"جيوش المؤثرين" في خدمة السردية الإسرائيلية.. آلية العمل والأهداف

تبذل حكومة الكيان الجهود الكبيرة بهدف ملء شبكات التواصل الاجتماعي بمحتوى مؤيد لـ"إسرائيل" من أجل مواجهة الانتقادات التي تعاني منها بسبب عدوانها على غزة.

  • "جيوش المؤثرين" في خدمة السردية الإسرائيلية.. آلية العمل والأهداف

يُعَدّ المؤثرون من أهم الظواهر التي تجتاح وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يساهمون في تسويق عدد كبير من السلع والخدمات، وحتى الأفراد والأفكار. وأصبحوا، في الأعوام الأخيرة، يشكلون قوة لمشغليهم، ويساهمون في تشكيل الرأي العام.

انطلاقاً من ذلك، قررت "إسرائيل" أن توظف جيشاً من المؤثرين من أجل نشر دعايتها، وخصوصاً لدى الرأي العام الغربي، والذي وصلت إليه وحشية جرائمها، بفضل جهود ناشطين من غزة وخارجها، والذين تحول كل منهم إلى صحافي عالمي ينقل الخبر من أرض الواقع. لكن الخطة الإسرائيلية لم تقتصر على تجنيد المؤثرين فقط، بل عمدت أيضاً إلى تطويع قطاع السينما والأفلام.

تؤكد الجهود الضخمة، التي تبذلها الحكومة الإسرائيلية، عبر وزارة الإعلام ووحدة "الهاسبارا"، مدى أهمية العمل والنشاط الإعلامي، سواء في المجال التلفزيوني أو الصحافة المكتوبة، وحتى عبر منصات التواصل الاجتماعي. وتؤكد حاجتها إلى أن يقف الرأي العام العالمي إلى جانبها، ولو عن طريق التوجيه والتضليل، وخصوصاً بعد أن ترسخت لدى الشعوب صورتها الوحشية بحق الشعب الفلسطيني.

آلية عمل العقل الإعلامي الإسرائيلي 

دعت "إسرائيل"، في كانون الثاني/يناير 2024، عدداً من المؤثرين الإسرائيليين إلى زيارة منطقة غلاف غزة بهدف أخذ الصور والفيديوهات عما تزعم أنه تقدم إسرائيلي عسكري، ثم باشرت مشاركتها في صفحاتهم الشخصية التي يتابعها الآلاف، بل ربما الملايين من حول العالم.

وشاركت صحيفة "ميديا - بارت"، الناطقة باللغة الفرنسية، في الرحلة، ووثقتها في تقرير إخباري في موقعها، لتكون هي أيضاً شريكة في نشر الدعاية الإسرائيلية وترويجها.  وذكرت أن هذه المجموعة كان كان يرافقها عدد من المتطوعين والعاملين في مجال حرب المعلومات.

مشاركة "ميديا - بارت" في توثيق هذه الرحلة تدحض ادعاءها الاستقلالية وعدم الانحياز. أنشأ إدوي بلينيل  "ميديا - بارت" في عام 2008، وهو رئيس التحرير السابق لصحيفة "لوموند" الشهيرة. وتنشر أعمالها باللغات الفرنسية والإنكليزية والإسبانية. ونشرت "ميديا - بارت" مئات التحقيقات، على مدى الأعوام الخمسة عشر الماضية، بشأن الفساد السياسي، والفساد المالي، أهمها التحقيق بشأن عدد الهجمات الموثّقة والمعلنة ضد مساجد في فرنسا منذ عام 2019، والذي أظهر أن دور السياسة الرسمية للدولة الفرنسية في حل المؤسسات الإسلامية الرسمية وتهميشها يزيد الأوضاع تعقيداً.

بالعودة إلى رحلة صناعة الدعاية الإسرائيلية، بيّنت الشركة أنه تمت دعوة نحو عشرة من أصحاب النفوذ الإسرائيليين من أجل المشاركة في هذه الجولة المصحوبة بالمتخصصين بمجال حرب المعلومات والدعاية والتأثير، للقيام برحلة في البلدات المحتلة، والتي أخفى الجيش الإسرائيلي انها تضررت بفعل قصفه لها، وقتل عدد من سكانها، عندما لم يتمكن من احتواء عملية المقاومة في السابع من أكتوبر. 

تبذل حكومة الكيان جهوداً كبيرة بهدف ملء شبكات التواصل الاجتماعي بمحتوى مؤيد لـ"إسرائيل"، من أجل مواجهة الانتقادات التي تعانيها بسبب عدوانها على غزة، بحيث فقد أكثر من 28,000 شخص حياتهم حتى الآن، أغلبيتهم من النساء والأطفال.

تم إنشاء 120 غرفة عمليات وعشرات قواعد البيانات، التي تتعامل مع الدبلوماسية العامة ("الهسبارا") مباشرة، بعد السابع من أكتوبر، كما تم إنشاء العشرات، إن لم يكن المئات، من "غرف الحرب" المدنية، من أجل بث المواد التوضيحية للدبلوماسية العامة الإسرائيلية. وتم تشكيل مجموعات عمل تركز على التكنولوجيا والحملة المعرفية، المصممة لجعل "الهسبارا"  أكثر فعالية.

قبل الحرب الأخيرة، لم يكن كثيرون من المؤثرين الإسرائيليين جنوداً في الجبهات الافتراضية، قبل الـ7 من أكتوبر، لكن بعد انتشار وحشية الكيان المحتل، عبر شاشات العالم، وانتشار الأصوات التي تدين تصرفاته وتجرمه، اضطرت حكومة الكيان الى تفعيل استراتيجية "الهسبارا" والعمل مع المدنيين والمؤثرين من أجل محاولة عكس هذه الحقائق، عندما اكتشف القائمون عليها أن جهودهم لم تكن فعالة في مواجهة التسونامي العالمي من الخطابات المؤيدة للفلسطينيين.

لجأ كيان الاحتلال إلى الاستعانة بأحد أبرز المؤثرين في منصات التواصل، وهي سيسيليا دينوت، المعروفة باسم جوردا مئير، وهي حاصلة على شهادة في العلاقات العامة والعلوم السياسية من جامعة لا ماتانزا (UNLaM)، وعلى درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة توركواتو دي تيلا (UTDT). وهي أستاذة في كلية العلوم الاجتماعية في جامعة بوينس آيرس (UBA)، بحيث تشغل منصب أستاذة لمجموعة بحثية بشأن الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي.

تقدم دينوت دورات ومؤتمرات وتدريبات تتعلق بـ"إسرائيل" في عدد من المؤسسات اليهودية وغير اليهودية في الأرجنتين وغيرها من البلدان الناطقة بالإسبانية، وتكتب عن هذا الموضوع في مختلف وسائل الإعلام، من أجل خلق تصور وهمي عن "إسرائيل"، ومحاولة فرض صورة الكيان، كما تريدها "نل أبيب"، في العالم.

بالإضافة الى ذلك، سخّرت سيسيليا دينوت حسابها في منصتي "أكس" و"إنستغرام"، من أجل نشر السردية الاسرائيلية والقيام بمقابلات مع عدد كبير من المستوطنين من أجل "أنسنة" الاحتلال أمام الرأي العام اللاتيني، بصورة محددة، لكنها تعرضت لعدد من الانتقادات، التي عرّت أكذوبتها وسخرت من ادعائها، بعد أن ادعت أن هناك عمالاً إسرائيليين يقومون بالتنقيب للبحث عن بقايا بشرية بعد هجوم الـ7 من أكتوبر.

مشروع "سلينغ - شوت" محاولة إسرائيلية بائسة لتغيير التصور العام عن إجرامها

ضمن السياق نفسه، أطلقت AdFreeway مشروع "سلينغ - شوت" لتغيير التصور العام وسط العدوان على غزة، بحيث يهدف إلى مواجهة المشاعر المعادية لـ"إسرائيل" من خلال وضع إعلانات مناصرة للاحتلال بصورة استراتيجية في المواقع الرئيسة.

وعلى عكس استراتيجيات المناصرة التقليدية، يمثل هذا المشروع تحولاً استراتيجياً، من الموقف الدفاعي إلى نهج "هجومي"، ويتحدى المشاعر الرافضة لـ"إسرائيل" في المناطق التي أثبتت مقاومتها للجهود السابقة.

يعالج مشروع "سلينغ - شوت" المخاوف الملحّة فيما يتعلق بخوارزميات الوسائط الاجتماعية، وخصوصاً في منصات، مثل TikTok، بحيث يزعم المشروع أن هذه الخوارزميات تتلاعب بتوزيع المحتوى، وتفضل وجهات النظر المؤيدة للفلسطينيين على وجهات النظر المؤيدة لـ"إسرائيل". كما يعمل مشروع "سلينغ - شوت" من تكنولوجيا الإعلانات الخاصة به لوضع الدعاية الإسرائيلية بصورة استراتيجية ضمن مواقع الويب البارزة، مثل "سي أن إن"، و"بي بي سي". 

حرب المعلومات الإسرائيلية: تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم

قبل نحو أسبوعين من "طوفان الأقصى"، وقف رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أمام غرفة فارغة في مقر الأمم المتحدة في مدينة نيويورك، ولوح بخريطة لما وعد بأن يكون "الشرق الأوسط الجديد". لقد صور "دولة إسرائيل"، التي امتدت، عير هذه الحريطة، من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط. في هذه الخريطة، تم محو غزة والضفة الغربية. الفلسطينيون لم يكونوا موجودين.

عمل نتنياهو، ضمن خطة، على تحديد السردية والسيطرة عليها، وخصوصاً عند استهدافه للجمهور الأميركي. وعمل على تطوير عقيدة "الهسبارا" الدعائية الإسرائيلية - وهي فكرة مفادها أن الإسرائيليين يجب أن يكونوا عدوانيين بشأن "شرح" أفعالهم وتبريرها للغرب - من أجل التلاعب بخصومه وحلفائه، المحليين والدوليين.

بناءً على ذلك، إن محور حملة حرب المعلومات الإسرائيلية هو مهمة تكتيكية لتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، وإغراق الخطاب العام في سيل من الادعاءات الكاذبة، التي لا أساس لها، ولا يمكن التحقق منها. بصورة عامة، يعمل الكيان المحتل على نشر محتوى مؤيد له، من أجل مواجهة الانتقادات التي يعانيها بسبب حربه الوحشية على قطاع غزة.

وتعمل التصريحات التحريضية، الصادرة عن شخصيات إسرائيلية بارزة، على تطبيع أفكار وجعل تداولها طبيعياً، مثل قتل المدنيين والترحيل الجماعي، والتي أوردت الدعوات إلى "تسوية" غزة أو "محوها" أو "تدميرها". وبذلك، يحاول الاحتلال الإسرائيلي التقليل من أهمية "الخبر" من خلال تحويله إلى "خبر يومي" عادي، مع إضافة تبريرات عليه من قبل "المؤثرين". وإذا كان الاحتلال قد اتجه إلى هذا الأمر بدافع "تبييض صورته"، فإن أكثر ما يعطّل الأهداف التي يسعى إليها ليس فقط افتقارها للمعطيات والوقائع الميدانية، بل أيضاً قدرة الطرف الآخر من محبي ومناصري المقاومة، ومن المتضامنين مع قضية الشعب الفلسطيني على التأثير بشكل مضاد وممنهج، وهذا الأمر مثبت في الأشهر الماضية مع العجز الإسرائيلي المستمر في تلميع صورة الإبادة والمجازر.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.