انتخابات الشورى والخبراء في إيران.. رسائل داخلية بأبعاد خارجية
إيران تنتخب مجلس الشورى وخبراء القيادة.. أي أهمية للانتخابات الأولى بعد الاضطرابات المفتعلة بأصابع أميركية وغربية، والتي عصفت بإيران على خلفية وفاة الشابة مهسا أميني؟ وأي دلالات للمشاركة الكثيفة في الاقتراع؟
لا يمكن النظر إلى أي انتخابات إيرانية بوصفها حدثاً داخلياً بحتاً، وانتخابات مجلس خبراء القيادة ومجلس الشورى الإسلامي التي تجري اليوم الجمعة ليست استثناءً.
فالبلد الذي صمدت ثورته 45 عاماً ولا تزال رغم محاولات خارجية لم تتوقف يوماً لإسقاطها، ولم توفر وسيلةً لذلك، من الحرب العسكرية إلى الحصار الاقتصادي إلى إثارة الفتن الداخلية، يصبح فيه بقاء المؤسسات واستمرار الحياة الديمقراطية وإجراء الانتخابات، بمعزل عن حجم وشكل التنافس فيها، إنجازاً ونجاحاً بحد ذاته.
بهذا المعنى، تكون هذه الانتخابات استفتاءً على خيارات القيادة وسياسات الدولة الداخلية والخارجية، إلى جانب وظيفتها الأساس في اختيار الناخبين لممثليهم في مجلسَي الشورى الإسلامي وخبراء القيادة على أساس ما يحملونه من عناوين وما يقدمونه من برامج.
الموضوعية الغربية: تشكيك في نزاهة الانتخابات.. قبل إجرائها!
أعداء الجمهورية الإسلامية الخارجيون يدركون هذا الواقع جيداً. لذا، لم يفكروا في انتظار ما ستسفر عنه الانتخابات لاستثمار نتائجها بـ"اعتبارها عملاً غير مجدٍ"، كما يزعمون عند أي استحقاق انتخابي، بل استَبَقوا إجراءها بالتشكيك في نزاهتها. ولأنه أمر لا يستقيم منطقياً، فقد تعللوا بالدور الذي يمارسه مجلس صيانة الدستور من فحصٍ لأهلية المرشحين والموافقة على ترشحهم لتبرير تشكيكهم.
ويزعم الخطاب الغربي حول الانتخابات الحالية، والذي يكاد يكون موحّداً، ومستنسخاً حتى في بعض الإعلام العربي، أن مجلس صيانة الدستور يضيّق - بقرارات الاستبعاد - هامش الاختيار أمام الناخبين، رغم إقرار أصحاب هذا الخطاب أنّ تنافس 15200 مرشح مقبول في هذه الدورة على 290 مقعداً هو رقم قياسي وغير مسبوق.
والحقيقة أنّ الهجمة الإعلامية الشرسة على مجلس صيانة الدستور وصلاحياته سابقةٌ لهذه الانتخابات، ولن تنتهي بانتهائها، علماً أنّ المجلس في الحقيقة ليس "بدعةً إيرانية"، بل مؤسسة يكاد لا يخلو من أمثالها بلد في العالم، وإن تعدّدت التسميات بين "محكمة دستورية" أو "مجلس دستوري" أو غير ذلك، إذ يحتاج كل نظام قوي إلى جهاز يتولّى الإشراف والرقابة على تطبيق القوانين التي تحكم عمل هذا النظام.
أول انتخابات بعد الاحتجاجات المفتعلة: المشاركة كتأكيدٍ لسقوط الرهانات
تكتسب انتخابات مجلس الشورى وخبراء القيادة اليوم جزءاً من أهميتها لكونها الأولى بعد الاضطرابات التي غذتها الولايات المتحدة الأميركية ودول غربية على خلفية وفاة الشابة مهسا أميني قبل عامين، إذ حاولوا تحويلها إلى "أيقونةٍ لثورة" تحاكي ثورات ما يسمى "الربيع العربي"، قبل أن يطوي الشعب الإيراني هذه الصفحة التي كشف خبثها ومن يقف وراءها، مثبتاً التفافه حول قيادته.
وإذا كانت محاولة اغتيال والد مهسا أميني من قبل أشخاص ينتمون إلى جماعة إرهابية، بالتزامن مع الذكرى السنوية الأولى لوفاة ابنته، دليلاً واضحاً على حجم الاستثمار في هذه القضية، وإعلاناً صريحاً لفشل المرحلة الأولى من هذا الاستثمار، فإنّ الإقبال الشعبي على انتخابات اليوم من شأنه أن يحبط محاولات الأعداء مرة أخرى في زعزعة استقرار إيران وإثارة الفتن الداخلية فيها.
ويشكل الإقبال على ممارسة حقي الترشح والاقتراع تحت مظلة نظام الجمهورية الإسلامية مصادقة متجددة على شرعية هذا النظام من قبل شرائح متنوعة تتباين في رؤيتها للعديد من المواضيع.
الإقبال على الترشح يعكسه تقدم قرابة 49000 شخص بطلباتهم إلى مجلس الشورى وحده، الذي يبلغ عدد مقاعده 230 مقعداً، و500 إلى مجلس الخبراء الذي يضم 88 عضواً. أما الإقبال على الاقتراع، فقد عكسته منذ الصباح صور طوابير الناخبين الذين ينتظرون دورهم للإدلاء بأصواتهم بمجرد فتح مراكز الاقتراع، فكانت مؤشراً على ما ستكون عليه نسب المشاركة.
المشاركة الشعبية الكثيفة ودلالاتها.. كيف ينظر إليها المسؤولون الإيرانيون؟
دلالات المشاركة الشعبية اختصرتها مواقف مسؤولين إيرانيين من مستويات سياسية وعسكرية ودينية مختلفة، إذ شدّد قائد الثورة والجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي على أهمية المشاركة الحاشدة في مسيرة تطوير إيران، واعتبر أن "الانتخابات القوية والحاشدة هي إحدى أركان الإدارة الصحيحة للبلاد، كما أنها ركن أساسي للتطوير وإحدى أهم السبل لمواجهة العقبات أمام مسيرتنا".
كذلك، أكّد القائد العام لحرس الثورة الإسلامية اللواء حسين سلامي أنّ الانتخابات التشريعية "حدث مصيري للغاية"، داعياً الإيرانيين إلى المشاركة في الانتخابات.
وأكد قائد قوة القدس في حرس الثورة، إسماعيل قاآني، أنّ المشاركة القصوى ستعزّز أمن البلاد وقدرتها الوطنية، وستحبط محاولات العدو المختلفة منذ أشهر لزعزعة المشاركة الشعبية.
واعتبر وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان أنّ الانتخابات مظهر من مظاهر الاقتدار الوطني لإيران القوية، داعياً الشعب الإيراني إلى المشاركة بحماسة لوضع الأساس لتشكيل برلمان قوي والحصول في نهاية المطاف على دعم الشعب لاتخاذ خطوات كبيرة في السياسة الخارجية.
بدوره، المتحدث باسم وزارة الخارجية، ناصر كنعاني، رأى أنّ "كل ورقة اقتراع ستحثو تراب اليأس والإحباط في العيون المضطربة للعدو الشرير وحماة الكيان الصهيوني القاتل للأطفال"، مؤكداً أنّ أعداء الشعب الإيراني يبذلون جهوداً مستمرة لإضعاف الدوافع الوطنية وتقليل حضور الشعب عند صناديق الاقتراع.
أما المرجع الديني آية الله ناصر مكارم الشيرازي، فقد اعتبر المشاركة مؤشر على صحوة الشعب.
واعتبر المرجع آية الله جعفر سبحاني مجلس الشورى الإسلامي ركيزة مهمة في الجمهورية الإسلامية، داعياً مختلف فئات المجتمع إلى المشاركة بحماسة.
رسائل في كل الاتجاهات
المشاركة الكثيفة للناخبين تعكس إذاً - بمعزل عن خياراتهم - التفافهم حول القيادة وثقتهم بها، وتؤكد أنّ حوادث الشغب التي افتعلتها أصابع خارجية وحاول الإعلام الغربي تظهيرها كـ"ثورةٍ شعبيةٍ حقيقية"، لا تصلح كمؤشر لقياس مزاج الشارع الإيراني، بل الانتخابات هي من يفعل ذلك، وحتى قبل إقفال الصناديق.
وإذا كانت الرسائل الداخلية من الأهمية بمكان، فإنّ للمشاركة الشعبية في انتخابات مجلسَي الشورى والخبراء رسائل خارجية أكثر أهمية.
ينزعج أعداء الجمهورية الإسلامية من تنامي شعبيتها داخلياً وخارجياً بين عموم العرب والمسلمين، من جراء التزامها الأخلاقي بالقضية الفلسطينية، وسط تخاذل كثيرين وانتقالهم من حالة الصمت والعجز أمام إجرام الاحتلال إلى حالة التطبيع العلني.
محاولة سحب هذه الورقة من يد إيران تأتي مرةً عبر استخدام الخطاب المذهبي، ومرة عبر الادّعاء أنّ دعم القضية الفلسطينية من طرف إيران ومحور المقاومة الذي تقع في صلبه هو مجرد دعم كلامي ليست له آثار فعلية في الأرض.
وقد أتى دور أطراف المحور الفاعل مع بدء ملحمة "طوفان الأقصى" ووقوف إيران بثبات خلفه رغم المخاطر الكبيرة التي تصل إلى حد اندلاع حرب كبرى، ليدحض هذه الاتهامات ويفقدها قيمتها وأهميتها.
قبل كل ذلك وبعده، كانت المحاولات للزعم أن دعم القيادة الإيرانية لحركات المقاومة وتبنيها القضية الفلسطينية سبب لـ"انفضاض الشعب الإيراني" عنها.
تحاول هذه السردية إقناع الإيرانيين بأنّ "الموقف الإيراني من القضية الفلسطينية يعبّر عن طموحات خارجية توسعية"، لا عن التزام مبدئي، وأنّ كلفة هذا الدعم بالمعنيين السياسي والاقتصادي لن يدفعها غيرهم.
بهذا المعنى، تكون انتخابات اليوم، من حجم المشاركة وصولاً إلى النتائج، استفتاءً على السياسة الخارجية قبل أي شيء آخر، ليقول الإيرانيون ما سبق أن قالوه مراراً بأشكال مختلفة، منها التظاهرات الحاشدة دعماً لقطاع غزة، إنهم مؤمنون أيضاً بالحق الفلسطيني ومستعدون للتضحية بكل شيء لأجل فلسطين، وإنهم لا يعارضون دعم حركات المقاومة، مهما كانت الكلفة المترتبة على ذلك.
وتقول المشاركة الكثيفة أيضاً إن الموقف من الولايات المتحدة بما تمثله اليوم من رمز للهيمنة ومحاولة إخضاع الشعوب هو موقف مبدئي يخص عموم أبناء الشعب الإيراني الذي عانى تبعات الحصار الظالم على مدى ما يزيد على 40 عاماً، وليس موقفاً سياسياً للقيادة وحدها.
الشعب لن يتخلى عن ثورته
الكاتب والمحلل السياسي الإيراني مجتبى حيدري رأى في حديثٍ خاصّ لـ"الميادين نت" أنّ لكل دورة انتخابات تشريعية أو رئاسية أهمية خاصّة في إيران، وأنّ هذه الدورة لا تختلف عن سابقاتها من حيث أهميتها في تقييم علاقة الإيرانيين بنظامهم الذي جاءت به ثورتهم الإسلامية عام 1979.
واعتبر حيدري أنّ طوابير الناخبين في مراكز الاقتراع في العاصمة طهران والمدن الأخرى تؤكد أنّ شرائح الشعب الإيراني على اختلاف توجهاتها السياسية والفكرية، وبرغم العواصف التي مرّت بها البلاد، كالأحداث التي تلت وفاة الشابة مهسا أميني، ما زالت تؤمن بقدرة النظام على بناء مستقبلٍ زاهرٍ للإيرانيين.
وأكد حيدري أنّ المشاركة الشعبية في هذه الانتخابات وغيرها تدل على تيقن الجماهير الإيرانية من أنّ الحفاظ على النظام وصيانته خير من محاربته التي لا شك في أنها ستؤدي إلى انقسامات داخلية تقضي على أمن البلاد ووحدة أراضيها وتفتح الطريق أمام تدخل المتربّصين بها في مشارق الأرض ومغاربها.
وختم حيدري بأنّ رسالة الإيرانيين من خلال مشاركتهم الواسعة في الانتخابات واضحة جداً، ويفهم مغزاها الأعداء قبل الأصدقاء، وهي أنّ الشعب لن يتخلى عن ثورته وعن نظامه المنتخب بأي حال، وسيبقى إلى جانب قائده ومسؤوليه رغم الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي أوجدها الحظر الأميركي الجائر على البلاد لتثبيط عزيمة الشعب وإبعاده عن نظامه المنتخب عبر صناديق الاقتراع.
وبانتظار انتهاء عمليات الاقتراع وفرز الأصوات، ليس من المتوقع أن يشيد خصوم إيران بنزاهة العملية الانتخابية ونتائجها أو بانتظام المؤسسات في الجمهورية الإسلامية، ففي ظل إدراك الولايات المتحدة وحلفائها عجزهم أمام إيران وقيادتها، يغدو جهد العاجز وأقصى طموحه التشكيك في كفاءة العملية الديمقراطية وجودتها، ولكن المتابع لا يحتاج إلى جهد كبير ليعرف أنّ الديمقراطية في إيران بخير أكثر منها في الولايات المتحدة نفسها، وأنّ التنافس الانتخابي بين المرشحين لمجلسَي الشورى والخبراء لن ينتهي حتماً إلى ما انتهت إليه الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة نفسها من اتهامات بالتزوير واشتباكات أمام الكونغرس.