المسيّرات الإسرائيلية.. أداة استخباراتية متعددة الأبعاد في مرحلة ما بعد الحرب
مع انتهاء العدوان الإسرائيلي على لبنان وبدء فترة التهدئة الممتدة لستين يوماً، تتصاعد انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي لبنود وقف إطلاق النار، خصوصاً من خلال استخدام المسيّرات التجسسية. فما دور هذه المسيرات وما خطورتها؟
مع انتهاء الحرب الإسرائيلية على لبنان (2024)، بدأت مرحلة جديدة تهيمن عليها عمليات التجسس والتجميع الاستخباري باستخدام المسيّرات. على الرغم من فترة التهدئة الممتدة لستين يوماً التي نصّ عليها اتفاق وقف إطلاق النار، فإن الاحتلال الإسرائيلي يواصل انتهاك بنوده، مستغلاً الأجواء اللبنانية لمواصلة عملياته. المسيّرات، التي كانت أداة فعّالة خلال الحرب، باتت الآن وسيلة لجمع معلومات شاملة ومتكاملة تتجاوز حدود ما هو تقليديّ.
المسيّرات الإسرائيلية: أداة لجمع البيانات متعدّدة الأبعاد
تُستخدم المسيّرات الإسرائيلية لجمع البيانات الميدانية الدقيقة عن تحرّكات المقاومة والبنية التحتية المتجدّدة بعد الحرب. لكن الأهداف لا تقتصر على المراقبة العسكرية فقط، بل تتوسّع لتشمل جمع بيانات اجتماعية واقتصادية وحتى معلومات عن الأفراد. فتح الهواتف التي كانت مغلقة أثناء الحرب، وهواتف أخرى عادت للعمل مع انتهاء العمليات العسكرية، يفتح الباب أمام استخراج معلومات حسّاسة قد تشير إلى ارتباط أصحابها بساحات المعارك.
في موازاة ذلك، تتزايد محاولات الاحتلال لرصد وتسجيل الاتصالات الهاتفية والتقاط الصور ومقاطع الفيديو التي يتمّ تبادلها بين السكان، خصوصاً تلك التي تتعلق بالمقاومين العائدين إلى قراهم. هذه المعلومات، عند جمعها مع بيانات المسيّرات، تُكوّن قاعدة بيانات واسعة يتمّ تحليلها لاحقاً باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، مما يمنح الاحتلال قدرة استثنائية على التعرّف إلى الأنماط وتحليلها، ورسم خرائط تفصيلية للتحرّكات المستقبلية.
تعزيز القدرات الاستخباراتية الإسرائيلية
يشكّل الذكاء الاصطناعي العمود الفقري في استراتيجية الاحتلال الإسرائيلي لتطوير منظومته الاستخباراتية، خاصة في مرحلة ما بعد الحرب. باستخدام أدوات متقدّمة في مجالي التعلّم الآلي والتعلّم العميق، يتمكّن الاحتلال من تحويل البيانات الخام التي تجمعها المسيّرات إلى معلومات قابلة للتنفيذ في العمليات الميدانية والتخطيط الاستراتيجي.
تعتمد هذه التكنولوجيا على تحليل الصور والمقاطع المصوّرة التي تلتقطها المسيّرات، حيث يتمّ تطبيق خوارزميات دقيقة لتحديد هوية الأشخاص وتحليل تحرّكاتهم. هذه العمليات تشمل رصد الوجوه، التعرّف إلى الأنشطة المشتبه بها، وربط الأفراد بالمواقع أو الجماعات التي كانوا على تواصل معها.
إلى جانب تحليل الصور، تُعدّ البيانات الجغرافية المكانية جزءاً مهماً من المنظومة. يتمّ استخدام هذه البيانات لتحديد مناطق النشاط المكثّف، سواء كانت نقاط تجمّع أو مواقع تخزين أو مناطق قد تكون أهدافاً استراتيجية للمقاومة. من خلال بناء خرائط ديناميكية، يمكن للاحتلال تخصيص موارده العسكرية والاستخباراتية بكفاءة أكبر.
لكنّ القوة الحقيقية لهذه الاستراتيجية تكمن في التنبؤ. إذ تُمكّن خوارزميات التعلّم العميق الاحتلال من بناء نماذج تتنبأ بسلوك المقاومة في المستقبل. يتم ذلك عبر دراسة الأنماط التاريخية وربطها بالبيانات الحالية، مما يساعد في توقّع المواقع التي قد تُستخدم لشنّ هجمات أو تخزين الأسلحة أو حتى التخطيط للعمليات اللوجستية.
تعزّز هذه التحليلات بنك الأهداف الإسرائيلي، وهو مجموعة من المواقع والأشخاص والأنشطة التي يعتبرها الاحتلال ضرورية لضمان تفوّقه في أيّ مواجهة مستقبلية. بفضل الذكاء الاصطناعي، أصبح هذا البنك أكثر دقة وشمولية، مما يمنح الاحتلال ميزة استراتيجية تُهدّد بتغيير طبيعة الصراع من مواجهة مباشرة إلى حرب معلوماتية تعتمد على التكنولوجيا والبيانات.
ومع ذلك، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي بهذا الشكل يفرض تحديات جديدة على المقاومة، التي يتعيّن عليها تطوير أساليب مضادة لحماية أفرادها ومواقعها من هذا النوع من التهديدات، سواء عبر تقنيات التشويش أو التمويه الرقمي أو حتى نشر معلومات مضللة تربك منظومة التحليل الإسرائيلية.
الأهداف الإسرائيلية وردود المقاومة
في ظلّ استمرار الانتهاكات الإسرائيلية لبنود اتفاق وقف إطلاق النار، يتضح أن استراتيجية الاحتلال تجاوزت الأبعاد العسكرية التقليدية لتشمل أبعاداً اجتماعية وسياسية، مما يعكس رغبة الاحتلال في تحقيق سيطرة شاملة على مختلف الجوانب الحيوية للحياة في لبنان. يعتمد هذا التوسّع على جمع البيانات وتحليلها بطرق منهجية تهدف إلى زعزعة الاستقرار وإضعاف البنية الاجتماعية للمقاومة.
من خلال جمع البيانات الشخصية والاجتماعية، تسعى "إسرائيل" إلى خلق حالة من الضغط النفسي على السكان، خصوصاً في المناطق التي تعتبر معاقل للمقاومة. تحليل البيانات المستخلصة من المسيّرات، وربطها بالأنشطة اليومية للسكان، يسمح ببناء صورة شاملة يمكن استغلالها لإضعاف الروابط الاجتماعية وزرع الشكوك بين الأفراد. هذه الاستراتيجية تُهيّئ الأرضية ليس فقط لمواجهة عسكرية مباشرة، بل أيضاً لهجمات سيبرانية تستهدف البنية التحتية والاقتصاد المحلي.
في مواجهة هذا التحدّي المتعدد الأبعاد، يقع على عاتق المقاومة اللبنانية تطوير استراتيجيات مضادة فعّالة. تعزيز أنظمة التشويش على المسيّرات يعتبر أحد الحلول الضرورية للحد من قدرة الاحتلال على جمع البيانات. إضافة إلى ذلك، فإن اعتماد تقنيات مبتكرة لإخفاء الأنشطة الميدانية، سواء من خلال التمويه الرقمي أو تقنيات التشفير، يُعدّ خطوة حيوية لضمان حماية العمليات.
من جهة أخرى، لا يمكن التغاضي عن أهمية الوعي المجتمعي كخط دفاع أول. يتطلّب التصدّي لسياسات الاحتلال رفع مستوى وعي السكان بخطورة مشاركة الصور والمعلومات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي قد تكون وسيلة لإثراء بنك الأهداف الإسرائيلي. حملات التوعية المستمرة يمكن أن تحد من قدرة الاحتلال على استغلال المعلومات الاجتماعية لصالحه.
الصراع اليوم لم يعد مقتصراً على ساحات المعارك التقليدية، بل أصبح يمتد إلى ساحات المعلومات والتكنولوجيا، مما يتطلّب تكاملاً بين المقاومة الميدانية والمقاومة الرقمية والاجتماعية لضمان الصمود والاستمرار في مواجهة هذا التحدّي.