تونس وإنتاج الهيدروجين الأخضر: تفاؤل بالاستثمارات وتوجس من الغرب وتوجهاته
تونس توقع خلال أسبوع واحد اتفاقيتين لإنتاج الهيدروجين الأخضر. وبينما يرحب البعض بالاستثمارات الجديدة، يرفضها البعض الآخر، ويرى آخرون ضرورة ضمان حقوق البلاد وأهلها.
تتسابق دول العالم، ولا سيما الصين والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وحتى بعض دول الخليج العربية، لتكون بين البلدان الرائدة في مجال إنتاج الهيدروجين الأخضر خلال العقود المقبلة.
هذه التقنية الحديثة في مجال إنتاج الطاقة النظيفة يهدف استخدامها إلى التخلي تدريجياً عن إنتاج الطاقة من الوقود الأحفوري، والانطلاق في توليدها من المياه العذبة، عبر سحب ذرات الهيدروجين من المياه أو من الغاز بواسطة عملية تحسين غاز الميثان ومنع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
تعتمد هذه العمليات التقنية المعقدة على الطاقات المتجددة، كالطاقة الشمسية والرياح، وهي عمليات مكلفة مالياً وتقنياً، بما أن تكلفتها تفوق بأربعة أضعاف تكاليف إنتاج "الهيدروجين الرمادي"، وهي التسمية التي تطلق على الهيدروجين الملوث الذي لا يزال يسيطر على أكثر من 90% من إنتاج الطاقة في العالم، وهو المتسبب الرئيسي في الاحتباس الحراري.
تقوم أوروبا والولايات المتحدة بإنفاق مليارات الدولارات على شكل دعم مباشر وإعفاءات ضريبية للتشجيع على الانتقال إلى هذا النوع من الطاقة. وفي هذا الإطار، تنظر أوروبا إلى تونس كقاعدة مفترضة لتوطين البنية التحتية اللازمة لإنتاج الهيدروجين الأخضر.
وخلال أسبوع واحد، وقّعت تونس اتفاقيتين في هذا المجال؛ الأولى مع مجمع الشركات الفرنسية والنمساوية "توتال للطاقات" و"فاربوند". تهدف هذه الاتفاقية إلى تركيز مشروع ينتج 200 ألف طن من الهيدروجين الأخضر في مرحلة أولى مع تركيز 5 جيغاواط من الطاقات المتجددة بحلول عام 2030، على أن تصل الطاقة الإنتاجية في المرحلة النهائية من المشروع إلى مليون طن سنوياً، وهو مشروع ضخم تبلغ قيمته، بحسب الحكومة التونسية، 8 مليار يورو في المرحلة الأولى، و40 ملياراً في مرحلته النهائية.
الاتفاقية الثانية وقّعت مع المملكة العربية السعودية، ممثلة بشركة "أكوا باور"، وتهدف إلى توطين هذا النوع من التكنولوجيا، إذ قال مدير الشركة السعودية إثر توقيع الاتفاقية "إن تونس تزخر بخصائص طبيعية ملائمة"، في إشارة إلى الشمس والموقع الجغرافي القريب من أوروبا.
وبحسب مراقبين، فإن توطين هذه التكنولوجيا الحديثة لإنتاج الهيدروجين الأخضر في تونس وتحول تونس إلى بلد منتج لهذا النوع من الطاقة هما خطوة إيجابية من الناحية النظرية، ولكن الإعلان عن هذه الاتفاقيات لم يقابل باطمئنان من قبل المختصين والسياسيين.
تونس وشكوك حول الاستغلال الغربي لأفريقيا
اكتوت دول الجنوب طيلة العقود الماضية بسرقة ثرواتها من قبل دول الشمال، وأفريقيا هي المثال الحي على الاستغلال الغربي، إذ قام الغرب بصرف الأموال لإنشاء منصات استخراج النفط والغاز واليورانيوم وبقية المعادن والثروات من أجل تحويلها إلى أوروبا والولايات المتحدة، فيما لم تستفد الدول الأفريقية بشكل خاص من هذه الثروات التي تصدّر بأبخس الأثمان.
من هذا المنطلق، أثيرت الشكوك حول صرف الشركات الغربية لكل هذه الأموال من أجل إنشاء محطات إنتاج الطاقة النظيفة. ومن هذه الشكوك: ألا يتطلب إنتاج هذه الطاقة كميات كبيرة من المياه العذبة؟ ألا توجد أضرار جانبية في صورة تسرب الهيدروجين؟ لماذا لا تقوم أوروبا بتركيز المحطات على أراضيها ما دامت تملك التكنولوجيا والإمكانات المالية الضخمة؟
كلها أسئلة طرحها المهتمون بالشأن العام في تونس. يقول الناطق باسم "التيار الشعبي"، محسن النابتي، وهو الحزب الذي يضع السيادة الوطنية ضمن أولى اهتماماته: "علينا الإجابة بوضوح ضمن خطة وطنية: هل الأولوية تلبية حاجيات السوق الأوروبية فقط أم تلبية حاجيات البلاد من الطاقة النظيفة؟".
وعلى الرغم من أنه يبدو ظاهرياً أن إنتاج الهيدروجين الأخضر سيحد من التلوث، فإن الآثار الجانبية لهذه التقنية لا تزال محل دراسة من قبل الباحثين والناشطين؛ ففي تونس، تقول الباحثة في مجال الطاقة ليلى الرياحي إن إنتاج الهيدروجين الأخضر من المياه الجوفية لا يمكن أن يكون إلا استنزافاً للثروة المائية التي تعاني شحاً متزايداً، وحتى استعمال تقنية تحلية مياه البحر لا تخلو من مخاطر تهدد الأجيال القادمة، فتحلية مياه البحر بكميات معقولة من أجل الاستعمال البشري لن تكون لها تداعيات بيئية خطيرة، ولكن أن تتم تحلية مياه البحر بكميات كبيرة جداً بغرض إنتاج الهيدروجين الأخضر، فحينها ستكون هناك عواقب وخيمة تبدأ بالظهور بعد سنوات، إذ إن تدفق المياه شديدة الملوحة إلى البحر يهدد التوازن البيئي والحياة البحرية.
إن تسابق دول الشمال لتركيز محطات إنتاج الهيدروجين الأخضر في دول الجنوب جعل المدافعين عن السيادة الوطنية يدعون إلى التفكير ملياً، حتى لا يعيد الغرب عقود استغلاله لأفريقيا وللشعوب المستضعفة، فليس من المسموح اليوم أن تقبل هذه الشعوب بأن يعيد التاريخ نفسه، بحسب هؤلاء المدافعين عن السيادة.
وبعدما استنفد الغرب ثروات أفريقيا الباطنية، ها هو اليوم يتحول لاستغلال شمسها ورياحها وبحارها. هنا، يقول البعض: لا ضير في توطين هذه التكنولوجيا الحديثة وإنتاج الطاقات النظيفة، ولكن ذلك لن يكون على حساب الأهالي ومستقبل أراضيهم وبحارهم، فالخشية تتزايد اليوم من كون أوروبا تعتم على دراسات موثوقة تتعلق بالتأثيرات بعيدة المدى في الدول التي تتم عمليات الإنتاج على أراضيها.
وكثيرة هي التجارب السابقة التي أثبتت أن الغرب لا يولي أهمية للسكان المحليين، وخصوصاً في ما يتعلق بمخاطر بعض الصناعات التحويلية الملوثة، في تكريسٍ للتقسيم العالمي للعمل، إذ تصدّر دول الشمال التكنولوجيا، فيما تمدها دول الجنوب بالمواد الأولية واليد العاملة الرخيصة وتوفير الأرض والمياه وتحمّل التبعات البيئية والاجتماعية.
بالنسبة إلى تونس، فالدولة تسير بنسق حثيث في اتجاه الانخراط في هذا التوجه العالمي، شأنها في ذلك شأن عدد من الدول العربية، وخصوصاً الخليجية منها، ولكن الفرق بين هذه الدول وتونس هي أن هذه البلدان الخليجية، كالإمارات والسعودية وعمان وقطر، تملك إمكانات مالية هائلة لتوطين التكنولوجيا الحديثة لإنتاج الهيدروجين الأخضر، وبالتالي لديها القدرة على إنجاز مشاريع متكاملة تلبي حاجياتها هي فقط، فيما في الحالة التونسية والدول التي تماثلها لجهة الإمكانات المادية، فالمشاريع ستكون كما يرغب الممول، ووفقاً لحاجياته، وما على تونس إلا توفير الأرضية.
ولا شك في أن هناك أصواتاً مرحبة بهذه التكنولوجيا في مقابل الرافضين لها، لكن بين هؤلاء وهؤلاء يوجد حالة وسط يتحدث أصحابها عن ضرورة أن تكون المعاملة مع دول الغرب قائمة على الندية، فمرحباً بالمشاريع التي يتم من خلالها التعامل مع البشر والشعوب على أساس المساواة، وأن يتم تقاسم الأرباح والخسائر، إن وجدت، ولا سبيل لإعادة أخطاء الماضي عبر السماح للغرب باستعمالنا كحدائق خلفية لنشر الضرر في أراضينا وحصده المغانم والأرباح!