الأميركيون يعزفون عن الخدمة العسكرية.. أسوأ أزمة تجنيد في تاريخ أميركا
في العام 2023، فشلت واشنطن في ثلاثة من أكبر أربعة حملات تجنيد عسكرية لاستقطاب العدد الكافي من الأفراد. ولم يحقق الجيش الأميركي أهدافه الخاصة بالقوى البشرية في العامين الماضيين
قد ينبهر البعض بالقوة العسكرية الأميركية وإمكانات واشنطن التسليحية وتفوّقها التكنولوجي.لكن، ما لا يعرفه الكثيرون، أن الولايات المتحدة تواجه أسوأ أزمة تجنيد منذ نحو نصف قرن، بعدما كانت ألغت الخدمة العسكرية الإلزامية قبل 51 عاماً، وشنّت حروبها كافة، وقامت بجميع تدخلاتها، بالاعتماد على المتطوعين (All-Volunteer Force)، لا سيما في أفغانستان والعراق.
ومع تزايد الأزمات الخارجية، وعدم وجود عدد كافٍ من الأميركيين الراغبين والقادرين على ملء صفوف الجيش بالأعداد المطلوبة، أصبح أمن الولايات المتحدة مهدداً، الأمر الذي دفع بالخبراء والمنظرين العسكريين في واشنطن إلى دق ناقوس الخطر، والتحذير من انعكاس هذه المعضلة على أي مواجهة قد تخوضها أميركا مع الصين أو روسيا أو كوريا الشمالية أو إيران، خصوصاً أن نتائجها ستكون، برأيهم، مختلفة تماماً، مع احتمال سقوط عدد من الضحايا في غضون أسابيع قليلة، يفوق ما تكبدته الولايات المتحدة في حربها العالمية المزعومة ضد الإرهاب.
فشل خطط التجنيد
في العام 2023، فشلت واشنطن في ثلاث من أكبر أربع حملات تجنيد عسكرية لاستقطاب العدد الكافي من الأفراد. ولم يحقق الجيش الأميركي أهدافه الخاصة بالقوى البشرية في العامين الماضيين، بل أخفق أيضاً في خططه لعام 2023، بتراجع بلغ نحو 10 آلاف جندي، وهو نقص قدرت نسبته بـ 20%. أما اليوم، فيبلغ عدد عناصر الجيش المسجلين في الخدمة الفعلية نحو 445 ألف جندي، أي أقل بـ 41 ألفاً، مما كان عليه في عام 2021، وهو الأصغر منذ عام 1940 (الإحصاءات تعود لوزارة الدفاع الأميركية).
أكثر من ذلك، لم تنجح القوات البحرية والجوية، في بلوغ أهداف التجنيد الخاصة بهما أيضاً. الاستثناء الوحيد كان مشاة البحرية التي حققت بعضاً من خططها. كما أخفق الحرس الوطني الجوي واحتياط القوات الجوية في تحقيق غايات التجنيد بنسبة 30%. إذ استطاع الجيش حالياً تجنيد نحو 9,319 مجنداً فقط، بعد أن كان يتطلع إلى تجنيد 14,650 جندياً جديداً. وبالمثل، كانت أرقام احتياطي البحرية بالقدر نفسه من السوء، حيث فشلت حملات تجنيد الضباط والجنود بنسبة قُدرت بين 35 و40%.
الأزمة امتدت أيضاً إلى الاحتياطي الفردي الجاهز (IRR)، الذي تم تصميمه ليضم أفراد الخدمة الفعلية السابقين، أو أفراد الاحتياط المختارين الذين يمكن استدعاؤهم من قبل وزير الدفاع أثناء الحرب، أو حالة الطوارئ الوطنية، ليكونوا بمنزلة الجسر الذي يغذي الجيش بالعناصر.
أما اليوم، فهناك ما يزيد قليلاً على 264 ألفاً من أفراد الخدمة في الاحتياطي الفردي بأكمله، بعدما تراجع العدد من 700 ألف في عام 1973 إلى 76 ألفاً في عام 2023. لذا، وفي حالة نشوء حالة طوارئ حقيقية تهدد الأمن القومي الأميركي، فإن واشنطن تفتقر إلى القدرة على التعبئة كما فعلت روسيا مثلاً، وكما فعلت "إسرائيل" إثر "طوفان الأقصى".
أسباب تراجع التجنيد في الجيش الأميركي
تؤكد المعطيات على الأرض أنه حتى لو أمكن تشجيع المزيد من الأميركيين على التسجيل في لوائح التجنيد، قد لا يتمكنون من الخدمة.
قبل جائحة "كوفيد 19"، كان أقل من 3 من كل 10 أميركيين من الفئة السكانية الرئيسية للتجنيد، الذين تتراوح أعمارهم بين 17 و24 عاماً، مؤهلين للخدمة العسكرية، غير أن هذه الأرقام انحسرت بشكل أكبر مع بدء الوباء.
ووفقاً لأحدث البيانات التي نشرتها صحيفة "واشنطن بوست"، فإن هناك 23% فقط من الشباب الأميركيين مؤهلون للتجنيد من دون الحاجة إلى الإعفاء. أما أسباب عدم الأهلية فكثيرة، وأبرزها: السمنة المنتشرة بين الشباب، المستويات القياسية من عدم اللياقة البدنية، مشكلات الصحة العقلية التي تفاقمت بسبب كورونا، وتعاطي المخدرات. كما إن درجات اختبار ASVAB (الاختبار العسكري الموحد للمجندين)، والذي يختبر الكفاءة للخدمة، انخفضت خلال الوباء.
حتى بين أولئك الذين ما زالوا مؤهلين فعلياً للخدمة، فإن عدداً أقل بكثير لديهم رغبة واضحة في القيام بذلك. لذا، يقول أقل من 10% من الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و21 عاماً إنهم سيفكرون بجدية في التطوع بالجيش، بحسب استطلاع أجراه مكتب تحليلات الأشخاص التابع للبنتاغون عام 2022.
اللافت، أن المهتمين بالخدمة مدفوعون إلى حد كبير بالعوامل المادية. ولهذا، أشار المشاركون في الاستطلاع إلى أن الأجور، والمساعدة في الرسوم الدراسية الجامعية، وفرص السفر، والفوائد الصحية، واكتساب المهارات المهنية، هي أهم خمسة أسباب للتفكير في الخدمة العسكرية. بينما قال 24% فقط إنهم سينضمون إلى الجيش بدافع الشعور بالفخر أو الشرف.
التجنيد في الجيش و"العائلات العسكرية"
على الرغم من أن عدد سكان الولايات المتحدة قد زاد بأكثر من 50% منذ نهاية نظام التجنيد الإجباري، فإن القوة العسكرية التطوعية (AVF) أصبحت تعتمد على نسبة أصغر وأصغر من الشعب. فالوحدات التي ترتكز بالكامل على المجندين، تعدّ العائلات العسكرية المصدر الرئيسي للمجندين الجدد فيها. فما يقرب من 80% من هؤلاء، لديهم فرد من أسرتهم في الجيش، ونحو 30% منهم يكون أحد الوالدين. وتبعاً لذلك، وبعد ولادة نظام (AVF) التطوعي، أضحت الخدمة العسكرية في الولايات المتحدة أشبه بشركة عائلية.
لكن اعتماد الجيش على العلاقات العائلية يحمل خطراً مباشراً على المؤسسة العسكرية قد يظهر في المستقبل المنظور، في ظل الانقسام الحاد القائم في المجتمع الأميركي، خصوصاً إذا قررت غالبية العائلات العسكرية، أن الأمة لا تستحق خدمة أبنائها، كما قد يحدث لدوافع عقائدية أو حزبية.
انهيار الثقة بالجيش والمؤسسات الأميركية عموماً
ما يقلق القائمين على حملات التجنيد أنهم يبحثون عن أفراد للخدمة في الوقت الخطأ. فثقة الأميركيين في مؤسسات بلادهم تنهار. والأمر يزداد صعوبة في بلد يرتفع فيه مستوى الاستقطاب والتشاؤم، للعثور على شباب يريدون أداء القسم للدستور والخدمة.
من هنا، يقول نحو 9% فقط من الشباب الأميركي إنهم من المحتمل أن يفكروا في الخدمة العسكرية، مقارنة بـ 16% في السنوات الأولى من حربي العراق وأفغانستان، وفقاً لاستطلاعات وزارة الدفاع. ولهذا، ألقى مسؤولو البنتاغون باللوم في الانخفاض الأخير على سوق العمل الساخنة. لكنهم كانوا يعلمون أيضاً أن انخفاض معدل البطالة لا يمكن أن يفسر مجمل المشكلة.
في السنوات الأخيرة، واستناداً إلى "مؤسسة غالوب" لاستطلاعات الرأي، تراجعت الثقة بجميع المؤسسات الأميركية (المحكمة العليا، الكونغرس، الشرطة، المدارس العامة). ومع أنها لا تزال تتمتع بشعبية نسبية، فإن القوات المسلحة لم تكن محصّنة، ففي عام 2023، قال نحو 60% من الأميركيين إن لديهم "قدراً كبيراً" من الثقة بالجيش، وهي أدنى نسبة منذ عام 1997، دائماً بحسب "غالوب".
وتعقيباً على ذلك، أقرت وزيرة الجيش كريستين ورموث في مقابلة صحفية بأن الجنود الأميركيين ينتشرون في جميع أنحاء العالم، ويقومون بتدريب القوات الأوكرانية، والعمل جنباً إلى جنب مع الحلفاء، لردع الصين وكوريا الشمالية وإيران". وأضافت: "إذا أصبحنا أصغر من اللازم، فإن قدرتنا على القيام بهذه الأشياء ستكون في خطر".
كما لعب سجل الولايات المتحدة الحافل بعقدين من الهزائم دوراً أساسياً في تقويض مكانة المؤسسة العسكرية الأميركية، ما تسبب في انحدار كبير في إيمان عامة الناس بالجيش، إلى حدّ أنه تحول إلى مادة للسخرية، بعدما أطلق عليه البعض لقب "الفريق الأميركي"، الذي لم يفز بأي مباراة منذ "عاصفة الصحراء"، قبل ولادة معظم أعضائه الحاليين.
وما زاد الطين بلّة بنظر مسؤولي التجنيد، هو دعوة كل من اليساريين واليمينيين علناً إلى رفض خوض ما يسمونه "الحروب غير الضرورية التي لا يمكن الفوز بها"، والتي تزامنت مع انخفاض حاد بشكل خاص في تجنيد الرجال والنساء البيض.
ومع استمرار انتشار القوات الأميركية في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، تكافح بعض الأقسام والوحدات العسكرية، مثل الدروع، والدفاع الجوي، وحاملات الطائرات، للحفاظ على نسبة خدمة تتراوح من 2 إلى 1، "أي عامين في الوطن، مقابل عام في الخارج" (النسبة المطلوبة من البنتاغون هي ثلاث سنوات في الوطن مقابل كل سنة في الخارج). وبالتالي، فإن هذه الوتيرة غير المستدامة تستنزف الجنود، وتقوض الروح المعنوية، وتساهم في انتشار وباء الانتحار بين العسكريين.
الجيل Z والتجنيد في الجيش
ينظر الجيل Z، الذي يشكل بالفعل نحو 40% من الأفراد العسكريين، إلى الخدمة في الجيش الأميركي بعيون مختلفة عن جيل الألفية الذي سبقهم (والذين شكلوا غالبية القوة المقاتلة في العراق وأفغانستان). فهذا "الجيل الشبكي" منغمس في العالم الرقمي، ولا يثق في السلطة المؤسسية، وغالباً ما ينظر إليه على أنه هش نفسياً. من هنا، يرى صناع القرار أن استيعاب الجيل Z هو مهمة صعبة بالنسبة إلى الجيش الذي يعطي الأولوية للتسلسل الهرمي، والثبات البدني والعقلي، والتضحية بالنفس.
ما يقض مضاجع القيادات العسكرية في واشنطن، أن الشباب الذين طُلب منهم أن يضعوا ثقتهم في قادة بلادهم (لإرسالهم إلى الحروب)، وفي مواطنيهم الذين سيقاتلون إلى جانبهم، لم يترددوا في "بيع أميركا".
علي دربج - أستاذ جامعي.