كونفدرالية "تحالف دول الساحل".. هل "إيكواس" مهددة بالتفكك؟
في البيان الختامي لقمة نيامي، تم التطرق إلى ضرورة الدفاع عن السيادة السياسية والأمنية والاقتصادية لكونفدرالية دول الساحل، والتأكيد على القطيعة مع منظمة "إيكواس"، وطرح مقاربة كونفدرالية سيادية.
لم يكن قادة المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس"، المجتمعون في أبوجا في السابع تموز/يوليو الجاري، يعتقدون أن جمعهم سيلتئم، وقد ضرب التصدع العميق كيانهم الذي صمد نحو نصف قرن، وذلك بعدما أعلنت دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو الخروج نهائياً من المنظمة، والأسوأ من ذلك هو أن "كونفدرالية دول الساحل" الوليدة تقول في نص تأسيسها إن القضاء على المنظمات المصطنعة والعميلة على رأس أولوياتها.
خطابات اجتماع نيامي المدوية تردد صداها بعد يوم واحد في أبوجا.. منطقة الساحل وغرب أفريقيا لم تعد أبداً كما كانت، والمنطقة تبدو أنها تدشن مرحلة تاريخية جديدة، إيقاعها يضبط على ساعة التحولات الكبرى في العالم.
كونفدرالية دول الساحل.. بتوقيت التحولات الكبرى
شهدت منطقة الساحل وغرب أفريقيا العديد من التحولات السياسية والجيوسياسية منذ عقد الستينيات من القرن الماضي، لعل أبرزها تكرار الانقلابات العسكرية، وفي أكثر من بلد، بل إن بعض البلدان سجل أرقاماً قياسية في هذا السياق، وكان التدخل الغربي، وتحديداً الفرنسي في المشهد السياسي والأمني بشكل مباشر أو عن طريق الوكلاء، أزمة ثابتة في المنطقة.
لكن نقطة التحول الأبرز التي تتجه إلى أن تصبح منعطفاً تاريخياً في المنطقة كانت في آب/أغسطس 2020، وذلك بالانقلاب على الرئيس المالي إبراهيم أبو بكر كايتا، ووصول العقيد أسيمي غويتا إلى رئاسة المجلس العسكري في هذا البلد، بعدما شهدت البلاد بعض الأحداث الدراماتيكية، ثم انقلاب بوركينا فاسو بقيادة النقيب الشاب إبراهيم تراوري في أيلول/سبتمبر 2022، وأخيراً انقلاب النيجر في تموز/يوليو 2023.
موقف دول المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس" من الانقلابات الثلاثة اتسم بالتشدد المتدرج، وزاوج بين فرض القطيعة الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية في حالتي مالي وبوركينا فاسو، وصولاً إلى التلويح الجدي بالتدخل العسكري المباشر بعد إطاحة رئيس النيجر محمد بازوم. والأخطر أن قادة دول المنظمة لم يجدوا حرجاً في التساوق مع تهديدات فرنسية كانت أكثر حدة في رفع عصا العمل العسكري الفرنسي الأطلسي بالاستعانة بجيوش دول فاعلة في الإقليم.
ومع أن من الصعب الجزم بأن عاملاً بعينه هو من أحبط تحركات باريس لتفعيل القوى الخشنة لإعادة بازوم إلى سدة الحكم، لكن الثابت هو توحد مواقف مالي وبوركينا فاسو خلف المجلس العسكري في النيجر، والإعلان في أيلول/سبتمبر 2023 عن وثيقة "ليباتكو غورما" المكونة من 17 بنداً، من أهمها الإعلان عن تحالف عسكري بين الدول الثلاث لمواجهة أي عدوان خارجي، وكان هذا التحرك السريع من قبل قادة عسكريين يمسكون بزمام الحكم رسالة قوية إلى باريس بالدرجة الأولى، مفادها أن عليها التفكير مرتين قبل الإقدام على أي مغامرة عسكرية قد تجر كل المنطقة إلى حرب مدمرة.
وبالعودة إلى مسار تطور الأحداث، وبربطها بالنتائج على أرض الواقع، لجهة التحول في تأثير الفواعل الخارجية في معركة صراع الإرادات بين التحالف الوليد على أرضية ميثاق "ليباتكو غورما" ومجموعة "ايكواس" ومن خلفهم، أو ربما من أمامهم فرنسا، وبفحص التصريحات والمواقف على المستوى السياسي والعسكري، يمكن وضع التحركات الروسية تحديداً باعتبارها عاملاً مرجحاً للدول الثلاث، ليس عن طريق الانخراط المباشر في المعركة، إنما بالدعم السياسي والعسكري والاستخباراتي لقادة مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
وفي هذا السياق، يمكن التوقف عند خطاب رئيس المجلس العسكري في بوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري في قمة روسيا أفريقيا نهاية تموز/يوليو 2023، والذي وجه من خلاله انتقادات غير مسبوقة إلى الغرب عموماً، وفرنسا تحديداً، بل إن وسائل الإعلام الأفريقية اعتبرت أن تراوري تمثل من حيث الشكل والمضمون في هذا الخطاب روح المناضل التاريخي الأفريقي الخالد "سانكارا"، وتلكم كانت إشارة سياسية إلى أن القارة الأفريقية مقبلة على تغيير عميق وجذري يتجاوز الأحداث العابرة التي كانت تشهدها في بعض المراحل.
روسيا التي انخرطت لاحقاً في معركة التدافع الاستراتيجي في منطقة الساحل بشكل أكثر وضوحاً، سواء عن طريق دعم العمليات النوعية التي قام بها الجيش المالي في شمال البلاد صيف 2023 أو من خلال تعزيز التعاون العسكري، وخصوصاً الاستخباراتي مع المجلس العسكري في بوركينا فاسو، وذلك بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة لإطاحة النقيب إبراهيم تراوري في كانون الثاني/يناير 2024، مع الإشارة إلى أن اسم فرنسا ظهر في لائحة الاتهامات التي أعقبت هذه العملية، يمكن القول إن ظهورها الأقوى في ساحة التحول في منطقة الساحل كان في النيجر، وخصوصاً مع الظهور العلني للمستشارين العسكريين الروس في نيامي مطلع نيسان/أبريل الماضي، والذي تزامن مع قرار الأخيرة إنهاء التعاون العسكري مع واشنطن وإغلاق قواعدها في البلاد.
وهنا، وجب التنويه إلى تفصيل لا يمكن أن يكون قد حدث على سبيل الخطأ، وهو حرص قادة الجيش في النيجر على منح جانب من القواعد العسكرية الأميركية التي تم إخلاؤها إلى ضباط ومستشاري الجيش الروسي.
الحضور الروسي الحاسم
بعض المحللين والباحثين الذين يشتغلون على الصراع في منطقة الساحل يعتبرون أن عقد التحالف بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر ما كان ليتم، أو على الأقل ما كان ليكون بهذه القوة والجرأة في مواجهة "إيكواس"، لولا وجود دعم روسي قوي وحاسم.
هذا الطرح يجد من يحاججه أو يرفضه بالمطلق على قاعدة أن الديناميات السياسية والاجتماعية والثقافية، بل والحضارية، التي تشهدها منطقة الساحل وغرب أفريقيا من خلال تبلور رؤية سياسية وثقافية تعتبر أن المستعمر الغربي بجرائمه في الماضي وسيطرته وسطوته على مؤسسات صنع القرار في البلدان الأفريقية في الوقت الحالي هو السبب الرئيس في حالات التشظي السياسي والانهيار الاقتصادي والبؤس الاجتماعي التي تشهدها أغلب بلدان القارة السمراء، وهو المخاض الذي التقطته بذكاء وتنبه قوى جديدة وافدة على الساحة الأفريقية، ومن بينها موسكو، التي اختارت عن سابق خبرة ودراسة ملعبها الأقوى والأمثل للولوج إلى ساحة الصراع الجيوسياسي في المنطقة، وذلك عن طريق استدعاء تاريخ طويل من التعاون السياسي والعسكري بين بعض الدول الأفريقية والاتحاد السوفياتي السابق، سواء خلال حروب التحرر الوطني أو في مرحلة بناء جيوش هذه الدول عقب الاستقلال.
بين قمتي نيامي وأبوجا.. من يضبط إيقاع المنطقة؟
كان يمكن لقمة "نيامي" لتحالف دول الساحل في السادس من تموز/يوليو وقمة "أبوجا" في اليوم الموالي أن تكونا مجرد مشهد ساخن في مسار أحداث بدأت منذ آب/أغسطس 2020 بانقلاب مالي، وانتهت إلى إعلان طلاق بائن بين ثلاث دول وجسم سياسي واقتصادي انتمت إليه على مدار نصف قرن، وهو منظمة "إيكواس"، إلا أن الخطاب الذي ألقاه الجنرال عبد الرحمن تياني الذي استضافت بلاده القمة الأولى لكونفدرالية تحالف دول الساحل كشف أن الأمر يتجاوز ذلك بكثير، وذلك حين اعتبر أن اتحاد مالي والنيجر وبوركينا فاسو ليس مجرد تكتل إقليمي تنسيقي تشاوري، إنما هو في الجوهر عقيدة سياسية تتقاسمه شعوب الدول الثلاث. وقد طوى إلى غير رجعة حقبة منظمة "إيكواس" التي قال بشأنها إنها كيان مصطنع من طرف قوى أجنبية بهدف السيطرة على مقدرات منطقة الساحل وغرب أفريقيا.
في البيان الختامي لقمة نيامي، تم التطرق إلى ضرورة الدفاع عن السيادة السياسية والأمنية والاقتصادية لكونفدرالية دول الساحل، والتأكيد على القطيعة مع منظمة "إيكواس"، وطرح مقاربة كونفدرالية سيادية تبدأ بالتحالف العسكري وإنشاء برلمان وعملة موحدة وبنك إقليمي ولا تنتهي بتوحيد التحركات والتوجهات للسياسة الخارجية. هذا كله بعث إشارات حمراء إلى قاعة القادة المجتمعين في أبوجا في اليوم الموالي، لأن اللغة والرسائل الصادرة عن قادة الكيان الوليد في كونفدرالية تحالف دول الساحل أبعد ما تكون عن مجرد وضع قواعد اشتباك سياسي بين قوتين إقليميتين متنازعتين، وخصوصاً أن الفقرة الأخيرة من بيان قمة نيامي تحدثت صراحة عن إمكانية انضمام دول جديدة للكونفدرالية.
هذه الفقرة هي تحديداً ما جعل بعض قادة تحالف "إيكواس" أو ما تبقى من هذا التحالف يتحسسون كراسيهم، وخصوصاً أن استنساخ تجارب الانقلابات التي وقعت في مالي والنيجر وبوركينا فاسو داخل دول أخرى هو أمر وارد جداً في غرب أفريقيا وفي عموم القارة السمراء، لكن الجديد الآن هو أن "وصفة الانقلابات العابرة للأزمات"، وذلك عن طريق تقديم أولوية استكمال الاستقلال السياسي والاقتصادي قبل الإصلاحات السياسية الداخلية التي تم تطبيقها في تحالف دول الساحل، والتي صدّرت مشاهد ملهمة لقطاع واسع من الشعوب الأفريقية لجهة التعاطي مع الوجود الفرنسي التاريخي في المنطقة.. هذه الوصفة قد تغري قادة عسكريين أو ربما شخصيات مدنية لتبنيها في بلدانهم. وهنا، سنكون أمام المرحلة الثانية من هذا التحول التاريخي والمفصلي الذي يعصف بالقارة السمراء، وستصبح منظمة إيكواس مهددة بالمزيد من التشظي والانقسام.