من رحم الألم والمعاناة في غزة: شقيقان يصنعان أطرافاً صناعية بوسائل بدائية
في قلب معاناة الحرب والنزوح، ابتكر الشقيقان صلاح وعبدالله سلمي أطرافاً اصطناعية بدائية بمواد بسيطة، ليعيدوا الأمل والحركة لمبتوري غزة وسط حصار خانق وظروف قاسية.
بينما يُقلّب صلاح سلمي في هاتفه القديم بحثاً عن صورة للطرف الاصطناعي الذي صممه قبل مدة قصيرة، تلمع في عينيه نظرة رضا، ويقول بصوت هادئ، لكنه يحمل إصراراً: "لم أكن أتصور يوماً أن ما تعلمته في مهنة العلاج الوظيفي سيتحول إلى مهمة حياة أو موت".
صلاح، الذي اضطر للنزوح من شمال غزة إلى جنوبها بسبب الحرب، وجد نفسه أمام مأساة متزايدة فمئات مبتوري الأطراف يعيشون بلا أمل في الحصول على بدائل تساعدهم على الحركة، بعد أن تعطلت مراكز صناعة الأطراف الاصطناعية الثلاثة في شمال القطاع، شعر بأنه لا يمكنه الوقوف مكتوف اليدين.
النار تُشعل الأمل
بينما يضرم النار في أعواد الحطب أمام خيمته التي حوّلها إلى ورشة عمل، يروي صلاح قصته: "لم يكن لديّ خيار سوى استخدام المواد المتوفرة، جلبتُ مواسير بلاستيكية وخشب، وبدأت أبتكر أطرافاً بدائية"، يضيف بابتسامة خفيفة وهو يمسح العرق عن جبينه: "حتى النار هنا ليست طبيعية حيث نستخدم الحطب لأننا نفتقر إلى غاز الطهي، والحصول عليه يحتاج وقتاً طويلاً".
يعمل صلاح على تسخين البلاستيك بحذر شديد، متابعاً كل حركة كما لو كان يرسم لوحة فنية: "عندما أرى المبتورين يمشون مجدداً، أدرك أن تعبنا لا يضيع سدى".
إعادة الأمل لضحايا العدوان في غزة
من جهته، يجلس عبدالله سلمي بجوار شقيقه، يمسك بسكين معدنية يسخنها على النار، ويبدأ بنحت البلاستيك ليأخذ شكلاً يناسب أحد المرضى، ويستذكر بحسرة أيام عمله في مركز الأطراف الاصطناعية في غزة: "قبل الحرب كنا نعمل بأحدث الأدوات والمواد، واليوم أصبحنا نصنع الأطراف من مواد كانت مخصصة للصرف الصحي، ما وصل إليه قطاع غزة اليوم مأساوي يفوق الوصف".
عبدالله يؤمن بأن ما يفعله مع شقيقه ليس مجرد صناعة أطراف بديلة، بل هو إعادة للحياة لمن دمرتهم الحرب "مع كل طرف نصنعه، أرى نظرة أمل في عيون المريض، هذا يكفينا لنواصل حتى لو كانت الإمكانيات شحيحة ".
الابتكار في أحلك الظروف
مع اشتداد الحرب والحصار، لم يكن الحصول على المواد الخام أمراً سهلاً، يشرح صلاح التحديات التي واجهته مع أخيه، قائلاً: "في كل مرة نحتاج فيها إلى خشب أو مواسير بلاستيكية نضطر إلى البحث طويلاً؛ لأن الأسواق شبه خالية، حتى أبسط الأشياء أصبحت نادرة".
عبدالله يتفق مع شقيقه، مضيفاً: "المواد ليست المشكلة الوحيدة، نحن نعمل في خيمة غير مهيأة بلا كهرباء أو أدوات مناسبة، ومع ذلك ننجح في تصميم أطراف ثابتة ومتحركة، هكذا اعتاد العالم أن يرى الشباب يصنعون المعجزات لا ينتظرونها" .
فرصة جديدة للحياة
بينما ينظر صلاح إلى مريض جديد يدخل خيمتهما، يوضح أهمية ما يقومان به: "الأمر لا يتعلق فقط بالحركة، الطرف الاصطناعي يمنح الشخص استقلالية، تخيل أن تكون غير قادر على ارتداء ملابسك بنفسك أو التنقل دون مساعدة، هذا ما نحاول تغييره".
عبدالله يضيف من جانبه: "كلما صممنا طرفاً ونجح، نشعر وكأننا نعطي هذا الشخص فرصة جديدة للحياة، هذا إنجاز لا يمكن أن يُقدّر بثمن".
تجربة المشي بعد البتر
على عكازيه وبخطوات بطيئة، يدخل رأفت عيطة، شاب في الثلاثينيات فقد ساقه في قصف عنيف في إحدى مراكز الإيواء، إلى ورشة الأخوين، يجلس بصمت للحظات قبل أن يقول بصوت متهدج: "لم أتخيل أنني سأتمكن من المشي مجدداً" .
صلاح يباشر عمله بتركيز، يُلبس رأفت قطعة قماش مرنة على ساقه المبتورة، ثم يركّب الطرف الاصطناعي البلاستيكي ويثبته بحرص باستخدام المسامير "جرب الآن"، يقول لرأفت بنبرة تفاؤل.
يقف رأفت بحذر، ثم يمشي خطوات مترددة، فجأة تتسع ابتسامته بعد أشهر طويلة من الحزن والعجز وهو يقول: "هذا الطرف سيغير حياتي، لم أعد بحاجة إلى عكازين".
الإبداع في ظل العدوان والحصار
لم تكن مبادرة الأخوين مجرد استجابة طارئة، بل تحولت إلى مشروع صغير يعكس إبداع الفلسطينيين في مواجهة ظروفهم الصعبة، يقول عبدالله: "نحن لا نملك رفاهية الانتظار، على الرغم من النزوح والتحديات قررنا أن نفعل شيئاً بما لدينا، إذا كانت إمكانياتنا بسيطة، فهذا لا يعني أن أحلامنا صغيرة".
صلاح يضيف: "الحصار والنزوح لم يمنعانا من التفكير خارج الصندوق، كل ما نريده هو أن نعيد للمصابين جزءاً من حياتهم".
قبل مغادرة خيمتهما، يؤكد الأخوان أن هذه المبادرة ليست نهاية المطاف: "نحلم بأن نتمكن يوماً من الحصول على مواد أفضل في ظل الإغلاق المستمر للمعابر، حتى نتمكن من خدمة أكبر عدد من مبتوري الأطراف في غزة"، يقول صلاح.
ويختم عبدالله قائلاً: "ما نقوم به هو واجبنا تجاه مجتمعنا، نحن نصنع الأمل بأبسط الإمكانيات، وهذا ما يجعلنا نستمر".
في غزة، حيث يحاصر الألم الأجساد والأحلام، تبقى مبادرة الأخوين سلمي شعاعاً ينير حياة من فقدوا أطرافهم، ويثبت أن الإرادة قادرة على تجاوز كل العقبات.