"الإدارة الذاتية الكردية" وخطوات أخرى على طريق الابتعاد عن دمشق
تستغل القوى الكردية حالة سورية استثنائية لتمرير ما يمكن تمريره من قوانين وإجراءات في اتجاه فرض مشروعها بعيداً عن المركز، حيث حوّلت كل تفاصيل الاقتصاد والتعليم والخدمات والمجتمع خدمةً لهذا المشروع.
ليس جديداً إعلان "الإدارة الذاتية الكردية" عن موازنتها العامة على الرغم من ما أحاط بتلك الإعلانات من غموض وعدم انتظام منذ عام 2013 عندما تأسست الإدارة حتى اليوم. الجديد يتعلق بحجم الموازنة المقررة للعام الجاري بمبلغ 1.059 مليار دولار واعتمادها على إيرادات النفط بنسبة تفوق الـ77%، أي ما يصل إلى 604 ملايين دولار، مقارنةً بموارد العام الماضي، في ظل عدم توفر معلومات أو بيانات معلنة للعام الحالي، فيما يرجح خبراء زيادة الواردات النفطية للإدارة الذاتية عن 1.7 مليار دولار تأتي من حقول النفط الكبرى في دير الزور والحسكة، وهي الحقول التي شكلت مصدر أكثر من 90% من مجمل إنتاج النفط السوري قبل 2011.
الأرقام قد تبدو عادية مقارنةً بعوائد النفط لدى الدول المنتجة للنفط، لكنها في الحالة السورية تصبح بالغة الأهمية مع اضطرار دمشق اليوم لاستيراد معظم حاجيات البلاد من الوقود بفاتورة تصل إلى نحو 2.5 مليار دولار سنوياً، بحسب تصريحات رسمية. وهي مبالغ تستنزف الموارد المالية القليلة أصلاً بعدما كانت تلك الثروة المصدر الأساسي للقطع الأجنبية على مدى عقود. عدا عن فاتورة القمح التي تكلف مئات ملايين الدولارات سنوياً بعدما كانت صوامع الحبوب السورية تمتلئ بما تنتجه حقول الحسكة والرقة قمحاً وشعيراً وذرة قبل سنوات الحرب.
تفرض تلك الصورة حضورها المستفز في باقي مدن وبلدات سوريا، التي تعاني من نقص في الكهرباء وشح في البنزين والغاز المنزلي، وأزمة معيشية تقول أرقام أممية إنها أدخلت 90% من السوريين في خانة الفقر. مشهد ينكئ جراحات عميقة في جسد البلاد وهي تكافح بحثاً عن ثغرات تكسر جدار المقاطعة المفروضة عليها، فيما تواجه داخلياً أخطر صور تهديد وحدتها ومستقبلها، ليس من بوابة نهب ثرواتها النفطية على خطورته، وإنّما من محاولة فرض أمر واقع تتجاوز فيه مكونات سياسية ومجتمعية مؤسسات الدولة وتذهب في اتجاه فرض مشاريع تهدد وحدة البلاد.
فرغم ثقل الخسارة الاقتصادية جراء استئثار "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا" للثروات النفطية والزراعية والمعابر الحدودية الا أنها ليست الضاغط الوحيد اليوم في العلاقة المحفوفة بالألغام بين دمشق والقوى الكردية المسيطرة على القرار شرق الفرات بدعم توفره أكثر من عشرين قاعدة أميركية.
ثمة مسار تكرسه تلك القوى يسير بخطى مبرمجة بدأ بتغيير المناهج التعليمية الرسمية وفرض مناهج تعليمية أقرّتها "الإدارة الذاتية" منذ نحو 8 سنوات تدريجياً، لتتبعها بالسيطرة على مئات المدارس ومختلف مؤسسات الدولة، وإطلاق تعليم جامعي بعيداً عن منظومة التعليم العالي السورية، وعن معايير التعليم العالي في العالم. وأكملتها نهاية العام الماضي بفرض "العقد الاجتماعي" الجديد الذي يشكل بمثابة دستور لتلك المنطقة، لتقوم "الإدارة الذاتية" عبر العقد الجديد بتوحيد ما سمته سبعة أقاليم، وهي تسمية جديدة على السوريين، هي الجزيرة ودير الزور والرقة والفرات ومنبج وعفرين والطبقة، ما يعني تطبيق قوانين " الإدارة الذاتية " في تلك الجغرافيا التي تمثل نحو 25% من مساحة الأراضي السورية، وما يسمح لها بفرض التجنيد الاجباري ضمن صفوف " قوات سوريا الديمقراطية" - "قسد"، وبالتأكيد التعليم وفق مناهجه الجديدة.
يحمل "العقد الاجتماعي" كثيراً من المواد التي ترسخ الابتعاد عن المركز، بدءاً من مقدمته التي تضمنت عبارة "أبناء وبنات وشعوب شمال شرق سوريا"، مثلا بدلاً عن " الشعب السوري" واعتماد "اللغات العربية والكردية والسريانية لغات رسمية في منطقة سيطرة الإدارة" وصولاً إلى التقسيمات الإدارية الأخيرة التي تلغي حدوداً إدارية معمول بها سابقاً، وخلط مدن وبلدات تتبع كل منها إلى محافظة.
تنسف تلك التقسيمات كل ما سبقها وتمهد، كما يبدو، إلى تأسيس فيدرالية لم تخفها "الإدارة الذاتية" ولا القوى السياسية المشكلة لها. أكثر من ذلك، تؤسس هذه التقسيمات لإشكالات عبر منع الاستقرار لآلاف الأسر وهدم الروابط بين المكونات المحلية، تضاف إلى مشكلات عقارية وآليات نقل الملكية والحدود الموصوفة للمدن والبلدات والقرى ضمن مخططات طبوغرافية، وكلها تشكل تجاوزاً، إن لم يكن إلغاءً فعلياً لقانون الإدارة المحلية 107 المعمول به في سوريا منذ عام 2011، والذي اتخذته دمشق قاعدة في مفاوضتها مع "الإدارة الذاتية" مع طرح فكرة تطويره وتوسيعه لتخفيف المركزية الإدارية.
تستغل القوى الكردية حالة سورية استثنائية لتمرير ما يمكن تمريره من قوانين وإجراءات في اتجاه فرض مشروعها بعيداً من المركز، حيث حوّلت كل تفاصيل الاقتصاد والتعليم والخدمات والمجتمع خدمةً لهذا المشروع، وصعّبت فعلياً عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه في أي ترتيبات مقبلة.
واقعٌ يفرض في المقابل على دمشق تعاطياً مختلفاً مع قضية حيوية تتعلق بوحدة ومستقبل البلاد. قد لا يبدو الوضع العام يسمح باللجوء إلى القوة المباشرة في ظل الوضع السوري العام، لكن مجالات التحرك ليست ضيّقة، وتشمل فيما تشمل دول إقليمية تتضرر أيضاً من أي مس بوحدة سوريا، فيما الرهان على المكون المجتمعي العربي الرافض للتهميش، وأخيراً على قوى وأحزاب وشخصيات كردية ترى أنّ الكرد فوّتوا فرصة كبيرة منذ عام 2012 للحوار مع دمشق، بناءً على دعوات رئاسية في حينه. وقد اعترف سكرتير الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي السابق عبد الحميد درويش بالخطأ الذي ارتكبته تلك القوى برفض الحوار مع دمشق وإهدار تلك الفرصة التاريخية.