فنزويلا تعيش لحظةً حاسمة
فيما توضّح الأحداث الجارية الآن في فنزويلا أن البلاد تعيش لحظة حاسمة في تحديد مستقبلها، ليس من الممكن تصوّر ما قد يحدث في الأيام القليلة المقبلة، على أن الحكم النهائي الذي سيصدر عن "محكمة العدل العليا" سيكون حاسماً في تحديد ما سيجري.
منذ شهر مضى والمجتمع الفنزويلي يمر بفترة حاسمة في تحديد مسار مستقبله. فاز الرئيس الحاليّ، نيكولاس مادورو، بالانتخابات الرئاسية التي عقدت في الـ 28 من يوليو الماضي، وحصل على نسبة 51.9% من الأصوات مقابل 43.1% لصالح إدموندو غونزاليس، منافسه الرئيسي ومرشّح المعارضة، بحسب النتائج الأخيرة التي نشرتها "الهيئة الوطنية للانتخابات" في فنزويلا. وبعد إعلان النتائج الأوّلية في الـ 29 من يوليو الماضي، أعلنت زعيمة المعارضة، ماريا ماتشادو، في مؤتمر جماهيري، رفضها الاعتراف بالنتائج الرسمية، وأعلنت فوز غونزاليس بالانتخابات لاستحواذه على 73% من الأصوات. وتبع ذلك فوضى عارمة في أنحاء البلاد وأحداث عنف قادها اليمين الفنزويلي، وخرجت بالتوازي مظاهرات مليونية لدعم الرئيس مادورو ورفض محاولة الانقلاب على نتائج الانتخابات.
وحسب البيانات التي أعلنها النائب العام، طارق صعب، أسفرت أحداث العنف التي قادها اليمين الفنزويلي في اليومين التاليين لإعلان نتائج الانتخابات عن مقتل 25 شخصاً وإصابة 192 آخرين، بالإضافة إلى تعرّض 21 مدرسة وجامعتين و10 مراكز انتخابية و10 مقرّات للحزب الاشتراكي الموحّد و11 مرفق لمترو الأنفاق وعدد من مكاتب العُمَد ببعض المدن إلى الهجوم، فضلاً عن إحراق عدد من حافلات النقل العام وسيارات الشرطة والاستيلاء على 15 دراجة نارية تابعة للأخيرة وتدمير 27 نصباً تذكارياً وتمثالاً. وفي السياق، وجِّهَت تهم جنائية متعددة ضد مسؤولين أغلبهم أعضاء في جماعة يمينية تعرف باسم "كومانديتوس"، وانتقد صعب "بعثة تقصّي الحقائق" الدولية لمحاولتها تجاوز دورها، مؤكداً أن التحقيق لا يزال ضمن اختصاص مكتب النائب العام الفنزويلي.
وواجهت البلاد منذ الإعلان عن النتائج الأوّلية للانتخابات الرئاسية هجمات سيبرانية كبيرة، استهدفت معظم مؤسسات الدولة وعلى رأسها "الهيئة الوطنية للانتخابات"، جاءت معظمها من الولايات المتحدة وفرنسا وبيرو وكولومبيا والإكوادور. وأفادت وزيرة العلوم والتكنولوجيا، غابرييلا خيمينيز، أن أكثر من 106 مؤسسة ووسيلة إعلامية تأثرت بفعل الهجمات التي وصلت أعدادها إلى 30 مليوناً في الدقيقة الواحدة خلال الفترة السابقة. ورداً على ذلك، وقَّع الرئيس مادورو الأسبوع الماضي مرسوماً يقضي بإنشاء "لجنة وطنية للأمن السيبراني". ويُذكر هنا أن "الهيئة الوطنية للانتخابات" لم تعلن حتى الآن النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية لأنها تعرّضَت على مدار الفترة السابقة إلى عدد كبير من تلك الهجمات السيبرانية.
وقد أعلنت رئيسة غرفة الانتخابات في "محكمة العدل العليا"، كاريسليا رودريغيز، أن "الهيئة الوطنية للانتخابات" بدأت بمراجعة السجلات والمواد المتعلقة بالانتخابات الرئاسية، وأنه من المتوقّع أن تستغرق عملية المراجعة التي بدأت في 5 أغسطس الجاري نحو 30 يوماً يليها إصدار حكم نهائي بشأن استئناف الدعوة التي قدمها الرئيس مادورو قبل أيام من بدء المراجعة. وفي السياق، تعمل "الجمعية الوطنية" الفنزويلية، بقيادة رئيسها خورخي رودريغيز، على طرح قانون "مكافحة الكراهية" لتنظيم وسائل التواصل الاجتماعي، ويقوم المشرّعون في إطار هذه الجهود لمكافحة الكراهية والإرهاب بمراجعة "قانون مراقبة نشاط وتمويل المنظمات غير الحكومية وغير الربحية"، وقد وافقت "الجمعية الوطنية" على مشروع القانون الأخير في مناقشته الثانية يوم الخميس الماضي.
ودعا الرئيس البرازيلي، لولا دا سيلفا، والرئيس الكولومبي، غوستافو بيترو، يوم الجمعة الماضية، إلى إقامة "حكومة ائتلافية انتقالية" في فنزويلا مع إجراء "انتخابات رئاسية جديدة" خلال الفترة المقبلة، واختار الرئيس المكسيكي، أندريس أوبرادور، انتظار القرار النهائي الخاص بمراجعة نتائج الانتخابات قبل اتخاذ أي موقف، وبينما أيَّد الرئيس الأميركي، جو بايدن، فكرة إجراء "انتخابات جديدة" في البداية، أوضح البيت الأبيض لاحقاً أن تعليقاته لم تكن إلّا "انتقاداً لشفافية مادورو". وبالمقابل، أعلنت كل من حكومة مادورو والمعارضة الفنزويلية، على حدٍ سواء، رفضهما دعوة دا سيلفا وبيترو، وبينما ينتظر مادورو نتائج تحقيق "محكمة العدل العليا" الجاري حول الانتخابات، ترى المعارضة الفنزويلية ذلك بمثابة عرقلة لـ "الانتقال السياسي"، مشددة على أن أي مفاوضات يجب أن تستند إلى نتائج الانتخابات "التي فاز فيها غونزاليس"، حسب ما تدّعيه.
وفي الوقت الذي أعلنت فيه المعارضة الفنزويلية نيتها تنظيم احتجاج جماهيري يوم أمس الأحد 18 أغسطس، قدَّم الحزب الاشتراكي الموحّد دعوة إلى أنصاره والتشافيزيين والنقابات العمّالية والفلاحية بالتظاهر في الشوارع في اليوم نفسه رداً على دعوة المعارضة. استطاع الحزب الاشتراكي الموحّد، أمس الأحد، إقامة تعبئة واسعة النطاق في مختلف أنحاء البلاد لدعم الرئيس مادورو ورفض الانقلاب عليه، ونظَّم الحزب عدد من المسيرات في أكثر من 100 مدينة، بلغت ذروتها عند قصر ميرافلوريس الرئاسي في العاصمة كاراكاس، بينما لم تجذب مظاهرة المعارضة في شرق كاراكاس بقيادة ماريا ماتشادو سوى أقل من 2000 متظاهر حسب الفيديوهات والصور المنشورة، على الرغم من ادعاءات وسائل الإعلام المبالغ فيها. وفي السياق، أدان الحزب الاشتراكي الموحّد مظاهرة اليمين مشيراً إلى أنها "تستهدف تضليل الرأي العام الدولي بشأن القوّة السياسية للبلاد"، واتهم ديوسدادو كابيلو، النائب الأول لرئيس الحزب، قوى اليمين بالسعي للتحريض على العنف وزعزعة استقرار البلاد.
وفيما توضّح الأحداث الجارية الآن في فنزويلا أن البلاد تعيش لحظة حاسمة في تحديد مستقبلها، ليس من الممكن تصوّر ما قد يحدث في الأيام القليلة المقبلة، على أن الحكم النهائي الذي سيصدر عن "محكمة العدل العليا" بخصوص مراجعة الانتخابات الرئاسية سيكون حاسماً في تحديد ما سيجري. إن الدعوة إلى إعادة الانتخابات الرئاسية، أو عقد انتخابات جديدة كما يقترح دا سيلفا وبيترو، تعني أصلاً أن نتائج الانتخابات مزوّرة، وذلك من دون تقديم أي دليل، غير أن حدوث ذلك يتماشى مع المصالح الجيوسياسية للولايات المتحدة، بالرغم من رفض اليمين الفنزويلي لهذه الدعوة.
من غير المرجَّح أبداً أن تقبل المعارضة الفنزويلية بالحكم الذي سيصدر عن "محكمة العدل العليا" أيّاً ما كان، وهذا ما يتضح من رفضها إقامة انتخابات رئاسية جديدة، ومن غير المرجَّح أيضاً أن تقبل الولايات المتحدة، التي يعتمد موقفها من الانتخابات على قرار المكسيك والبرازيل وكولومبيا حسب بيانات وزارة خارجيتها، بحكم المحكمة إذا ما أيَّد فوز مادورو، بصرف النظر عن الموقف الأخير للبرازيل وكولومبيا، وبصرف النظر أيضاً عن احتمال تغيُّر ذلك الموقف مع إعلان الحُكم بعد انتهاء التحقيق. في الواقع، قد تؤول الأمور إلى ما هو أسوء إذا حكمت المحكمة بتأييد التحقيق الجاري لفوز مادورو بالانتخابات الرئاسية، وليس من المستبعد أن يلجأ اليمين الفنزويلي، لا إلى أحداث عنف وفوضى جديدة، وإنما إلى محاولة اغتيال مادورو مجدداً.