الإعلام الغربي وتغطية مجرزة رفح.. كيف صنعت طائرات الاحتلال الخبر؟
تُظهِر التغطية الغربية للجريمة الأخيرة المرتكبة في رفح، كيف حاولت وسائل إعلامية اللعب على الرأي العام، من خلال حرف الأنظار عن ارتقاء عشرات الشهداء، مع مئات الجرحى، نتيجة استهداف أكثر من مليون نازح، في اتجاه آخر مختلف كلياً.
يفعّل الاحتلال الإسرائيلي جهوده في ميدان "صناعة السردية" الخاصة به، من خلال محاولة فرض أخبار ومسارات إعلامية خاصة لتغطية إخفاقه، عسكرياً وميدانياً، ومن أجل تبرير جريمة الإبادة الجماعية التي يرتكبها. واستكمالاً لهذا الأمر الذي بدأه منذ السابع من أكتوبر، فإن الاحتلال الإسرائيلي بات يعتمد أكثر على الإعلام الغربي في صياغة هذه السردية. ومؤخراً، كانت رفح الساحة التي أظهرت، ليس فقط انحيازاً من جانب الإعلام الغربي لمصلحة الاحتلال، بل أيضاً شراكة في الجريمة المرتكبة.
تُظهِر التغطية الغربية للجريمة الأخيرة المرتكبة في رفح، كيف حاولت وسائل إعلامية اللعب على الرأي العام، من خلال حرف الأنظار عن ارتقاء عشرات الشهداء، مع مئات الجرحى، نتيجة استهداف أكثر من مليون نازح، في اتجاه آخر مغاير كلياً. اقتطعت شبكات الإعلام مشاهد الدمار وصور الشهداء من تقاريرها الإخبارية. وعند مطالعة الصحف الغربية لمعاينة نقل الحدث والواقعة، نجد أن هناك دائماً رواية تصل إلى القارئ الأجنبي مغايرة لما يحدث في الميدان، وتخدم، بالتالي، سردية المعتدي وتدعم أكاذيبه.
تزايد الغضب العالمي على جرائم الاحتلال الإسرائيلي في غزة من جهة، وتزايد الغيظ الشعبي والمعارضة لسياسات الحكومات الداعمة له، مع استمرار الحرب والاعتداء الإسرائيليين الهمجيين على قطاع غزة، ووجدت حكومة الاحتلال نفسها في حاجة إلى اختلاق إنجاز تقدمه إلى الرأي العام الإسرائيلي والرأي العام العالمي كي تستطيع مواصلة ممارسة وحشيتها وعدوانها على غزة وفلسطين.
بدأ الاحتلال عدواناً ليس جديداً، لكنّه مكثف وانفعالي، على مدينة رفح في القطاع. ومن أجل ترسيخ ادعاء التقدم لدى الرأي العام والمشاهد البعيد، لم تتوانَ أدوات الملياردير روبرت مردوخ وأمثاله عن تقديم العون. تحليل محتوى الأخبار، التي نشرتها وسائل الإعلام الغربية الكبرى، بشأن قصف مدينة رفح وقتل أكثر من 67 مدنياً فلسطينياً، يعرض ويكشف كيف تعمل هذه الآلة الإعلامية في تأطير الرواية وتزييف الحقيقة.
ما نتائج البحث عن كلمة قناص إسرائيلي في محركات البحث؟
— قناة الميادين (@AlMayadeenNews) February 12, 2024
المزيد من التفاصيل مع مديرة #الميادين أونلاين بهية حلاوي في #حروب_الإعلام @halawiBahia @ramiaalibrahim pic.twitter.com/QITWQ88mfJ
أخفت شبكات، مثل شبكة "فوكس نيوز"، انحيازها، من خلال محاولتها تضليل الرأي العام، عبر تقارير مصورة ومتلفزة، بدت من خلالها كأنها محايدة. "فوكس نيوز"، التابعة لإمبراطورية مردوخ، ذكرت، في عنوان تقريرها، أن "إسرائيل" هي من قتل الفلسطينيين في رفح. لكن، بعد مشاهدة التقرير والاطلاع على العنوان الأوسع، نجد أن التقرير قلص عدد الشهداء إلى 20 فقط، ثم لم يتم التعليق على التقرير او شرح ما يحدث، بل حتى إنه لم تتم ترجمة المقابلات مع الفلسطينيين الى اللغة الإنكليزية، بل تُرك المشاهد يحاول معرفة ما يحدث من تلقاء نفسه.
عمدت كل من "بلومبرغ" و"فوكس نيوز" و"سي أن أن" و"أن بي سي نيوز" إلى تغييب ذكر كلمة "مدني"، حتى إنهم خففت فظاعة المشهد وعمليات القتل، بل تضمنت تقاريرها إعادة بث للمعلومات المضلِّلة بشأن علاقة حركة حماس بالمنظمات الدولية، وتحديداً وكالة الأونروا.
بدأت وكالة "بلومبرغ" بمشاهد لصور ليلية للقصف الإسرائيلي، من دون عرض الأذى الذي تلحقه،ـ والمجازر التي تسببت بها بحق المدنيين. بينما برّرت شبكة "سي أن أن"، في تقريرها، الضربات الاسرائيلية بحجة أن "إسرائيل" "اكتشفت نفقاً لحماس". وأعادت في التقرير سرد التضليل عن علاقة حماس بمكاتب منظمة الأونروا الدولية.
تحاول هذه المنافذ الإخبارية، من خلال هذه المشاهد والعناوين المرافقة لها، أن تُعيد صنع الرواية أو السردية التي تريدها هي. اللافت أيضاً، في هذه التقارير، التي من المفترض أن تكون لمنافذ إخبارية عالمية تُعَدّ جهات موثوقاً بها، حجبُ المعاناة الفلسطينية وليس إخفاء الحقيقة فحسب، فهي لم تذكر كلمة "مدني"، حتى إنها لم تقم بذكر توصيف "فلسطيني" عند الحديث عن الضحايا والشهداء.
وتماهياً مع السردية الإسرائيلية في محاولة بيع "وهم الإنجاز أو الانتصار" للجمهور الغربي والرأي العام العالمي، تعمدت كبرى الصحف والمواقع الإخبارية، مثل "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز"، تسليط الضوء على خبر "تحرير الأسرى" من رفح، ربما من أجل تغطية قتل المدنيين في رفح وتبريره بأنه عملية عسكرية "مشروعة" لتحرير الأسرى الإسرائيليين، أو ما وصفته الصحف بأنه "عملية إنقاذ"، في محاولة لإضفاء نوع من الشرعية على العملية العسكرية الإسرائيلية.
"واشنطن بوست" استهلت سردها بعبارة "قال الجيش الإسرائيلي إنه أنقذ رهينتين من مدينة رفح"، وبدأت الخبر بالحديث عن الأسيرين الإسرائيليين وتعريفهما في عدة مقاطع، وبعدها نصف تجاوز نصف المقال انتقلت إلى الحديث عن الهجوم والضربات الجوية على رفح. لم يتم التركيز، في هذه المنافذ الإخبارية، على عدد الشهداء الفلسطينيين الذين استُشهدوا بفعل الضربات الإسرائيلية. وفي حال تم ذكر أي رقم عن عدد الشهداء، لم يتم ذكر أن عمليات الإجلاء أو تعداد الضحايا واجهت صعوبات بسبب استمرار العدوان والقصف الإسرائيليين.
تعمدت الصحيفة أيضاً استخدام عبارات، مثل "ماتوا" وليس "قُتلوا"، عند الحديث عن الشهداء الفلسطينيين، ليبدو كأن القاتل مجهول الهوية. في الوقت نفسه، تم استخدام العبارات بطريقة معاكسة لوصف استهداف الجنود الإسرائيليين. تغييب المصطلحات والعبارات، التي تحدد هوية القاتل والمعتدي الإسرائيلي، لم يُعتمد فقط عند التغطية الإخبارية لقصف مدينة رفح، بل تم تكراره في كل الأخبار المتعلقة بالجرائم الإسرائيلية التي باتت واضحة للمُشاهد اليوم، بفعل قوة حضور أدوات الإعلام الجديد، متمثلةً بمنصات التواصل الاجتماعي.
يلاحَظ أن كلمة "قتلت" او "قنصت" تم تغييبها تماماً عن المقالات الإخبارية الواردة في أربع وكالات أنباء غربية كبرى، وهي "نيويورك تايمز"، "سي أن أن"، "واشنطن بوست"، و"بي بي سي"، عند معاينة التغطية الإعلامية لشهادة الطفلة الفلسطينية هند رجب، التي قضت منذ أكثر من 12 يوماً بفعل استهدافها وأفراد عائلتها برصاص قناصي الاحتلال.
غيبت "نيويورك تايمز" الإشارة إلى هوية القاتل في عنوان مقالها "العثور على طفلة مفقودة تبلغ من العمر 6 أعوام وفريق إنقاذ ميتين في غزة، بحسب ما تقول مجموعة الإغاثة". كررت "واشنطن بوست" عملية تحريف الحقائق ذاتها في مقالها الإخباري "تم العثور على جثة هند رجب، البالغة من العمر 6 أعوام، والتي اختفت منذ 12 يوماً منذ أن فقدت الاتصال بعمال الإنقاذ الذين كانوا يحاولون يائسين إنقاذها بعد إطلاق النار على سيارة العائلة في مدينة غزة، بحسب ما أعلنت جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني يوم السبت".
عملت هذه المؤسسات الإعلامية على صياغة الأيديولوجيا والرواية، وتشكيلهما، وتعميم القيم التي تعكس مصالح المنظومة الغربية الاستعمارية ورؤيتها، من خلال تزييف الحقائق وتحويرها، عندما كثفت استخدام كلمة "مات" بدلاُ من "قُتل"، وكلمة "أشخاص" بالإشارة إلى الفلسطينيين. بل حاولت أيضاً بثّ صورة إنجاز وهمي للمحتل عبر تخفيف حجم القتل والإبادة المرتكبين من جانبه.
كيف تعاطت كبريات الصحف والمواقع الغربية مع مجزرة #رفح؟
— قناة الميادين (@AlMayadeenNews) February 12, 2024
مديرة #الميادين أونلاين بهية حلاوي في #حروب_الإعلام👇@halawiBahia pic.twitter.com/xnIKzGspV6
هذه الأدوات، التي تحاول أن ترسم وتصنع "سردية" لتاريخ الكيان المزيف، وتحاول أن تغيّب، بأقلامها، التاريخ الحقيقي للقضية الفلسطينية، كسرتها وهشمتها عبارات فلسطينية صادقة، مثل "ولّعت" و"مهرها غالي والله"، والتي أصبحت الآن تجسد التاريخ الشفوي الفلسطيني الجديد.
وهي مصطلحات يجب أن يتم تدوينها وحفظها وأرشفتها كجزء من العمل المقاوم، سواء في الصحف، أو صفحات منصات التواصل المتعددة، أو حتى إعادة إنتاجها وتكرارها في الأعمال الوثائقية والفنية والأدبية، في كل اللغات، وليس العربية فقط، وحتى في الأفلام والمسلسلات التي تنقل قصة فلسطين من جيل إلى جيل، ومن بلد إلى بلد، من أجل كسر قيد التبعية والاحتكار الغربي والإسرائيلي لسرد الرواية والحقيقة.
لعل أبرز ما يمكن استنتاجه من ذلك أن السردية الخاصة بالقضية الفلسطينية تحفّز ذاتها بذاتها بسبب ما تختزنه من محتوى وتفاصيل واقعية وحقيقة قادرة على فرض نفسها، وإن كانت في حاجة إلى جهد في الترويج والمعرفة. في المقابل، فإن الجهد الضخم، الذي يضعه الاحتلال الإسرائيلي في تسويق سرديته، على الصعيد المالي والعلاقات والتكنولوجيا، يكشف أيضاً الصعوبات التي تمر فيها هذه السردية، كونها تفتقر إلى الواقعية والحقائق المرتبطة بها على الأرض.