيلات تنظيمية أكثر عمقاً، فشكلت أذرع لذات الكتائب في عدة مناطق، يتشاركون الخبرات والبيانات الموحدة، مثل شباب الثأر والتحرير، والتي أطلقت بيانها الأول بتاريخ 4 آذار 2023، تبعها إعلان للتعبئة العامة لمقاتليها وفدائييها في كل مكان. وتمتد المجموعة بفكرها لكتائب شهداء الأقصى الذراع العسكري لحركة فتح، ولها مجموعات في عدة أماكن منها جنين وبلاطة ونابلس وريف جبل النار.
ولم تقتصر مهمة واهتمام شباب الثأر والتحرير بصد اقتحام الجنود واستهداف المستوطنين، بل انخرطت في خدمة المواطنين اجتماعياً وتوزيع الصدقات والزكاة والأضاحي عن أرواح الشهداء الذين ارتقوا دفاعاً عن الوطن وروح قادتها ومقاتليها. ومن أبرز قادتها، القائد سعود الطيطي شقيق المؤسس القائد محمود الطيطي أحد مؤسسي كتائب شهداء الأقصى في الضفة الغربية، والشهيد القائد محمد أبو ذراع.
وفي تطور لافت عام 2023، أطلقة كتيبة العياش التابعة لكتائب القسام الذراع العسكري لحركة حماس، أول صاروخ تجريبي من غرب جنين باتجاه المستعمرات المحيطة في المنطقة. تلك الكتيبة التي انطلقت في أيار 2023، بثت فيديو يوثق إطلاق صاروخها الأول محلي الصنع باتجاه مستوطنة "شاكيد" في غلاف جنين بالضفة الغربية كبداية لنشاط الكتيبة في مجال المقاومة، واستمرت بقصف المستوطنات في غلاف جنين ومرج بن عامر بصواريخ من طراز "قسام 1."
طوفان الأقصى وكتائب المقاومة في الضفة الغربية!
لا يمكن أن نقول إنّ العمليات الفدائية في الضفة الغربية قد بدأت مع بداية الكتائب المقاومة، لأننا بذلك نقتل تاريخاً طويلاً من المقاومة في الضفة الغربية، تخللها عمليات فدائية فردية أو مزدوجة نفذها مقاومون انتقلوا من بلداتهم في الضفة الغربية إلى قلب المناطق المحتلة عام 1948 لتنفيذ عمليات نوعية دكت الاحتلال في معقله.
ولا يمكننا أيضاً القول إنّ الكتائب المقاومة في الضفة الغربية قد انطلقت مع طوفان الأقصى، لأن انطلاقها ومعاركها بدأت قبل الطوفان بعامين، لكنها كانت أرضاً خصبة جعلها تنخرط مباشرة في الطوفان لتقوى بقوة الحدث، وتلبي نداء المقاومة في غزة مؤمنة به منذ ساعاته الأولى، لتبدأ بياناتها التي أعلنت مباركة الطوفان والانخراط بالمعركة، ثم معاركها التي شكلت جبهة قاسية في شمال الضفة، نتج عنها عمليات اغتيال شرسة بالطائرات المسيرة والقصف لأعضاء ومؤسسي الكتائب المقاومة إضافة لفرض حصار وتنفيذ اقتحامات تخللها تخريب متعمد في البنى التحتية بالأماكن التي تتواجد فيها هذه الكتائب.
وفي خوف من تصاعد جبهة الضفة الغربية، ومع بدء حملات الانتقام من أبناء فلسطين في كل مكان في إثر الطوفان، فرضت قوات الاحتلال الإغلاق الشامل على الضفة الغربية، وشنت حملة اعتقالات واسعة طالت الآلاف من أبنائها، وعزلت المدن عن بعضها بحواجز عسكرية بل ونصب حواجز جديدة على مداخل البلدات وحولتها لسجن مفتوح، ثم أطلقت الضوء الأخضر لعصابات المستوطنين لاستكمال دورهم في الحرب النفسية والاعتداءات على الفلسطينيين. وقد وصل عدد الحواجز العسكرية التي نصبها الاحتلال بعد طوفان الأقصى إلى 140 حاجزاً عسكرياً ما رفع عدد الحواجز العسكرية لأكثر من 707 حاجزاً.
هذه الإجراءات المرافقة لمعركة طوفان الأقصى، إضافةً لمحاولات تجفيف منابع المقاومة في شمال الضفة الغربية زاد من صعوبة العمل المقاوم والتسليح، لكن نبع الكتائب المقاومة لم يتوقف، بل إنّ كل كتيبة تموت، تلد كتائب مشابهة لها بالفكرة في مكانها ومحيطها، وكأنها حبوب سنابل تناثرت ولا سبيل لملاحقتها واحدة واحدة. كما أن نوعية المقاومة وتطور الأدوات وبداية تشكيل الكتائب، انتقل بالضفة إلى مرحلة جديدة عززها طوفان الأقصى وقد جَبَّت معها ما قبلها من ضعف، ووحدت الانتماء للبندقية وبوصلة فوهتها، بل وزلزلت أمن الاحتلال وأمانه بعد أن اعتقد أنّ المستوطنات التي نصبها قد قطعت أوصال البلاد وأحكمت السيطرة على الفلسطينيين ومقاومتهم في الضفة.