كيف أعادت غزة 2023 ألمانيا إلى حقيقتها التاريخية في ناميبيا 1904؟
جلسات محاكمة "إسرائيل" بجرائم الإبادة الجماعية في لاهاي تعيد إلى الواجهة تاريخ ألمانيا الأسود في أفريقيا، فماذا عن جرائم الإستعمار الألماني لناميبيا في القرن العشرين؟
ضمّت ناميبيا صوتها، إلى أصوات أفريقية أخرى، طالبت بمحاسبة كيان الاحتلال في محكمة العدل الدولية، وبوقف فوري للعدوان الإسرائيلي وما يرتكبه من إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، تصاعدت وتيرتها منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، والذي لم يكتفِ بإعدام البشر فقط، إنما أعدم الحياة وركائزها في القطاع.
تحضر ناميبيا الجلسات في لاهاي، والتي تُعقد نتيجة دعوى تقدّمت بها دولة جنوب أفريقيا في محكمة العدل، تتهم فيها "إسرائيل" بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية في غزة، واستندت الدولة في دعواها إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمنع هذه الجرائم والمعاقبة عليها، والمصادق عليها عام 1948.
الدعوى المقدّمة من بريتوريا حظيت بتأييد العديد من الدول حول العالم، ومن بينها دول في أميركا اللاتينية (بوليفيا، فنزويلا، البرازيل، نيكاراغوا، كولومبيا...)، وهي دول عانت تاريخياً من الاستعمار والاضطهاد. لكنّ موقفاً متقدماً سجلته ناميبيا في لاهاي.
دانت ناميبيا، خلال جلسات محكمة العدل الدولية، رفض ألمانيا دعوى جنوب أفريقيا ودعمها لـ"إسرائيل" في مواصلتها ارتكاب الإبادة الجماعية، معيدةً برلين إلى حقيقتها التاريخية، التي لا تختلف أبداً عن الممارسات الإسرائيلية، والتي سبق أن عانت منها ناميبيا نفسها.
"على الأراضي الناميبية، ارتكبت ألمانيا أول إبادة جماعية في القرن العشرين في عامي 1904-1908، والتي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الناميبيين الأبرياء في ظروفٍ وحشية ولا إنسانية"، وفق بيانٍ للرئاسة الناميبية.
ألمانيا أبادت قبائل في ناميبيا
شنّت القوات الألمانية حملة إبادة جماعية لمواجهة انتفاضة شعبية اشتعلت في ناميبيا رفضاً لممارسات الاستعمار الألماني ومحاولته السيطرة على مساحات واسعة من أراضي الدولة الأفريقية ومن المواشي التي تعود للقبائل الأفريقية.
استعمرت برلين ناميبيا لـ 31 عاماً (1884 – 1915) وعام 1904، "أطلقت الإمبراطورية الألمانية حملة من القتل والتعذيب بعد أن رفضت القبائل الحكم الاستعماري. وقُتل ما يقدر بنحو 80% من شعب الهيريرو و50% من شعب الناما، تتراوح التقديرات بين 34000 و100000 شخص. وهم الآن أقليات مهمشة سياسياً في ناميبيا"، وفق صحيفة "الغارديان" البريطانية.
وكان قائد الإدارة العسكرية الألمانية هناك في ذلك الحين، لوثار فون تروثا، قد أصدر أمراً بإبادة هاتين المجموعتين، بمن فيهما من رجال ونساء وأطفال أيضاً. إلى جانب الدم والقتل، أدت هذه الإبادة إلى آثار اجتماعية، إذ أجبر أبناء القبيلتين على النزوح إلى الصحراء.
وكل من حاول العودة إلى أرضه تعرض للقتل أوالاحتجاز في معسكرات خاصة. وخلال فترة النزوح فقد الأفارقة حياتهم بسبب الجوع والعطش وانتشار الأمراض، وأشارت شبكة "بي بي سي" في تقرير لها، أن بعض النازحين الأفريقيين كانوا عرضةً للاستغلال الجنسي والتجارب الطبية.
وذكرت "الغارديان" أيضاً أن الإبادة الجماعية هذه أدت إلى فقدان "80% من أراضي أجداد ناما - معظمها يشغلها الآن مزارعون من أصل ألماني - بالإضافة إلى الأضرار التي لحقت بسبل العيش والهوية على مدى الأجيال".
لم تغب الآثار النفسية أيضاً لجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها ألمانيا في الدولة الأفريقية، ففي العام 2018، أعادت برلين رفات بشرية تعود إلى أفريقيين من ناميبيا، وبحسب تقرير الشبكة البريطانية، فإن ألمانيا استخدمتها ضمن بحث لـ "إثبات التفوق العنصري للأوروبيين البيض".
اعتراف ألماني
في أيار/مايو عام 2021، اعترفت ألمانيا رسمياً بهذه الإبادة الجماعية بحق القبائل الناميبية (في سياق زعمها "اتفاق مصالحة" مع الدولة الأفريقية). وفي تصريحات لوزير الخارجية الألماني السابق، هيكو ماس، قال إن "أعمال القتل تلك إبادة جماعية".
هذا الاعتراف على لسان مسؤول ألماني جاء على الرغم من أن مصطلح "الإبادة الجماعية" بمعناه القانوني تبلور بعد أن صدرت اتفاقية الإبادة الجماعية المؤرخة في كانون الأول/ ديسمبر 1948 والتي لا يمكن تطبيقها بأثر رجعي.
ونقلت "الغارديان" عن مستشارة المحامين الناميبيين، كارينا ثورير، قولها إن ألمانيا جادلت ضد المسؤولية في هذه الإبادة الجماعية، وأن الخشية كانت من أن تفتح هذه القضية الباب أمام ما ارتكبته قوى الاحتلال والاستعمار في مستعمرات أخرى سابقة.
اعتراف ألمانيا بجرائمها لا يعني صك براءة لها، لا بل أنّ هذا الاعتراف لم يمنعها من الاستمرار في هذا النهج الإجرامي الاستعماري والذي تجسّد دعماً لـ "إسرائيل" في لاهاي. إذ وفضلاً عن رفضها تقديم تعويضات مالية للضحايا الأفريقيين، "لا تستطيع أن تعبّر أخلاقياً عن التزامها باتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة الإبادة الجماعية، بما في ذلك التكفير عن الإبادة الجماعية في ناميبيا، في حين تدعم ما يعادل المحرقة والإبادة الجماعية في غزة".
تمكّنت أفريقيا اليوم من تحريك مطرقة محكمة العدل الدولية في وجه تحالف استعماري واحد منذ ناميبيا 1904 إلى غزّة 2023، لتكون الجلسات في لاهاي ضد "إسرائيل" تعويضاً معنوياً لحق الشعب الأفريقي، وموقفاً واضحاً مع غزّة وأهلها ممّن شرّبهم الاستعمار الكأس المرّة نفسها.