الكوبيون ينتفضون في وجه الحصار
معظم التحديات الحالية التي تواجهها الحكومة الكوبية، خاصة في الاقتصاد، هي في الأصل ناتجة عن الحصار الاقتصادي الأميركي ونظام العقاب الجماعي الذي يتعرض له الكوبيون.
في إطار مواجهة الحصار الاقتصادي الممتد لأكثر من ستين عاماً، خرج سكّان الجزيرة الكوبية في تظاهرات بالآلاف في مناطق مختلفة من العاصمة هافانا، الجمعة الماضية، وتقدّمهم الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل والزعيم راؤول كاسترو، وعدداً من الوزراء والمسؤولين في الحكومة.
جاء ذلك تلبية للدعوة التي أطلقها رئيس البلاد، في حديثه خلال الجلسة العامة التاسعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي الكوبي، الأسبوع الماضي، الذي أشار فيه إلى أن دعوة التظاهر تأتي "رداً على تصميم سياسات عدائية مكثفة"، في إشارة إلى ما يزيد على 240 إجراءً تقييدياً فرضتها واشنطن خلال إدارة دونالد ترامب السابقة. وأكَّد الرئيس على أن المتظاهرين "سيعبّرون أمام السفارة الأميركية في هافانا عن إدانتهم الشديدة للحصار الإجرامي الأميركي واستمرار إدراج كوبا في قائمة غير شرعية للدول الراعية للإرهاب، الأمر الذي يتسبب في أضرار رهيبة لشعبنا بأكمله".
وفي خطاب ألقاه خلال التظاهرة، أكَّد الرئيس دياز كانيل أن اتهامات واشنطن لكوبا بأنها دولة ترعى الإرهاب "كاذبة وغير أخلاقية"، مشيراً إلى أنه "من غير الأخلاقي تماماً أن يأتي الاتهام من دولة تتدرَّب فيها مجموعات شبه عسكرية على تنظيم وتمويل أعمال إرهابية ضد مؤسساتنا الاجتماعية والاقتصادية"، وذكَّر بلجوء كوبيين تورطوا في أعمال عنف إلى الولايات المتحدة. وأدان الرئيس خلال خطابه بقاء كوبا على قائمة الدول الراعية للإرهاب، مشيراً إلى أن مسؤولين كبار في الولايات المتحدة، مثل وزير الخارجية أنتوني بلينكن، "أقرّوا بأنه لا يوجد مبرر لإبقاء كوبا على هذه القائمة".
وندد الرئيس دياز كانيل خلال الجلسة الختامية لمناقشات "الجمعية الوطنية" التي انعقدت بعد انتهاء التظاهرة، باستمرار الحصار الاقتصادي وإدراج بلاده على قائمة الدول الراعية للإرهاب، مشدداً على أن "هاتين السياستين العدوانيتين للولايات المتحدة تحملان بصمة إمبراطورية تتمثَّل في تطبيق العقاب الجماعي وإطالة أمده". وأقر الرئيس بأن العام الجاري هو "أحد أصعب الأعوام" التي عاشتها بلاده، مؤكداً على أن "النتائج تظل غير كافية بالرغم من الجهود الهائلة"، مشدداً على ضرورة أن تتبع قيادة الثورة في كوبا نهجاً "أكثر انتقاداً للذات" من أجل "تعظيم النتائج والتخفف من حدة معوقات التقدم".
بدأ الحصار الاقتصادي الأميركي على كوبا في 6 نيسان/أبريل 1960، عندما كتب الدبلوماسي الأميركي، ليستر مالوري، مذكرة يوصي فيها بفرض حصار على كوبا "لإثارة الجوع واليأس والإطاحة بالحكومة"، لأنه رأى أنه لا يمكن التأثير على معظم الشعب الكوبي الذي يدعم الثورة وزعيمها فيدل كاسترو إلا من خلال إجراءات عقابية قاسية. واستمر الحصار الاقتصادي والسياسي حتى قررت إدارة أوباما تحسين العلاقات مع الجزيرة الكوبية. لكن الأعوام القليلة الماضية كانت مختلفة وأشد قسوة عن العقود الستة السابقة، إذ اشتد الحصار خلال فترة إدارة ترامب، ولم يتغير موقف واشنطن من كوبا خلال إدارة جو بايدن، رغم إعلان الأخير في عام 2020 نيته العودة إلى نهج أوباما، بعد أن وصف سياسة ترامب تجاه كوبا بأنها "فاشلة".
يعاني الاقتصاد الكوبي الآن من حالة انكماش اقتصادي، إذ انخفض الناتج المحلي الإجمالي في العام الماضي بنسبة 2%، وكانت الصادرات أقل بمقدار 900 مليون دولار عن التوقعات، مسجلةً انخفاضاً بنسبة 10% عن أهداف الحكومة، فيما شهدت الواردات انخفاضاً بنحو 18%. وانخفض إنتاج الغذاء مع تراجع الإنتاج الزراعي والصناعي نتيجة أزمة الطاقة التي تمر بها البلاد، فيما زادت إيرادات السياحة بمقدار 400 مليون دولار، أي نحو 69% فقط من عائداتها في عام 2019. رغم كل ذلك، انخفض معدل التضخم خلال العام الماضي ليبلغ 32%، مقارنة بنحو 77% في عام 2021.
وبينما يتوقع عدد من الاقتصاديين نمو اقتصاد البلاد في العام المقبل بنسبة 1% فقط، نظراً إلى أزمة الطاقة الطاحنة، يشير الاقتصادي الكوبي، أومار إيفيرليني، إلى أن اقتصاد بلاده سيعاني انكماشاً في نهاية العام الجاري بنسبة 4%. ووفقاً لتصريحات وزير الخارجية الكوبي، برونو رودريغيز، تسبب الحصار الأميركي على كوبا في خسائر اقتصادية تزيد على 5 مليارات دولار، خلال الفترة بين آذار/مارس 2023 وشباط/فبراير من العام الجاري، ما يمثل زيادة قدرها 189.8 مليون دولار مقارنة بتقرير سابق. هذا وبلغت إجمالي الخسائر الناجمة عن الحصار منذ ستينيات القرن الماضي نحو 164 مليار دولار، ومع تحويل هذا الرقم وفقاً لانخفاض قيمة الدولار في كوبا، تزداد قيمة الخسائر الاقتصادية لتصل إلى نحو 1 تريليون دولار.
جاء التصعيد في مستوى الحصار وحدَّة العقوبات على كوبا مع إدارة ترامب، مواكباً لأزمة فيروس كوفيد-19 التي فاقمت الوضع بسبب تراجع عائدات السياحة وارتفاع معدل التضخم. ولا تزال الحرب في أوكرانيا تزيد من تفاقم الوضع أيضاً لأن كوبا فقدت معها مصدر مهم لسلع مثل الأسمدة وزيوت الطهي. وجاء تفاقم أزمة الطاقة خلال العام الجاري، مع تبعات إعصارين وزلزالين كبيرين تعرضت لهما البلاد، إذ انهارت شبكة الكهرباء الوطنية ثلاث مرات، إلى درجة أن التيار الكهربائي كان يقطع في بعض المناطق، حتى شهر مضى، لمدة تزيد على 12 ساعة، وهو ما أثر سلباً على الأعمال التجارية والعمليات الإنتاجية داخل البلاد.
إن معظم التحديات الحالية التي تواجهها الحكومة الكوبية، خاصة في الاقتصاد، هي في الأصل ناتجة عن الحصار الاقتصادي الأميركي ونظام العقاب الجماعي الذي يتعرض له الكوبيون. ورغم ذلك، بدأ اقتصاد البلاد في التعافي ببطء، لكن الحل الجذري للأزمة القائمة مرهون بفك الحصار عنها ورفعها من قائمة "الإرهاب"، حتى يستطيع الكوبيون أن يحصلوا على الموارد الضرورية المختلفة التي لا يستطيعون استيرادها بسبب الحصار والعقوبات، ويجب أن يواكب ذلك إدارة حكومية تتفادى سقوط اقتصاد البلاد في فوّهة الاندماج التام مع الاقتصاد العالمي.
أعربت الحكومة الكوبية مراراً عن استعدادها للانخراط في علاقة مع الولايات المتحدة، شرط أن تكون على أساس المساواة والاحترام المتبادل للسيادة. ورغم وفاء هافانا بتعهداتها والتزاماتها ضمن مسار استعادة العلاقات الدبلوماسية مع واشنطن الذي بدأ في عام 2014، لم تلتزم الأخير بتعهداتها والخطوات التي كان عليها أن تتخذها تجاه الجزيرة الكوبية، بل عمدت إلى توسيع مدى العقوبات وتقوم بتعبئة سياسية مع حلفائها في الاتحاد الأوروبي ضد الحكومة الكوبية. ولا تزال كوبا على القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، وذلك استناداً إلى قرار واشنطن بإعادة إدراجها على القائمة بموجب تقرير حول الإرهاب أصدرته وزارة الخارجية الأميركية في العام الماضي.
على الرغم من كل المصاعب، على مدى العقود الستة الماضية، وفي السنوات الأخيرة بشكل خاص، لا يزال الكوبيون متمسكون بمسار الثورة الاشتراكية ويدافعون عنه، ويصاحب ذلك إدخال الحكومة عدة إصلاحات على هيكل اقتصاد البلاد، وذلك من أجل إعادة ترتيب الاستثمار الأجنبي وضبط التدفقات المالية الخارجية والدولرة الجزئية للاقتصاد، في إطار تخطيط اقتصادي يهدف إلى تحسين نوعية حياة الكوبيين والقدرة الشرائية للعملة الوطنية.