بوتين ولغته الدبلوماسية الناعمة مع نظرائه الأميركيين.. أيّ دوافع؟

بوتين الذي يستعد هذه الأيام لإعادة انتخابه في آذار/مارس المقبل، واجه خلال 24 عاماً رؤساء أميركيين مختلفين، من بيل كلينتون إلى جو بايدن. والغريب أنه أشاد في بعض الأحيان بنظرائه الأميركيين.

  • لقاء سابق بين بوتين وبايدن في موسكو عندما كان الأخير نائب رئيس عام 2011 (أرشيف)
    لقاء سابق بين بوتين وبايدن في موسكو عندما كان الأخير نائب رئيس عام 2011 (أرشيف)

لطالما أثار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الجدل حول تصرفاته؛ فتارة رأيناه رجل حرب حازماً، كما في الشيشان وجورجيا، وطوراً ظهر علينا كبطل لإنقاذه طاقماً تلفزيونياً من هجوم نمر سيبيري في أحراج في أقصى الشرق. وحيناً، شاهدناه محترفاً يتفوق على خصمه في لعبة الجودو. ومرة رُصد كمروض للنمور، وحتى صياد أسماك ماهر، وأخيراً وليس آخراً، عرفناه نداً شرساً في مقارعة الغرب، وخصوصاً في أوكرانيا.

لمن لا يعرف، فبوتين يمتلك أيضاً مهارات إضافية تتثمل بقوة لغته الدبلوماسية الناعمة والفريدة والمبطّنة في مخاطبة الخصوم، وخصوصاً نظراءه الأميركيين، والردّ على كلامهم بحقه، حتى المُهين منه، والتي طعّمها بقدرته الفائقة على عدم الانجرار إلى سجال كلامي أو إعلامي، كما يحصل في العادة بين رؤساء بعض الدول، والأهم عدم خروجه عن رصانته، وبالتالي المحافظة على الكاريزما التي يتمتع بها شخصه. 

اللغة التي اعتمدها بوتين في التعامل مع نظرائه الأميركيين

يسجّل لبوتين براعته في الاقتصاد بالكلام في ردوده على نظرائه الذين يتناولونه بالسوء بتصريحاتهم، فضلاً عن استخدامه العبارات المنتقاة بعناية شديدة، والتي لا تخلو من الحنكة والذكاء، حتى إن الحدة في خطابه لها أوقاتها، ومرات أخرى تحمل نبرة انتقادية، وهي ميزة عرف بها الزعيم الروسي الذي أثبت على مر السنين أنه سيد التصيّد، مع ميل إلى الخطوط الأحادية التي غالباً ما ترمي أو تسكت محاوريه.

بوتين الذي يستعد هذه الأيام للفوز بإعادة انتخابه في آذار/مارس المقبل واجه خلال 24 عاماً رؤساء أميركيين مختلفين، من بيل كلينتون إلى جو بايدن. والغريب أنه أشاد في بعض الأحيان بنظرائه الأميركيين، على الرغم من أن دوافعه النهائية ليست واضحة تماماً من وراء هذه الإشادات.

كيف ينظر بوتين إلى بايدن؟

جاءت أحدث تعليقات بوتين حول بايدن خلال مقابلة مع الصحافي الروسي بافيل زاروبين في 15 شباط/فبراير الجاري، حين سُئل على وجه التحديد: "من هو الأفضل بالنسبة إلى روسيا: بايدن أم ترامب؟"؛ منافسه المحتمل في الانتخابات الرئاسية هذا العام.

المفاجأة التي لم يتوقعها أحد هنا هي أن بوتين الذي يبلغ 71 عاماً، أي أنه أصغر من بايدن بعشر سنوات، دافع عن الرئيس الأميركي في مواجهة الانتقادات الموجهة لكبر سنه، إذ رد بالقول إن "السباق الرئاسي الأميركي أصبح صعباً"، وأضاف: "سيكون من الخطأ التدخل فيه"، لكنه ما لبث أن استطرد بالإشارة إلى تفاعلاته مع بايدن عندما التقيا آخر مرة في جنيف عام 2021.

أكثر من ذلك، حرص بوتين أثناء الحديث عن هذا اللقاء الذي كان قد عقده مع بايدن في سويسرا قبل 3 سنوات على عدم الخوض في السجالات الدائرة حول صحته العقلية، مضيفاً: "حتى في ذلك الوقت، قالوا إنه غير كفء.. لم أرَ شيئاً مثل ذلك". وأضاف الرئيس الروسي: "حسناً، نعم، نظر إلى قطعة ورقة، ونظرت إلى ورقتي. لا شيء غير طبيعي. وإذا ضرب رأسه أثناء خروجه من طائرة هليكوبتر في وقت ما، فمن لم يفعل ذلك؟ أنا لست طبيباً؛ لا أعتقد أن لديّ الحق في التعليق على هذا الأمر".

واستغل بوتين مناسبة مقابلة يوم الأربعاء الشهيرة في 14 شباط/فبراير الجاري لإزعاج المذيع الأميركي اليميني المتطرف تاكر كارلسون الذي تسببت مقابلته الفاترة التي استمرت ساعتين مع بوتين بموجة انتقادات واسعة النطاق، لفشله، في رأي منتقديه، في استجواب الزعيم الروسي، فقال بوتين: "اعتقدت بصراحة أنه سيكون عدوانياً، وأن يطرح أسئلة صعبة. لم أكن مستعداً لذلك فحسب، بل أردت ذلك، لأنه سيمنحني الفرصة لتقديم إجابات صعبة"، وتابع: "لأكُن صريحاً. لم أستمتع تماماً بتلك المقابلة".

أما ردّ بوتين على وصف بايدن له بأنه "قاتل وليس لديه روح" خلال مقابلة مع جورج ستيفانوبولوس من ABC News عام 2021، فقد أتى مغايراً للتوقعات، فتمنى الرئيس الروسي آنذاك لبايدن صحة جيدة، وتابع: "أنا أعرفه شخصياً، وماذا سأجيب عنه. كنت أقول له: كن بصحة جيدة. أتمنى له الصحة. أقول هذا من دون سخرية، من دون مزاح".

ليس هذا فحسب، فقد تعمد بوتين، وبشكل غير مباشر، تذكير نظيره الأميركي بايدن بسجل بلاده الأسود، متوجهاً إليه بالقول: "إن تاريخ كل أمة وكل دولة مليء بالأحداث الصعبة والدراماتيكية والدموية، لكن عندما نقيّم أشخاصاً آخرين أو حتى عندما نقيم دولاً أخرى، أمماً أخرى، فإننا دائماً ننظر في المرآة. نحن دائماً نرى أنفسنا هناك، لأننا ننقل دائماً إلى شخص آخر ما نتنفسه بأنفسنا، وما نحن عليه في الجوهر".

قبل أيام، سخر الرئيس الروسي من بايدن الذي كان وصفه بأنه "مجنون SOB" ، واصفاً كلامه بـ"الوقح". وعندما سأله التلفزيون الرسمي الروسي عن تصريحات بايدن "الفظة" بعد رحلة على متن قاذفة استراتيجية قادرة على حمل رؤوس حربية نووية، ابتسم بوتين بسخرية وعض على شفته قبل أن ينظر إلى الأرض قائلاً: "نحن مستعدون للعمل مع أي رئيس، لكني أعتقد أن بايدن هو الرئيس المفضل بالنسبة إلى روسيا. واستناداً إلى ما قاله للتو، فأنا على حق تماماً".

وأضاف بوتين: "لأنه لا يستطيع أن يقول: فولوديا (تصغير لاسم فلاديمير)، أحسنت، شكراً لك، لقد ساعدتني كثيراً". وتابع: "نحن نتفهم ما يحدث هناك من وجهة نظر سياسية داخلية، ورد الفعل هذا مناسب تماماً". وتابع: "هذا يعني أنني كنت على حق.. لقد سألتني أيهما أفضل لنا. وما زلت أعتقد أنني يمكنني تكرار ذلك: بايدن".

وكان بايدن قد قال خلال حملة لجمع التبرعات ليلة الأربعاء الفائت في سان فرانسيسكو: "لدينا أشخاص مجانين مثل بوتين وآخرين، وعلينا دائماً أن نقلق بشأن الصراع النووي، لكن التهديد الوجودي للبشرية هو المناخ".

لماذا أشاد بوتين بأوباما؟

بالرغم من المناكفات التي صبغت العلاقة بين بوتين والرئيس الأسبق باراك أوباما، فإنَّ اعتراف الأخير بأن التدخل العسكري الأميركي في ليبيا ربما كان خطأه الأكبر في منصبه قوبل بالثناء من سيد الكرملين، إذ وصفه بأنه "مهذب" لاعترافه بأخطائه.

ولهذه الغاية، أكد بوتين في نيسان/أبريل 2016 أن "الرئيس الأميركي رجل محترم. هذا صحيح. ومن الجيد جداً أن يتمتع زميلي بالشجاعة للإدلاء بهذا النوع من التصريحات. لا يمكن لأي شخص أن يفعل ذلك".

علاقة بوتين المحيّرة بكل من بوش الابن وترامب

إن تبادل الغزل بين بوتين ونظيريه الأميركي دونالد ترامب وجورج بوش الابن، حير الكثيرين الذين عجزوا عن فهم سرّ هذه الكيمياء بين الرؤساء الثلاثة.

كان ترامب واحداً من عدة مرشحين رئاسيين جمهوريين قبل انتخابات عام 2016. وبناء عليه، وأثناء مؤتمر صحافي سنوي في أيلول/ديسمبر 2015، أشاد الرئيس الروسي بالسياسي المبتدئ، واصفاً إياه بأنه "الزعيم المطلق في السباق الرئاسي"، ورأى بأنه "موهوب وحيوي". ومن أجل الحيوية، استعمل بوتين كلمة روسية يمكن ترجمتها إلى الإنكليزية بأنها "مشرقة" أو "رائعة" أو "ملونة" أو "حية".

اللافت أن ترامب تفاخر في وقت لاحق بهذا التأييد، مدعياً، بشكل غير صحيح، أن بوتين وصفه بأنه "عبقري". وكرر بوتين مديحه لترامب في عام 2021 بعد تنصيب بايدن، مشيراً إلى أن "ترامب شخص غير عادي وفرد موهوب. ولولا ذلك لما أصبح رئيساً للولايات المتحدة". وقال بوتين: "قد تحبه، وقد لا تحبه، فهو لم يأتِ من المؤسسة الأميركية"، وناقش الرئيس الروسي الفارق بين ترامب وبايدن، قائلاً إن الأخير "رجل محترف".

وبالمثل، عندما سُئل بوتين عن الرئيس السابق جورج دبليو بوش خلال مؤتمر صحافي سنوي في تموز/يوليو 2006، كال المديح لنظيره الأميركي ووصفه بالصديق.

اللافت هنا هو نوعية العبارات التي وردت على لسان بوتين عند مخاطبة بوش، إذ قال: "في حياة أي قائد، هناك خطوط داكنة وخفيفة، والحياة تتجه صعوداً وهبوطاً"، وأضاف: "الشيء الرئيسي هو أن يكون السياسي شخصاً محترماً وشريكاً موثوقاً يمكننا التفاوض معه حتى لو لم تتطابق آراؤنا، فهو رجل مفكر، ويسعدني أن ألاحظ أن مثل هذا الشخص موجود في دائرة أصدقائي".

والجدير بالذكر أن بوش قال عن بوتين بعد لقائه في البيت الأبيض في حزيران/يونيو 2001: "نظرت في عينيه مباشرة. وجدته صريحاً وجديراً بالثقة. لقد أجرينا حواراً جيداً جداً. لقد تمكنت من التعرف إلى روحه. رجل ملتزم بشدة ببلاده ومصالحها".

في المحصلة، بناء على ما تقدم، يبدو أن بوتين حفظ عن ظهر قلب القاعدة الدبلوماسية المتعارفة في العلاقات الدولية التي تقول: "ليس هناك أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون"، وبالتالي يحرص على تطبيقها والعمل بها جيداً.

علي دربج - أستاذ جامعي.