ما بين تحرير جنوب لبنان و"طوفان الأقصى".. انهيار "الردع الإسرائيلي"
"انتصار عام 2000 أغلق بوابة زمن الهزائم، وفتح باب زمن الانتصارات"، هذا ما أكّده الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في كلمةٍ متلفزة له بمناسبة عيد المقاومة والتحرير، في أيّار/مايو 2019. مع أول ذكرى للتحرير في زمن "طوفان الأقصى"، هذه محاولة لقراءة أحوال المقاومة بين زمنين، وعدة انتصارات.
لم تتأخّر المقاومة في لبنان، في الانخراط في معركة "طوفان الأقصى"، وبعد يوم واحد من 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، كان على الاحتلال أن يفكّر في جبهتين مشتعلتين، قبل أن تنضمّ جبهات أخرى لاحقاً، لتساهم في مفاقمة إرباكه وتشتيت قدراته.
دخول المقاومة إلى المعركة كان محكوماً بنصرة غزة وشعبها ومقاومتها، وهو ما تؤكده خطابات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله دائماً، وكذلك بيانات المقاومة بشأن عملياتها ضد مواقع الاحتلال.
ولكن مشاركة المقاومة في المعركة انطلاقاً من جنوب لبنان، شكّلت في الوقت نفسه امتداداً لمسار طويل من الصراع بين المقاومة والاحتلال، بدأ مع التحرير الأول في العام 1985، ثم تحرير غالبية الأراضي اللبنانية المحتلة في الجنوب والبقاع الغربي عام 2000، ثم تكريس الردع في مواجهة عدوان تموز 2006، وصولاً إلى "طوفان الأقصى".
من هنا، تبدو العودة إلى الوراء لاستعادة ما حدث يوم 25 أيار/مايو 2000 وقبله، والتدبّر فيه، ضروريةً وغير متعارضة مع ضرورات المعركة، ويبقى الاحتفاء بهذا اليوم مشروعاً وواجباً، كما في كلّ عام.
"سيناريو يوم القيامة": الاختيار بين الكوليرا والطاعون!
"يوجد مخرّبون يتجهون جنوباً، مقتل جندي من جيش لبنان الجنوبي وجرح آخرين من جراء تفجير عبوة لحزب الله على بعد 6 كلم من هنا، عملية فرار جيش لبنان الجنوبي تتزايد، لقد هجروا برعشيت، شقيف النمل، بيت ياحون، وهناك هجمات جوية وتشخيص لمخرّبين، والآن تسقط برعشيت ومواقعنا في منطقة بنت جبيل، بيت ياحون، شقيف النمل".
هذه الكلمات التي ترد على ألسنة جنود الاحتلال داخل غرفة الإشارة التابعة لهم، يوم 23 أيار/مايو 2000 - ويوثّقها مقطع من فيلم وثائقي إسرائيلي أعاد الإعلام الحربي في المقاومة نشره اليوم - تلخّص حلماً كبيراً تحقّق، ولكنه، وإن كان كذلك عند من ينظر إلى المشهد من خارجه، فهو كان بالنسبة إلى المقاومة وأهلها هدفاً واقعياً ومنطقياً إذا ما اعتُمِدت في طلبه الآليات المناسبة، وبُذِلت في سبيله الجهود الصادقة.
والمقاومة التي راكمت قدراتها، وعزّزت قوتها، وسارت بثبات إلى الأمام، امتلكت ما هو أهم من القدرة والإمكانات، وهو القدرة على توظيف هذه القوة وتلك الإمكانات، والحكمة والذكاء في إدارتها وفق مجريات المعركة وحاجاتها.
هكذا، قرّرت المقاومة في السنوات الأخيرة قبل العام 2000 تزخيم عملياتها ضد مواقع الاحتلال، موقعةً المزيد من القتلى والجرحى بين جنوده وضباطه، ما أدى إلى نشوء حركة إسرائيلية اعتراضية على البقاء في جنوب لبنان هي حركة "الأمهات الأربع" عام 1997.
دعت هذه الحركة التي أنشأتها أمهات لأربع جنود قتلوا خلال عدوانهم على جنوب لبنان، إلى الإسراع في انسحاب "الجيش" الإسرائيلي من لبنان من دون قيد أو شرط، وقامت النساء الأربع بتنظيم تظاهرات وحملات توقيع على عرائض، وسرعان ما انضمّت آلاف الأمهات الإسرائيليات إلى الأمهات الأربع، حتى تحوّلت الحركة إلى أكبر حركة احتجاج في تاريخ كيان الاحتلال، وشكّلت عامل قلق حقيقي لدى حكومة الاحتلال، أضيف إلى القلق الذي تتسبّب به المقاومة يومياً.
المقاومة "الذكية" و"الحكيمة"، سرعان ما تلقّفت الموضوع واستثمرته، ففعّلت ما كانت تقوم به أصلاً من توثيقٍ لعملياتها ضدّ مواقع الاحتلال بالصوت والصورة، وشاهد الجمهور الإسرائيلي بأمّ العين مقتلة جنوده في "الشريط الحدودي" الذي أُنشِئ في الأساس بزعم حماية أمن الكيان، وبلغ عدد المواقع التي هاجمتها المقاومة في يوم واحد هو 29 نيسان/أبريل 2000، 26 موقعاً، بينها موقع عرمتى الذي تمّ تدميره بالكامل، وبدا للجميع أنّ كلفة البقاء أعلى من كلفة الانسحاب، وهو ما عبّرت عنه بأوجز وأفضل طريقة عبارة للوزير الإسرائيلي حاييم رامون: "كلّ قرار يرتبط بلبنان هو اختيار بين الطاعون والكوليرا، ونحن نفضّل الكوليرا لأنه يمكن معالجتها بعكس الطاعون، والبقاء في لبنان هو الطاعون".
ومع إدراك المقاومة باقتراب لحظة التحرير كثيراً، واستباقاً منها لأي محاولة إسرائيلية بتظهير الاندحار كما لو كان "إعادة انتشار"، بادرت المقاومة إلى استخدام ذكائها وحكمتها مجدداً، عبر تزخيم عملياتها في الأيام الأخيرة، كي يعرف القاصي والداني أنّ المحتل يرحل مدحوراً تحت النار، ويصل الأهالي إلى المواقع المحرّرة قبل أن تبرد أكواب الشاي التي أعدّها جنود الاحتلال لأنفسهم.
"رعب الشمال" يتفاقم: تكريس المعادلات تحت النار
وبعد سنوات على توازن الردع الذي كرّسته المقاومة في العام 2006، عادت المقاومة في لبنان من جديد إلى الميدان الذي لم تغادره يوماً، ميدان المواجهة المباشرة مع العدو الأصيل، من دون أن تتخلى عن أسلحتها، والأسلحة هنا ليست الصواريخ التي راكمت المقاومة منها في ترسانتها ما فاجأ الاحتلال وما سيفاجئه مستقبلاً، بل الجرأة والقوة بيد، والحكمة والتخطيط باليد الأخرى.
المفاجآت التي تكشف عنها المقاومة يومياً في ملحمة "طوفان الأقصى"، وفق برنامج مدروس بعناية، لم تصل حتى اليوم إلى نسبةٍ تُذكَر من إجمالي ما تملكه من حيث النوع. أما من حيث الكمّ، فمقارنة الهدف بالسلاح المستخدَم، في كل عملية، تكفي لاستنتاج ما استوعبته مخازن المقاومة في سنوات الاستعداد.
وهذا التقنين المدروس في استخدام القدرات والإمكانات المتاحة، وفي رفع وتيرة القتال، لم يمنع تحقيق جملة إنجازات للمرة الأولى، منها إفراغ الجليل من مستوطنيه للمرة الأولى لثمانية أشهر كاملة، واستهداف الأراضي المحتلة بغارة جوية للمرة الأولى منذ أكثر من 50 عاماً، وللمرة الأولى في التاريخ انطلاقاً من لبنان، بالإضافة إلى استخدام أسلحة نوعية تفاجأ الاحتلال بوجودها لدى المقاومة مثل صاروخ "ألماس" الموجّه بمنظومة توجيه إلكترو – بصري تتضمن مهدافاً حرارياً بحيث تطارد الهدف، حتى وإن كان متحركاً، وتستمر بمطاردته حتى تصيبه.
وبالانتقال من المعطيات إلى النتائج، تبدو العودة إلى وسائل الإعلام الإسرائيلية ضروريةً، لمعرفة ما يدور في كيان الاحتلال حول أهمية الجبهة التي فتحتها المقاومة في لبنان تحت عنوان نصرة غزة والدفاع عن لبنان وردع الاحتلال عن التفكير في أي حماقة.
الإقرار الإسرائيلي بالفشل في مواجهة المقاومة تمثّل باعترافه بعجزه عن إبعاد حزب الله إلى ما وراء الليطاني، وعجزه عن إيقاف ضربات المقاومة.
كما يمكن ملاحظة الإيقاع الذي فرضته المقاومة للمعركة وألزمت "جيش" الاحتلال به، من خلال تجنّبه توسيع عدوانه، وهي معادلة من مجموعة معادلات تفرضها المقاومة تحت النار، وفي عزّ الحرب - برغم صعوبة ذلك من الناحيتين النظرية والمنطقية - من دون انتظار انتهاء الحرب التي ستحمل حتماً مزيداً من التنازلات الإسرائيلية ومزيداً من الردع.
مشاركة المقاومة في "الطوفان": وحدة الساحات وتعدّد الأهداف
ولأن المقاومة "الذكية" و"الحكيمة" والقادرة، هي مقاومة واضحة وصريحة وصادقة أيضاً، فقد أعلن الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في كلمته أثناء الاحتفال التكريمي للرئيس الشهيد السيد إبراهيم رئيسي ورفاقه الشهداء، أن للمقاومة 3 عناوين رئيسية تنطلق منها في هذه الحرب.
وبحسب السيد نصر الله، فإنّ العنوان الأول هو إسناد غزة ومقاومتها الباسلة، لإيمانها بحقّانية هذه المعركة.
أما الهدف الثاني، لانخراط المقاومة في لبنان في معركة "طوفان الأقصى" بعد يوم واحد من انطلاقها، فيختصره السيد نصر الله بمنع أي عملية استباقية باتجاه لبنان من طرف الاحتلال الذي كان يُفكّر بذلك في 7 أكتوبر، وهو ما خرج إلى العلن لاحقاً مع تسريب ما حصل من نقاش داخل حكومة الاحتلال.
أما الهدف الثالث، فقد أتى بعد دخول المعركة، وهو ما أكده السيد نصر الله الذي أطلق يوماً شعار "تحويل التهديد إلى فرصة"، والهدف هو البحث لهذه المعركة عن نتائج وثمار على المستوى الوطني في ما يعني الأمن الوطني اللبناني، واستعادة الأرض المحتلة، والحفاظ على السيادة.
ويشير كلام السيد نصر الله بالإضافة إلى ضرورة إيقاف العدوان على غزة كهدف أساسي يتحكّم في مسار الجبهة المشتعلة، وإمكانية استثمار نتائج المعركة في تكريس الردع وتعزيزه على جبهة لبنان، إلى إدخال ما تبقّى من أراضٍ لبنانية محتلة وهي مزارع شبعا وتلال كفرشوبا في صلب النقاش بشأن أي تهدئة محتملة، استناداً إلى أوراق القوة التي تملكها المقاومة والتي اختبر الاحتلال بعضها منذ ثمانية أشهر وصولاً إلى اليوم.
قبل يومٍ واحد من الذكرى المجيدة لتحرير الجنوب والبقاع الغربي في العام 2000، جدّد السيد نصر الله، وبكلمات قليلة موجزة، عهده ووعده باستعادة لبنان ما تبقّى من أراضيه تحت الاحتلال، موحياً باقتراب تحقّق ذلك بهمة المقاومة ودماء شهدائها الذين ارتقوا ولا يزالون، نصرةً لغزة ودفاعاً عن لبنان، في آنٍ واحد.
زمن الانتصارات مستمر.. الحماقات تقابلها المفاجآت
تبقى الإشارة ضرورية إلى أن تزامن هذا التقرير مع أول ذكرى لتحرير الجنوب والبقاع الغربي في زمن طوفان الأقصى، فرض اقتصار موضوعه على هاتين المحطتين التاريخيتين دون غيرهما، ولكن الإنصاف يقتضي التذكير بمحطات أخرى طبعت تاريخ المقاومة وتاريخ لبنان الحديث، وفي طليعتها التصدّي البطولي لعدوان تموز 2006 الذي فرض الأمان في الجنوب على مدار 18 عاماً، والمشاركة النوعية في الدفاع عن سوريا في مواجهة العدوان التكفيري، وما راكمته من خبرات قتالية سيكون لها الأثر الأكبر في تظهير المفاجآت التي توعّد بها السيد نصر الله حكومة الاحتلال في حال انجرّت إلى خطوة حمقاء جديدة باتجاه لبنان.