بالفيضانات والفسفور الأبيض.. هكذا تُدمّر "إسرائيل" البيئة وبساتين الزيتون في غزة

لم تسلم البيئة في قطاع غزة من المخططات الجهنمية التدميرية لكيان الاحتلال الإسرائيلي الذي يعمد إلى استهداف المناطق الحضرية بالقطاع، والأراضي والحقول الزراعية الخصبة، بشتى أنواع الأسلحة.

  • بالفيضانات والفسفور الأبيض.. هكذا تُدمّر
    بالفيضانات والفسفور الأبيض.. هكذا تُدمّر "إسرائيل" البيئة وبساتين الزيتون في غزة

لم تقتصر حملة الإبادة الجماعية التي ارتكبها "جيش" الاحتلال الاسرائيلي، وما زال، في قطاع غزة، على البشر والحجر. فالبيئة هناك، لم تسلم بدورها أيضاً من المخططات الجهنمية التدميرية للكيان الغاصب الذي عمل على تقسيمها إلى شقين:

الأول، اللجوء لاستراتيجية الفيضانات عبر إغراق أنفاق حماس" التي يزعم "جيش" الاحتلال اكتشافها. ولهذا، تقوم "إسرائيل"، ومنذ نحو الشهرين وأكثر، بسحب مياه البحر، وضخها داخلها، تحت ذريعة القضاء على قيادة وعناصر كتائب القسام. بينما هي في الواقع، تخفي هدفاً أكثر خُبثاً، وأشدّ خطورة وفظاعة، وهو يتمثّل في جعل غزة أرضاً جرداء يستحيل إعادة البناء فيها، فضلاً عن  قطع آخر شريان للحياة عنها، ونعني بذلك المياه، من أجل إبقاء هذه المنطقة خالية من السكان لسنوات طويلة.

والثاني، المُضي قدماً بحملة القصف والتدمير المركّز والممنهج بشتى أنواع الأسلحة الفتاكة والمحرّمة دولياً كالقنابل الفسفورية واستهداف ليس فقط المناطق الحضرية بالقطاع، بل الأراضي والحقول الزراعية الخصبة، خصوصاً بساتين الزيتون، إمّا عبر تجريفها، أو تسميم تربتها بهذا النوع من القذائف. 

الجدير بالذكر هنا، أنّ المسؤولين الإسرائيليين، كانوا اعترفوا علناً بأنّ الغاية من حربهم الدموية هذه، هي ضمان أن تكون غزة مكاناً غير صالح للعيش بمجرد إنهاء حملتهم العسكرية التي لا ترحم، وفي مقدّمتهم وزير الأمن، يوآف غالانت، الذي جاهر بعد وقت قصير من الهجوم الذي شنته حماس يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي: "إننا نقاتل حيوانات بشرية، ونتصرّف على هذا الأساس. سوف نزيل كل شيء، وسوف يندمون على ذلك".

لذا، فما نشهده بغزة اليوم، هو تطبيق إسرائيلي حرفي لوعود غالانت، مع الاستثناء أنّ من يشعر بالندم، هو غالانت و"جيشه"، وليس الشعب الفلسطيني الذي فاجأ العالم بثباته ومقاومته.

كيف تستخدم "إسرائيل" استراتيجية الفيضانات لتدمير البيئة بغزة؟

 في الواقع، تؤدي مياه البحر الأبيض المتوسط (المعروفة بملوحتها) والتي تعمد "إسرائيل" إلى تفريغها في أراضي غزة، إلى تلويث إمدادات المياه الجوفية بالمحلول الملحي، ونتيجة لذلك، أصبحت التربة مشبعة، وغير مستقرة، مما تسبب بانهيار الأرض، بمن عليها.

أكثر من ذلك،  تحوّلت الحقول الزراعية الخصبة، إلى حفر من الطين المالح، كما تدهورت نسبة مياه الشرب النظيفة، التي تعاني بالأصل من انخفاض مخيف بغزة، حيث أشار تقرير صادر عن "اليونيسف" عام 2019،  إلى أنّ "96% من طبقة المياه الجوفية الوحيدة في غزة غير صالحة للاستهلاك البشري".

وتبعاً لذلك، حذرت  الباحثة في جامعة "توينتي" بهولندا جوليان شيلينجر، قائلةً: "من المهم أن نضع في اعتبارنا أنّنا لا نتحدث هنا فقط عن المياه التي تحتوي على نسبة عالية من الملح – فالمياه على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط ملوثة بمياه الصرف الصحي غير المعالجة، والتي يتم تصريفها باستمرار في هذا البحر، من نظام الصرف الصحي المدمّر بغزة". 

وهذا، بالطبع، يبدو أنه جزء من استراتيجية إسرائيلية أوسع، ليس الغاية منها فقط تفكيك القدرات العسكرية لحماس، ولكن لزيادة الضرر، بالتالي تدمير طبقات المياه الجوفية المعرّضة للخطر بغزة (الملوّثة بالفعل بمياه الصرف الصحي التي تسرّبت من الأنابيب المتهالكة). ولهذا السبب، انتشرت الأمراض والأوبئة مؤخراً، بين النازحين الفلسطينيين بشكل كبير.  

علاوة على ذلك، وكأن القصف العشوائي، الذي ألحق أضراراً أو دمّر ما يصل إلى 70% من جميع المنازل في غزة، لم يكن كافياً، فإنّ ملء تلك الأنفاق بالمياه الملوثة سيضمن أن بعض المباني السكنية المتبقية، ستعاني من مشاكل هيكلية أيضاً. وعليه، فإذا كانت الأرض ضعيفة وغير آمنة، سيواجه الفلسطينيون معها، صعوبة في إعادة البناء عليها.

وفي هذا السياق، يشرح عبد الرحمن التميمي، مدير مجموعة الهيدرولوجيين الفلسطينيين، وهي أكبر منظمة غير حكومية تراقب التلوث في الأراضي الفلسطينية، المخططات الصهيوينة هذه، مشيراً إلى أنّ "إغراق الأنفاق بالمياه الجوفية الملوّثة سيؤدي إلى تراكم الملح وانهيار التربة، وهذا سينجم عنه هدم آلاف المنازل الفلسطينية في القطاع المكتظ بالسكان".  

ويخلص التميمي إلى أنّ "قطاع غزة سيصبح منطقة خالية من السكان، وسيستغرق الأمر نحو 100 عام للتخلّص من الآثار البيئية لهذه الحرب".

ماذا عن تدمير  زراعة الزيتون بغزة؟ وما أهميتها الاقتصادية للسكان؟

في الحقيقة، لـ "إسرائيل" ثأر مُزمن مع شجرة الزيتون، التي يجهد الاحتلال إلى حرمان الفلسطينيين منها (كونها تشكّل رمزاً للسلام والأمل والتحدّي والصمود وتبشّر بوجود الحياة)، حيث بدأ كل شيء بتدمير بساتين الزيتون المورقة في القطاع، وقبلها بالضفة والقدس، وكل شبر من أرض فلسطين. 

كانت غزة تنتج في المتوسط، أكثر من 5 آلاف طن من زيت الزيتون من أكثر من 40 ألف شجرة. فموسم حصاد هذه الثمرة المباركة، في شهري تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر، يعتبر موسماً احتفالياً طويلاً لآلاف الفلسطينيين، حيث يجتمع الأهل والأصدقاء في تلك البساتين، للاحتفال تحت الأشجار القديمة وهم يتقاسمون وجبات الطعام بينهم في تقليد مهمّ، يؤكد تجذّرهم وتمسّكهم وصلتهم العميقة بالأرض (أي فلسطين)، إضافةً إلى أنّها تُعدّ مورداً اقتصادياً حيوياً، خصوصاً أنّ نسبة محاصيل الزيتون بلغت العام الماضي، أكثر من 10% من اقتصاد غزة، أي ما مجموعه 30 مليون دولار.

لكن في أعقاب عملية طوفان الأقصى، توقّف الحصاد. وبدلاً من ذلك، ركّزت تكتيكات الأرض المحروقة الإسرائيلية، على تدمير عدد لا يحصى من بساتين الزيتون. من هنا، تؤكد صور الأقمار الصناعية التي نشرت في أوائل كانون الأول/ديسمبر الماضي، أن 22% من الأراضي الزراعية في غزة، بما في ذلك عدد لا يحصى من بساتين الزيتون، قد دمّرت بالكامل.

وتعليقاً على ذلك، قال أحمد قديح، وهو مزارع من بلدة خزاعة جنوبي قطاع غزة في حديث صحافي: "لا نستطيع ري أرضنا أو مراقبتها أو الاعتناء بها. بعد كل حرب مدمّرة، ندفع آلاف الشواكل لضمان جودة محاصيلنا ولجعل تربتنا صالحة للزراعة مرة أخرى".

ما حجم المجازر التي ارتكبها الاحتلال بأشجار الزيتون؟

في الحقيقة، إنّ هذه الجولة الأخيرة من الحرب الفتاكة على غزة، مجرد استمرار قاتم لحملة مستمرة منذ 75 عاماً تهدف إلى انتزاع التراث الثقافي الفلسطيني. فمنذ عام 1967، اقتلعت "إسرائيل" أكثر من 800 ألف شجرة زيتون فلسطينية محلية، تارةً لاستبدالها بمستوطنات يهودية جديدة في الضفة الغربية، وطوراً، بسبب مخاوف أمنية مزعومة، أو نتيجة للحقد الصهيوني الأعمى على هذه الشجرة.

اللافت أنّ أشجار الزيتون البرية في فلسطين يعود تاريخها إلى العصر النحاسي في بلاد الشام (4300-3300 ق.م) حيث كانت لسياسة تجريف بساتين الزيتون الفلسطينية عواقب بيئية كارثية. فوفقاً لتقرير مجلة "ييل" للدراسات الدولية لعام 2023، "ترتبط إزالة الأشجار ارتباطاً مباشراً بتغيّر المناخ الذي لا رجعة فيه، وتأكّل التربة، وانخفاض المحاصيل".

الأكثر أهمية، أنّ قشرة هذه الأشجار المعمّرة، تعمل كمخزن للكربون، إذ تمتص شجرة الزيتون 11 كجم من ثاني أكسيد الكربون، لكل ليتر من زيت الزيتون المنتج.

وإلى جانب توفير محصول قابل للحصاد وقيمة ثقافية، تُعد بساتين الزيتون حيوية للنظام البيئي في فلسطين. فالعديد من أنواع الطيور، تعتمد على التنوّع البيولوجي الذي توفّره الأشجار البرية في البلاد، والتي غالباً ما توجد ستة أنواع منها في بساتين الزيتون المحلية وهي: الصنوبر الحلبي، اللوز، الزيتون، النبق الفلسطيني، الزعرور الصنوبري، والتين.

كما ينظر إلى شجرة الزيتون المحلية القديمة، على أنها شهادة على وجود الفلسطينيين ونضالهم من أجل الحرية، إذ تقف شجرة الزيتون، بجذعها اللولبي السميك، بمثابة حكاية تحذيرية لـ"إسرائيل"، وهذا لا يعود إلى الثمار التي تحملها، لكنه يرتبط بالقصص التي تحملها جذورها عن المناظر الطبيعية الممزقة، والشعب العصي عن الاستسلام، والذي تمت محاصرته بقسوة وبلا هوادة لما يزيد عن 75 سنة.

ما هو تأثير القنابل الفسفورية على البيئة؟

بينما تقوم "إسرائيل" بتلويث طبقات المياه الجوفية واقتلاع بساتين الزيتون، فإنها تعمل الآن أيضاً على تسميم غزة من الأعلى. وتبعاً لذلك، تعرض العديد من مقاطع الفيديو التي حللتها منظمة العفو الدولية، وأكدتها صحيفة "واشنطن بوست"، لقطات من قنابل مضيئة وأعمدة من الفسفور الأبيض تنهمر على المناطق الحضرية المكتظة بالسكان. 

وغني عن التعريف أنّ الفوسفور الأبيض الذي استُخدم لأول مرة في ساحات القتال في الحرب العالمية الأولى لتوفير غطاء لتحركات القوات العسكرية، يُعدّ ساماً وخطيراً على صحة الإنسان. غير أنّ تركيزات كبيرة منه، لها أيضاً آثار ضارة على النباتات والحيوانات، إذ يمكن للفسفور أن يُعطّل تكوين التربة، ممّا يجعلها حمضية للغاية لزراعة المحاصيل. وهذا مجرد جزء واحد من جبل الذخائر الذي أطلقته "إسرائيل" على غزة خلال الأشهر الثلاثة الماضية.

وفي السياق ذاته، لا يزال من الصعب فهم الخسائر التي تحدث يوماً بعد يوم، وأسبوعاً بعد أسبوع، ليس فقط على البنية التحتية والحياة المدنية في غزة، إنّما على البيئة أيضاً. فكل مبنى ينفجر، يترك سحابة باقية من الغبار السام والأبخرة المسببة للاحتباس الحراري.

في  المحصّلة، إنّ التسوية المستمرة لغزة بالأرض ستكون لها آثار أسوأ بكثير مما خلّفته آثار أحداث 11 سبتمبر على مدينة نيويورك. إذ وجدت دراسة كانت أجريت عام 2020، أن رجال الإنقاذ الذين استجابوا لمهمات الإنقاذ بعد انهيار مركز التجارة العالمي، "كانوا أكثر عرضة بنسبة 41% للإصابة بسرطان الدم مقارنة بالأفراد الآخرين". كذلك عانى نحو 10 آلاف من سكان نيويورك، من أمراض صحية قصيرة الأمد في أعقاب الهجوم، واستغرق الأمر عاماً حتى تعود جودة الهواء في مانهاتن السفلى إلى مستويات ما قبل 11 سبتمبر.  من هنا،  تعتقد نسرين التميمي، رئيسة سلطة جودة البيئة الفلسطينية، أن التقييم البيئي لغزة الآن من شأنه أن "يتجاوز كلّ التوقّعات". 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.