العملات الرقمية في لبنان: بين أمواج الأزمات وقوارب النجاة للشباب
في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها لبنان، يلجأ العديد من اللبنانيين إلى العملات الرقمية كوسيلة للتجارة والاستثمار. هذا التوجه يسلط الضوء على التغييرات في نماذج الاستثمار التقليدية وكيفية تكيف الأجيال الجديدة مع التقنيات الحديثة.
في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها لبنان، من تضخم مفرط وانهيار للعملة الوطنية وأزمات مالية متتالية، يجد اللبنانيون أنفسهم في بحث دائم عن بدائل استثمارية ومالية تمكنهم من الحفاظ على قيمة مدخراتهم، وربما حتى تحقيق بعض الأرباح. في هذا السياق، برزت العملات الرقمية كأحد الخيارات الجذابة للكثيرين، خاصة الشباب الذين يرون فيها فرصة للتحرر من القيود المالية والبنكية التقليدية واستكشاف آفاق جديدة في عالم الاستثمار.
العملات الرقمية، بطبيعتها المتقلبة والمستقلة عن الأنظمة المالية التقليدية، تقدم فرصة ليس فقط للتداول والاستثمار ولكن أيضاً لإجراء المعاملات المالية بطريقة أكثر كفاءة وأماناً. ومع ازدياد الاعتراف بها عالمياً كأصول مالية مشروعة، بدأت تحظى بقبول واسع النطاق حتى في الدول التي تعاني من أزمات اقتصادية، مثل لبنان.
السؤال الرئيسي الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: كيف تؤثر العملات الرقمية على الاقتصاد والمجتمع في لبنان؟ هل يمكن أن تكون بمثابة طوق نجاة يساعد اللبنانيين على تجاوز أزماتهم المالية، أم أنها مجرد فقاعة قد تؤدي إلى مخاطر جديدة؟
العواقب الاجتماعية والاقتصادية للأزمة على السكان
الأزمة الاقتصادية أثرت بشكل كبير على النسيج الاجتماعي والاقتصادي للبلاد، مما أدى إلى ارتفاع معدلات الفقر، البطالة، والهجرة. العديد من اللبنانيين فقدوا مدخراتهم، وأصبحوا غير قادرين على تأمين الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء، الرعاية الصحية، والتعليم.
العملات الرقمية بدأت تظهر في السوق اللبناني كبديل استثماري ومالي في السنوات الأخيرة، خاصة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية عام 2019. ونظراً للقيود المفروضة على العملات الأجنبية والحسابات المصرفية، لجأ الكثيرون إلى العملات الرقمية كوسيلة للحفاظ على قيمة أصولهم وتحويل الأموال.
أسباب تزايد الاهتمام بالعملات الرقمية كوسيلة للهروب من القيود المالية:
- تجاوز القيود المصرفية: العملات الرقمية توفر طريقة لتجاوز القيود المصرفية والسماح بتحويلات مالية أسرع وأرخص.
- حماية من التضخم: مع انهيار الليرة اللبنانية، يرون في العملات الرقمية وسيلة لحماية أموالهم من التضخم.
- التحويلات المالية: يستخدم اللبنانيون في الخارج العملات الرقمية لإرسال الأموال إلى أقاربهم في لبنان بطريقة أسرع وأقل تكلفة مقارنة بالوسائل التقليدية.
- فرص استثمارية جديدة: الشباب اللبناني، بالتحديد، ينظرون إلى العملات الرقمية كفرصة لدخول سوق الاستثمار وتحقيق أرباح في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.
العملات المشفرة وآلية عملها
في العام 2009، شهد العالم ظهور بيتكوين، أولى العملات المشفرة وأكثرها شهرة. تتميز العملات المشفرة أو الرقمية بكونها بدائل للعملات التقليدية كالدولار والين، حيث تعتبر وسائل مالية افتراضية وغير مرتبطة بأي سلطة مركزية مثل البنوك المركزية أو وزارات المالية. تتيح هذه الطبيعة غير المركزية لأي كيان، سواء كان معلناً أو خاصاً، إمكانية إصدار عملته الخاصة وإدراجها في الأسواق المالية الافتراضية بهدف تبادلها بعملات تقليدية، مما يجعلها أصولاً قابلة للتداول.
تُستخدم هذه العملات الافتراضية في التجارة داخل أسواق مالية مخصصة حيث تتحول إلى أصول مالية قابلة للتبادل. العملات المشفرة تعتمد على مبدأ التشغيل بدون وسطاء، كالبنوك، خصوصاً في التحويلات المالية الدولية. يتم تسجيل هذه التحويلات ضمن دفتر عام موزع يُعرف بـ "البلوكتشاين".
وفقاً لموسوعة Investopedia، يعمل هذا النظام على شبكات موزعة من الحواسيب التي لا تتصل بخادم مركزي. يُمكن للأفراد المساهمة بأجهزتهم في هذه الشبكة والحصول على مكافآت مادية بالعملة المشفرة من خلال عملية يُطلق عليها اسم "التعدين". بما أن هذه الشبكات غير مركزية، فإنها تواجه تحديات في التكامل، مما يعني أن التبادلات المسجلة لا يمكن تعديلها بل يُمكن فقط إضافة بيانات جديدة. ولتسجيل أي معاملة، يجب أن يحدث إجماع بين عدة حواسيب لضمان أمان المعاملة دون تغيير، ومن هنا جاء استخدام مصطلح "التشفير" في تسمية هذه العملات.
أصحاب طموحات الثروة: ضحايا المخططات الاحتيالية
في الواقع، الغاية الأساسية لمستخدمي العملة الرقمية هي تحقيق الأرباح عبر المضاربة، يقوم هؤلاء بشراء العملات بعملة نقدية معروفة مثل الدولار، ثم ينتظرون ارتفاع قيمتها لبيعها مقابل عملة حقيقية، وبالتالي الحصول على ربح مادي. يرنو هؤلاء إلى تقليد قصة النجاح الخيالية لفتى في الخامسة عشر من عمره يحلم بتحول دراماتيكي من طالب مدرسي إلى مليونير مشهور. لكن، في الغالب، ينتهي المطاف بالحالمين كضحايا لمخططات بونزي الاحتيالية. وما دام هناك من يحلمون بالثراء الفوري، سيجدون دوماً من ينسج لهم خيوط المخططات البونزية.
بصورة موجزة، العملات الرقمية لن تتمكن من استبدال النقود التقليدية. بسبب الديون المتراكمة على ملايين الأشخاص والتقلبات الشديدة في أسعار هذه العملات، من المرجح أن تتخلى المصارف والحكومات عنها لأنها تعيق سياساتها النقدية وقد تؤدي إلى خسائر فادحة في الأصول.
بورصة العملات الافتراضية تمثل فقاعة مالية معزولة، حيث يعتبر الربح المحقق لطرف معين، في الحقيقة، خسارة لا مفر منها لطرف آخر. هذه الأرباح لا تأتي نتيجة إنتاج عنصر مادي فعلي، بل هي نتيجة لتوسع مخطط بونزي الهرمي. على سبيل المثال، أي دولار يُسحب من منصة بيع البيتكوين يكون قد جاء من محفظة شخص آخر دفع دولاراً حقيقياً لشراء البيتكوين، أي أن الربح يأتي من جيب مشارك آخر في الفقاعة. وبالتالي، على النقيض من الأرباح التي تُحققها السندات الحكومية، لا تقوم بورصات العملات الرقمية بطباعة عملة نقدية حقيقية بل تخلق عملة وهمية.
في أي ظروف يعيش أولئك الساعون وراء السلطة والثروة؟ بعد اختتام فصول الحرب العالمية الثانية، تبوأت الولايات المتحدة الأميركية مركز الصدارة على المسرح العالمي، حيث كانت الوحيدة التي تملك التكنولوجيا النووية وكان اقتصادها يُمثل نصف الناتج الاقتصادي العالمي. ومع ذلك، لم ترض بالوضع القائم بل طمحت لتوسيع نفوذها المالي عالمياً، معتمدة على صندوق النقد الدولي واتفاقية "بريتون وودز" كأعمدة أساسية لربط عملات دول الحلفاء بالدولار الأميركي وبسط أيديولوجيتها الاقتصادية على العالم.
علاوة على ذلك، سعت إلى ربط التبادل التجاري بأحكام منظمة التجارة العالمية التي تهيمن عليها وضمان أن يتم تسعير النفط - المورد الأساسي في الإنتاج الصناعي - بالدولار، مما يعزز من هيمنتها الاقتصادية.
في عالم يشهد تغيرات جيوسياسية عميقة وتقلبات في النظام الدولي، حيث تعيش الرأسمالية تحت وطأة أزماتها الشديدة، يُطرح السؤال المحوري: هل من المعقول أن تتنازل قوى كبرى مثل الولايات المتحدة، التي تمثل مصالح رأس المال العالمي، أو الصين أو الاتحاد الأوروبي، عن أدواتهم المالية القوية التي تُعزز من هيمنتهم العالمية وتساعد في تكديس ثرواتهم؟ تلك الأدوات التي تُمكنهم من فرض توجهاتهم الاقتصادية وتوسيع مجالات نفوذهم.
من المهم الإشارة إلى أن سوق العملات الافتراضية، والتي يُنظر إليها كفقاعات مالية منفصلة، تعمل على مبدأ أن الربح لطرف يعني خسارة لآخر. في هذه الأسواق، لا تُخلق القيمة من خلال إنتاج سلع أو خدمات ملموسة، بل تنشأ من التوسع في المخططات الهرمية المُشابهة لمخططات بونزي. لكل دولار يُسحب من عملة مثل البيتكوين، هناك مستثمر آخر قد دفع مبلغاً مماثلاً، مما يعني أن الأرباح لا تنتج من زيادة القيمة الحقيقية لكن من ضخ المزيد من الأموال في النظام.