بوليفيا تتحوّط من انقلاب آخر.. آرسي يقترح تغييرات كبيرة في الجيش
الرئيس البوليفي، لويس آرسي، يقترح في خطاب بمناسبة ذكرى تأسيس القوات المسلحة البوليفية، تغييرات في القوّات المسلّحة مفادها "تحوّل عميقْ، يشمل تحديد أهداف مؤسساتية جديدة ووضع استراتيجية ورؤية للمستقبل، على المدى القصير والمتوسّط والطويل".. كيف يُقرأ هذا الخطاب في ظل محاولة الانقلاب الفاشلة ضد آرسي؟ وكيف تساهم في رسم المشهد في بوليفيا لسنوات مقبلة؟
وسط مدينة ترينيداد الأمازونية، في قلب مقاطعة بيني، شمال شرق بوليفيا، ألقى الرئيس البوليفي، لويس آرسي، ظهر الأربعاء الماضي، خطاباً مطوّلاً بمناسبة الذكرى الـ199 لتأسيس القوّات المسلّحة البوليفية، ذكّر فيه بمحاولات الانقلاب التي جرت منذ عام 2019، وآخرها محاولة الانقلاب عليه منذ أقلّ من شهرين، وتناول تاريخ القوّات المسلّحة ودورها في الحفاظ على أمن البلاد والدفاع عن مواطنيها منذ تأسيسها في الـ7 من آب/أغسطس 1825 مع إعلان استقلال البلاد عن الاستعمار الإسباني، واقترح توجيهاً استراتيجياً جديداً للبلاد يشمل تحديث العقيدة العسكرية للجيش الوطني، وسط حضور عسكري قويّ ونشاطات احتفالية أخرى.
تحوّل عميق.. أهداف جديدة، ورؤية للمستقبل
أكد آرسي في خطابه على ضرورة إجراء تغييرات عديدة في القوّات المسلّحة، بهدف تجنُّب الوقوع في مأزق مماثل لمحاولة الانقلاب الفاشلة التي تعرض لها في 26 حزيران/يونيو الماضي. قائلاً "في الآونة الأخيرة، كانت هناك لحظتان حرجتان تشتت فيهما البلاد وهوجمت الديمقراطية بواسطة عدد قليل من الجنود الذين أغرتهم مصالحهم الشخصية وأقسامٌ من السلطة".
وأشار إلى أن "منطق المواجهة" الذي شجعته أقسامٌ من السلطة "استهدف هدم النظام الديمقراطي في عامي 2019 و2024"، مؤكداً أنه "من الضروري العثور على حلولٍ لمنع تكرار لحظات الأزمة هذه"، وبهذه الطريقة "يمكننا المُضي قُدماً بثبات في نموذجنا للدولة المتعددة القوميات ونظام الحكم الديمقراطي، حيث يكون للقوّات المسلّحة دورها الخاص".
وأكَّد آرسي أن التغييرات التي يقترحها للقوّات المسلّحة مفادها "تحوّل عميقْ، يشمل تحديد أهداف مؤسساتية جديدة ووضع استراتيجية ورؤية للمستقبل، على المدى القصير والمتوسّط والطويل، مشدداً على أنه "يجب على مؤسستنا وضع إجراءاتها بشفافية وضمن إطار مكافحة الفساد، وعليها أن تحترم حقوق الإنسان وتعمل على تعزيز المساواة بين الجنسين داخل صفوفها".
وفي هذا الإطار، رأى الرئيس البوليفي أن بلاده "تحتاج إلى أفراد عسكريين يتمتعون بالكفاءة في العلوم والفنون العسكرية"، ولهذا السبب، أكَّد على "إنقاذ العناصر الأساسية التي تصنع الاحتراف العسكري من خلال برامج التدريب، التي تجعل الأفراد في جميع مستويات القيادة على دراية بمسؤوليتهم تجاه مؤسستهم والناس الذين أقسموا لهم بالدفاع عنهم".
وأشار آرسي إلى أن التحوّل العميق للمؤسسة العسكرية يشمل وضع "إطار قانوني جديد" يتماشى مع "الدستور المعمول به منذ عام 2009"، مؤكداً أنّ الحكومة ستضع "أجندة عمل ديمقراطي" مع مختلف مؤسسات الدولة لتحقيق هذا التحوّل.
وفي السياق، رأى أنه "ما زال التدخل الأجنبي يؤثر في القوّات المسلّحة وله آثاره عليها، خاصة في تدريب الأفراد العسكريين قبل التخرّج وبعده" بموجب مبادئ توجيهية تفرضها الولايات المتحدة على أميركا اللاتينية، ولهذا السبب من الضروري "صياغة وتحديث العقيدة العسكرية، وأن تُشيِّد مؤسستنا هويتها الخاصة"، والهدف من ذلك أن تتحول القوّات المسلّحة البوليفية إلى "جيش حديث، ومِهَنيّ، يلتزم بالوقوف إلى جوار الديمقراطية ويُعززها".
التحوّط من الانقلابات
تعيش بوليفيا اليوم لحظات تاريخية حاسمة في تقرير مصيرها لنصف قرنٍ على الأقل، كما هو حال جارتها فنزويلا، التي انتخبت مؤخراً نيكولاس مادورو لتضمن فترة تمتد حتى مستهل العقد المقبل تُمكِّنها من تحديد مسار البلاد لنصف قرن على الأقل.
ولكن مسألة حَسم المستقبل في بوليفيا أكثر صعوبة مما هي عليه في فنزويلا، لأن المعارضة في الأولى أكثر قوّة وتنظيماً وحاضرة بشكل فعّال في مؤسسات الدولة، بينما المعارضة في الثانية أضعف قليلاً، وليس لها وجود فعّال في مؤسسات الدولة، غير أن الحزب الحاكم في الأولى يعاني من انقسامات داخلية على عكس الحزب الحاكم في الثانية، والذي استطاع مؤخراً لجم انقساماته والتوحّد في سبيل إنزال الهزيمة بالمعارضة في الانتخابات الأخيرة.
ضمن الجمعية التشريعية متعددة القوميات في بوليفيا، يحوز حزب "الحركة نحو الاشتراكية" الحاكم 21 مقعداً في مجلس الشيوخ، و75 مقعداً في مجلس النوّاب، بينما يحوز تحالف "المجتمع المدني" اليميني 11 مقعداً في مجلس الشيوخ، و39 مقعداً في مجلس النوّاب، ويحوز تحالف "كريموس" اليميني المتطرف 4 مقاعد في مجلس الشيوخ، و16 مقعداً في مجلس النوّاب.
وتتخذ المعارضة من مقاطعة سانتا كروز، وهي الأكبر في البلاد، مقرّاً أساسياً لها حيث تحوذ شعبية واسعة خلافاً لحضورها القويّ في إداراتها المحليَّة.
واللحظات الحاسمة التي تعيشها بوليفيا اليوم سيترتب عليها تحديد مستقبل البلاد بموجب الانتخابات الرئاسية في العام المقبل، والتي سيرشّح فيها حزب "الحركة نحو الاشتراكية" الرئيس السابق إيفو موراليس بدلاً عن الرئيس الحاليّ آرسي، إلى جانب انتخابات الجمعية التشريعية التي ستُعقد في العام نفسه.
وتأتي هذه الانتخابات وسط حالة اضطراب إقليمي تشمل انتفاضات شعبية في وجه الهجمة الليبرالية الجديدة، وانقلابات عسكرية فشل آخرها في فنزويلا منذ أقل من شهر، إلى جانب إعلان الرئيس أرسي، يوم الثلاثاء الماضي، نيَّة حزبه إقامة استفتاء عام في البلاد خلال الفترة المقبلة على عدة أمور، من بينها دعم الوقود وإعادة الانتخابات الرئاسية.
عايشت بوليفيا في عام 2019 انقلاباً حادّاً على الرئيس السابق موراليس، بقيادة كارلوس ميسا، زعيم تحالف "المجتمع المدني"، ولويس كاماتشو زعيم تحالف "كريموس"، وأجبر الجيش موراليس على تقديم استقالته بذريعة تزوير حزبه الحاكم الانتخابات الرئاسية في العام نفسه لصالحه، فيما كانت قوّات الشرطة تقف إلى جوار المعارضة وتمارس عنفاً تجاه المتظاهرين ضد الانقلاب والمدافعين عن الديمقراطية.
اشتمل هذا الانقلاب على أحداث عنف وفوضى في جميع أنحاء البلاد، استهدفت قيادات الحزب الحاكم والنقابات العمّالية والفلّاحية، إلى جانب السكّان الأصليين، وراح ضحيته نحو 37 بوليفياً.
وقبل أقل من شهرين، تعرَّض الرئيس آرسي لمحاولة انقلاب فاشلة قادها قائد الجيش آنذاك، الجنرال خوان خوسيه زونيغا، الذي اقتحم مقر السلطتين التنفيذية والتشريعية، في العاصمة لاباز، بالدبّابات والجنود المُلثمين، لكن هذه المحاولة لم تدم لأكثر من 3 ساعات حتى فشلت لعدة أسباب.
وفي طليعة تلك الأسباب كان خروج عشرات الآلاف من البوليفيين الرافضين للانقلاب للتظاهر، بالإضافة إلى اتخاذ الرئيس آرسي قراراً سريعاً بتغيير الصف الأول من قيادات الجيش وإعطاء الأوامر بانسحاب الجنرال زونيغا المفصول من منصبه، ومن ثم إحالته في ما بعد إلى المحاكمة برفقة ما يزيد عن 15 قائد وضابط في الجيش.
ثَبُت خلال الانقلاب على موراليس في عام 2019 ومحاولة الانقلاب الفاشلة على الرئيس آرسي منذ أقل من شهرين، تورط الولايات المتحدة وقيادات يمينية في القارة اللاتينية في الحدثين، واللافت هنا أن مواقف المعارضة البوليفية تباينت إزاء الانقلاب الذي قاده الجنرال زونيغا على آرسي، فيما نَفَت الولايات المتحدة الاتهامات الموجّهة إليها بدعم الانقلاب والوقوف إلى جوار الجنرال زونيغا، لكن الواقع في ما وراء الكواليس يدور بشكلٍ مغاير.
تمتلك بوليفيا أكبر احتياطي "ليثيوم" في العالم، بواقع 23 مليون طن، معظمها متواجدة في المنطقة البوليفية داخل "مُثلّث الليثيوم" الواقع بين بوليفيا والأرجنتين وتشيلي، وهذا الأخير يحوي نحو 55% من موارد الليثيوم في العالم.
وتسعى بوليفيا إلى النهوض باستخراج الليثيوم والصناعات القائمة عليه اعتماداً على تأميم مسطحاته، إلى جانب استقبال استثمارات صينية مؤخراً لتوريد التكنولوجيات المناسبة ولدفع عملية التصنيع محليّاً.
ويُعبِّر الأميركيون عن تطلعاتهم وطموحهم في استخراج هذا المعدن الثمين، بدءاً برئيس وقيادات القيادة الجنوبية الأميركية "SOUTHCOM"، مروراً بأعضاء الكونغرس الأميركي، وصولاً إلى رجال الأعمال، وأبرزهم إيلون ماسك، نظراً لاحتياجات شركته المُصنّعة للسيارات الكهربائية إلى الليثيوم لأنه مكوّن أساسي في البطاريات، ولم يتوان أيٌ من هؤلاء عن نقد الحضور الصيني في "المُثلّث"، وخاصة في بوليفيا.
تحديد مسار البلاد لنصف قرنٍ مقبل
مقتطفات خطاب الرئيس المعروضة أعلاه، توضِّح خطوات أساسية ستتخذها البلاد في إعادة هيكلة القوّات المسلّحة وسط فترة تاريخية حاسمة يعيشها البوليفيون وحزب "الحركة نحو الاشتراكية".
وكان وقوف الجيش إلى جوار الانقلابيين عام 2019، وقيادة قائده وبعض قيادات صفّه الأول لمحاولة انقلاب فاشلة على آرسي منذ أقل من شهرين، حدثان، جعلا الحزب الحاكم يخوض نقاشات موسّعة داخل صفوفه تنتهي إلى ما يخطط آرسي له خلال الفترة المقبلة قبل انتخابات الرئاسة والجمعية التشريعية.
وتأتي إعادة هيكلة الجيش التي اقترحها الرئيس آرسي ضمن خطة أوسع للتحوّط من أي محاولة انقلاب أخرى قد تحدث في الفترة المقبلة، ولا سيما بعد الانتخابات الرئاسية عام 2025، وتأتي دعوته إلى إجراء استفتاء شعبي خلال الفترة المقبلة ضمن هذه الخطة.
في الواقع، إذا نجحت مساعي آرسي في إعادة هيكلة القوّات المسلّحة، كما يخطط، فسيكون بذلك قد ضَمَن هو وحزبه عدم انضمام الجيش إلى أي محاولة انقلابية قد تحدث خلال الفترة المقبلة، وبذلك يكون قد أمَّن فترة متواضعة لحزب "الحركة نحو الاشتراكية" تُمكِّنه من تحديد مسار البلاد لنصف قرن مقبل على الأقل، في حال فوز موراليس بالانتخابات الرئاسية المقبلة وحصول الحزب على أغلبية المقاعد في انتخابات الجمعية التشريعية.
المصلحة الأميركية في #بوليفيا اقتصادية بالدرجة الأولى في ظل ما يتمتع به البلد من احتياطات الليثيوم"
— قناة الميادين (@AlMayadeenNews) June 27, 2024
الكاتب والخبير بالشؤون السياسية أسعد فرنجية لـ #المشهدية@Fotoun_Abbassi pic.twitter.com/kl23jHmsWT