الفنزويليون ينتخبون "قُضاة سلام".. خطوة إلى الأمام ضمن مسار الثورة البوليفارية

في الوقت الذي يحتفل فيه الفنزويليون بالذكرى الـ25 لإقرار العمل بالدستور الحالي، الشعب ينتخب "قُضاة سلام" الأحد الماضي، في إطار جهود تعزيز الديمقراطية التشاركية في البلاد.

  • الفنزويليون ينتخبون
    دعا الرئيس مادورو إلى تعزيز "الديمقراطية الحقيقية التي تتجاوز التمثيل السطحي"

شهدت فنزويلا، للمرة الأولى، في تاريخها، انتخابات "قضاة السلام"، الأحد الماضي، إذ انتَخَب ما يزيد على 20 مليون فنزويلي أكثر من 30,000 قاضٍ من أصل 52,288 مرشّحاً على مستوى البلاد، في إطار جهود تعزيز الديمقراطية التشاركية، التي تُمكِّن المجتمعات المحلية من إدارة شؤونها بنفسها من دون الاعتماد الكلّي على البيروقراطية المركزية.

انخرط المرشّحون في الفترة، من الـ4 إلى الـ13 من كانون الأول/ديسمبر الجاري، في حملات جماهيرية نشطة داخل مجتمعاتهم المحلية، من أجل مشاركة مقترحاتهم في حل النزاعات والحكم المحلي، بعد خضوعهم لعملية فحص للتأكد من استيفائهم المعايير الأساسية، والتي تضمنت أن يكون المرشح تجاوز سن الـ25، وأن يكون أقام في المجتمع الذي يسعى لتمثيله مدة لا تقل عن ثلاثة أعوام، بالإضافة إلى السمعة الإيجابية والمعرفة العميقة بتاريخ المجتمع المحلي، وفهم العادات والقوانين الخاصة به. وفضلاً عن ذلك، تحظر معايير الترشح الانتماء إلى أي حزب سياسي، من أجل ضمان استقلالية عمل القضاة بعد استلامهم مهماتهم الوظيفية.

وجرت العملية الانتخابية تحت إشراف "المجلس الوطني للانتخابات" وإدارته، وعبر مشاركة السلطات المحلية، في أكثر من 4000 كوميونة، تضم 4862 مركزاً للاقتراع. واختار كل مواطن فنزويلي ثلاثة قضاة رئيسين وثلاثة مساعدين. والجدير ذكره هنا أن الكوميونة هي تنظيم اجتماعي، يضم بين 10 و4000 عائلة، ويهدف إلى تنظيم عمليات إنتاج  المنتوجات وتداولها بين أعضاء المجتمع المحلي، عبر الإدارة السياسية الذاتية المباشرة للسكّان أنفسهم، وبصورة مستقلة نسبياً عن الدولة.

هذه الانتخابات ليست مثل انتخابات القضاة التقليدية، ولا يشغل "قُضاة السلام" هؤلاء مناصب قضائية عليا في الدولة، وإنما يعملون، في سياق مجتمعهم المحلي، على تقديم الدعم القانوني وإقامة المحاكم القضائية داخل حدوده، بحيث لا يتوجّب على السكان الذهاب إلى المدّعي العام والإدارات القضائية العليا. ويتخصص هؤلاء القضاة الجدد، بصفتهم امتداداً للنظام القضائي، بقضايا، مثل النزاعات البسيطة والفردية، والمشاكل المتعلقة بالأرض والديون الصغيرة... إلخ.

ووفقاً لقانون "قضاة السلام"، يتمثَّل محور وظيفتهم بالتوسط في النزاعات داخل المجتمع المحلي من خلال التحكيم، والمحافظة على الانسجام في العلاقات الأسرية والتعايش بين الأحياء السكنية، وحلّ المسائل الناشئة عن المؤسسات الحكومية والتنظيمات الشعبية. وأعلنت رئيسة "الغرفة الدستورية" في "محكمة العدل العليا"، تانيا داميليو، أنّ هؤلاء القضاة الجدد سيخضعون لخطة تدريب تستمر مدة 6 أشهر، بداية من كانون الثاني/يناير المقبل، بهدف التعرف إلى مسؤولياتهم، وتلقي التوجيه من "محكمة العدل العليا" ومكتب المدعي العام.

وتأتي هذه العملية الانتخابية في وقت يحتفل الفنزويليون بالذكرى الـ25 لإقرار العمل بالدستور الحالي، الذي وافق عليه 71% من المشاركين في الاستفتاء الدستوري الذي أُقيم بعد فترة وجيزة من فوز الزعيم هوغو تشافيز بالانتخابات الرئاسية في عام 1999، والذي يسمح لهم اليوم ببلورة المادة "رقم 258"، الخاصة بعملية انتخاب "قضاة السلام"، والتي كان يواجهها فيما مضى بعض التحديات، المتعلقة بالإشراف الرسمي للسلطات الوطنية على العملية، والآليات التي يمكن من خلالها انتخاب القضاة في مختلف المناطق.

والجدير ذكره هنا، أنّ هذه العملية تتماشى مع التعديلات التي أُدخلت في "قانون العدالة السلمية"، الذي أقرّه الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. وبموجب هذه التعديلات، يوسّع القانون نطاق القضايا التي يمكن أن يعالجها "قضاة السلام"، كما يحدد مسؤولياتهم ومرجعيتهم. وينص القانون أيضاً على أنّ انتخابهم يجرى محلياً كل أربعة أعوام، عبر التصويت الشعبي في كل المناطق، وهو ما يمثّل طريقة لتجنُّب المركزية والبيروقراطية عبر تأكيد دور المجتمعات المحلية في إدارة نفسها ذاتياً.

إنّ انتخاب "قضاة السلام" في فنزويلا ليس حدثاً انتخابياً مهماً فحسب، وإنما أيضاً عملية قانونية مؤسساتية، تستهدف الحكومة الفنزويلية من خلالها تعزيز نموذجها الديمقراطي، والاستجابة للاحتياجات المحلية كونها آلية دستورية لتعزيز التنمية. وهو حدث استثنائي أيضاً، يكشف لنا كيف يستمر الفنزويليون في بناء نوع مغاير من الديمقراطية، ويتقدّمون في مسار الثورة البوليفارية ليحققوا مزيداً من الإنجازات، تراكمياً، على رغم الظروف العصيبة التي تمر فيها البلاد.

كما تأتي هذه الانتخابات وسط حالة اضطراب سياسي بدأت مع انقلاب المعارضة على نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي فاز بها الرئيس مادورو، بحيث أعلنت آنذاك أنّ مرشّحها إدموندو غونزاليس فاز بالانتخابات. ولقيت دعواها هذه تأييداً من بعض الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لكن مجرى الأحداث والفوضى التي صاحبت إعلان نتائج الانتخابات دفع غونزاليس إلى اللجوء إلى إسبانيا، بينما يجري الآن تحقيق بحقّ زعيمة المعارضة، ماريا ماتشادو، بتهمة "الخيانة"، ودعم العقوبات الأميركية على البلاد.

وفي السياق، لا يستبعد مراقبون أنّ هذه الاضطرابات ستتفاقم في شهر كانون الثاني/يناير المقبل، بحيث سيتم تنصيب مادورو رئيساً للمرة الثالثة في العاشر من الشهر ذاته، بينما يذهب البعض إلى احتمال أن يتعرَّض الرئيس لعملية اغتيال كما سبق وحدث.

وفي إطار هذه الاضطرابات، دعا الرئيس مادورو، منذ أيام، إلى عقد حوار شعبي عام بداية من الـ 26 من كانون الثاني/يناير المقبل، بهدف إقرار عدد من المشاريع الجديدة على مستوى الكوميونات، وبدء تنفيذها. كما أنه وعَد بعقد أربعة حوارات شعبية عامة في كل عام، بالإضافة إلى حوارين آخرين يختصّان بالمشاريع المرتبطة بالثقافة والشباب.

وبالنظر إلى مخرجات الحوارات الشعبية العامة التي جرت سابقاً، ستكون الحوارات المنتظرة خلال العام المقبل مفيدة، لأنّ قطاعات كثيرة من الشعب تشارك فيها. ويشير الناس خلالها إلى الضروري بالنسبة إليهم في هذه المرحلة، وخصوصاً أنّ كل الفنزويليين يعانون من جرّاء الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الحصار الاقتصادي والعقوبات، على رغم التقدم التدريجي الذي أحرزه اقتصاد البلاد خلال الأعوام السابقة.