ترامب وقبّعة الشرطي الوطني.. استغلال هواجس الرجل الأبيض
يلاحق ترامب ما يميّز هاريس في السباق الحالي، مراعاة الدور الاجتماعي للدولة والبُعد "الشعبي" للبرامج السياسية، لكن عبر مخاطبة الطبقة العاملة البيضاء تحديداً، واستخدام منافسة المهاجرين لها في سوق العمل، بصفتهم أيدي عاملة رخيصة.
على خلفية مشهد سيارة شرطة أميركية تقليدية، يقف حوله ضباط، في ولاية ميشيغان، ألقى دونالد ترامب، الرئيس السابق ومرشح الحزب الجمهوري، كلمة موجهة - في الشكل - إلى قوات إنفاذ القانون، لكنّ مضمونها استهدف كل مواطن أميركي أبيض، في سياق حملته الانتخابية، التي تسعى لسد ثُغَر خطابه السياسي، واستغلال ثُغر خصمته المحتملة، كامالا هاريس، من الحزب الديمقراطي.
"إنهم يرسلون المجرمين إلى الولايات المتحدة، وتصبح معدلات الجريمة في بلدانهم أقل"، هكذا صاح ترامب، قاصداً المهاجرين. وقال إن البلاد تشهد ارتفاعاً غير مسبوق في معدلات الجريمة، التي باتت خارج السيطرة، وفق قوله، مؤكداً أن هدف كلمته "وقف موجة الجرائم التي سببتها الرفيقة كامالا"، ووصفها بأنها "أكثر يسارية راديكالية ترشّحت للمنصب، كونها متطرفة يسارياً أكثر مما يتخيل الجميع"، ملمحاً إلى خلفيتها العائلية، ابنةً لأستاذ ماركسي في الجامعة. لم يكن حديثه مرسلاً، ودعّمه في مطلع الكلمة بإحصاءات حكومية، أظهرت ارتفاعاً نسبته 43% لمعدلات الجريمة إجمالاً، و56% لجرائم السرقة، و58% للاغتصاب، منذ تولي هاريس وبايدن رأس السلطة التنفيذية.
من هنا، هاجم الرئيس السابق شعار - وسياسات - تقليل الإنفاق على الشرطة، أحد معالم خطاب الحزب الديمقراطي، والذي يطرح توجيه الأموال إلى إجراءات أمنية غير شرطية،الأمر الذي يترك أثراً سلبياً ملموساً في تلك الشريحة من المجتمع الأميركي: ضباط الشرطة الذين ارتبطت الصورة الذهنية عنهم، في الأعوام الماضية، بالعنصرية، وخصوصاً بعد مقتل جورج فلويد، المواطن الأميركي الأفريقي، على يد شرطي أبيض، وهو الأمر الذي فجّر احتجاجات انخرط فيها وتعاطف معها جمهور الديمقراطيين، فاستخدمت كلمة ترامب الدفاع عن مصالح الشرطيين مدخلاً للتهويل بشأن ملف الأمن (إجمالاً)، كونه يمثل فشلاً كبيراً للحزب المنافس، وربطته بقضية المهاجرين واللاجئين وخطورة التساهل معهم، في معادلة تستميل القاعدة التصويتية الأوسع للجمهوريين، المواطنين البيض التقليديين ذوي الميل المحافظ،و المؤمنين بأهمية دور الأجهزة الأمنية والجيش وخطورة تزايد المهاجرين.
كما تحاول هاريس احتواء اتهامها بالميل إلى اليسار، بإعادة تعريفه بصفته انحيازاً إلى الطبقة الوسطى، والاعتراف بـ"انحيازها" إلى الأعمال الصغيرة وذوي الدخل الثابت، في كلمتها الانتخابية الأخيرة، حاولت كلمة ترامب، يوم الثلاثاء، احتواء اتهامه (الصحيح منطقياً) بتشجيع العنف وقسوة الشرطة وبيع الأسلحة الخفيفة، عبر إعادة تعريفه، بصفته وقاية لأمن المجتمع واستقراره. لذلك، ركّزت الكلمة كثيراً على أن مساءلة أساليب الشرطة وصرامتها، في حضورها اليومي في الشارع، وتقليل الإنفاق عليها، يرفعان عنها الحماية اللازمة لسلطة تنفّذ القانون، ويعوّقان أداء واجباتها التي تزداد أهمية مع ارتفاع عدد المهاجرين "غير الشرعيين". وفصّلت عدداً من الجرائم البشعة التي ارتكبوها، إلى حدّ إعطائهم صورة الوحوش عملياً، في مبالغة مقصودة لا تُقِيم اعتباراً، مثلاً، للنوع والكمّ نفسيهما من الجرائم التي يرتكبها أميركيون غير مهاجرين ولا أبناء مهاجرين.
كان الأهم أن يداعب ترامب هواجسَ الرجل الأبيض، أحد أهم مكونات الموجة اليمينية التي أوصلته إلى الحكم، وألا ينفي تهمة "الحسم الأمني"، بل يَعُدّها استجابة طبيعية لتهديد ملموس. من هنا، جاء تقليل موازنة الشرطة "كارثةً" حذّر من أثرها، كما انتقد عدم استخدام معدّات حديثة لم تغادر المخازن، على رغم تكلفة شرائها بملايين الدولارات. وذهب إلى الأبعد، مطالباً بحماية رجال الشرطة، الذين يؤدون "عملاً رائعاً" يجب تشجيعه، لا المطالبة بتهذيبه. وكانت الجرائم المذكورة فرصة في سدّ إحدى ثُغَر خطابه، والتي يستغلّها الديمقراطيون، وهي "احتقار المرأة" والتهوين من شأنها، فركّز على مكافحة جرائم الاغتصاب تحديداً، وقال إن سياساته في ملف الهجرة تعني، بعكس الاتهام الموجه إليه، اهتمامه بجعل النساء أكثر أماناً، مذكّراً بأنه منع في عهده دخول أي مهاجر من دون تدقيق أمني، وأمر بترحيل مرتكبي الجرائم، ولاسيما الاغتصاب.
على الوتر نفسه عزف ترامب لحنه المفضّل: مبدأ "القوة"، مركزاً على حالة المكسيك، الدولة المحاذية، والتي تسرّب آلاف المهاجرين غير الشرعيين، ووعد باستكمال سياسة الجدار العازل، والتي أوقفتها إدارة بايدن، وسمحت بدخول هؤلاء من دون تدقيق أمني كافٍ. نموذج مضمون أثره للـ"خطر" القريب بمعنى الكلمة، جغرافياً، والمهدِّد لاستقرار أميركا ورخائها ونمط حياتها، في تصورات الرجل الأبيض وثقافته، أعطاه فرصة التباهي في تهديد الرئيس المكسيكي سابقاً، وإجباره على تنفيذ إجراءات تمنع دخول مواطنيه للبلاد، في مقابل تهاون الإدارة الحالية في السياق نفسه، وامتناعها عن استخدام القوة والنفوذ وفق النمط نفسه لهذا الغرض. ولم يفته تكرار ما اعتاد روايته من سيناريوهات لمكالمات مع رؤساء دول، يهددهم فيها فيخضعون فوراً، مثل السعودية وفرنسا، وربَط أسلوبه هذا بما حدث في أفغانستان، حين انسحب الجيش الأمبركي بصورة فوضوية ومهينة لمصلحة طالبان، ما لم يكن ليحدث في عهده، الذي لا يسمح بأي ضعف في العلاقات الدولية.
لم يمنع كل ما سبق ترامب من الاعتراف بحقيقة ملموسة، هي احتياج أميركا إلى المهاجرين، نافياً رغبته في طردهم جميعاً، بشرط التدقيق الأمني، من دون أن يذكر السبب الجوهري: السوق المحلية بالمعنى الواقعي، والتي تنقصها العمالة الرخيصة إجمالاً، ويزيد أهميتها أحد جوانب برنامج ترامب نفسه، وهو دعم الصناعات الثقيلة كثيفة العمالة وتوسيع الصادرات، على النمط الاقتصادي الرأسمالي (الكلاسيكي نسبيا) في مواجهة النمط الأحدث، المعولم، والذي يفضله الديمقراطيون. من هنا، يلاحق ترامب ما يميّز هاريس في السباق الحالي، مراعاة الدور الاجتماعي للدولة والبُعد "الشعبي" للبرامج السياسية، لكن عبر مخاطبة الطبقة العاملة البيضاء تحديداً، واستخدام منافسة المهاجرين لها في سوق العمل، بصفتهم أيدي عاملة رخيصة. ولعل ذلك ما جعله - في الكلمة نفسها - يتّهم إدارة بايدن بالتلاعب في إحصاء نسبة البطالة.
يتمثّل مأزق ترامب الحالي بإنتاج خطاب سياسي وخطاب اقتصادي يجمعان عوامل متناقضة، مثل مغازلة الطبقات الأفقر، مع تشجيع احتكارات بعينها، واللعب على مخاوف الأغلبية البيضاء وجمهور المحافظين، مع كسب أصوات الملونين وذوي الأصول الأجنبية، والتحريض على المهاجرين، مع استغلال كونهم أيدي عاملة أرخص. وفي المشهد العام، الذي بات يطغى عليه نقاش الاقتصاد ونسبة التضخم والبُعد المعيشي، تبدو إقامة توازن بين مصالح الرأسمالية المحلية والرأسمالية العالمية مهمة مستحيلة من دون تدخّل أعلى للدولة في الاقتصاد، وهو ما يرفضه. ويبدو إقناع الكادحين بأهمية مواجهة الصين اقتصادياً وطرد المهاجرين، لمصلحهتم، مخالفاً لأحد أسس سياسة ترامب بشأن تخفيض الدعم والمساعدات لغير القادرين.