هل سيؤدي الصراع الأوكراني لصدام مباشر بين الناتو وروسيا؟
إنّ محاولات الدول الغربية تحميل روسيا المسؤولية عن تصعيد النزاع الأوكراني، وتصريحات بعض السياسيين، وكذلك التدريبات الأطلسية بالقرب من الحدود الروسية تعطي سبباً لتوقع حدوث تصادم بين "الناتو" وروسيا خلال العملية العسكرية في أوكرانيا.
تقول الكاتبة ألزيرا أرجانوفا في موقع "Russian Council" الروسي، عام مرّ على بدء العملية العسكرية في أوكرانيا، وهي فترة كافية لإجراء تقييمات أولية للوضع العسكري - السياسي في منطقة الصراع، والتهديدات الناشئة عنه. ومن بين التهديدات الحالية، بل والتهديد الأكثر خطورة وحقيقية بالنسبة للسلم والأمن الدوليين- هو حدوث صدام مباشر بين "الناتو" وروسيا، مما قد يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة.
وكما أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، "تُستخدم اليوم الإمكانات والقدرات العسكرية لجميع دول الناتو الرئيسية تقريباً بشكل نشط ضد روسيا". يمكن القول بالفعل أنّ "عدوان الناتو" الفعلي يحدث ضد روسيا، حيث دخل "الناتو" في مواجهة معها، وهي "في تصاعد". إنّ الاعتراف بهذه الحقيقة من قبل موسكو، يعني صداماً مباشراً بين "الناتو" وروسيا، مع كل العواقب المترتبة على ذلك.
تتفهم قيادة الدول الغربية الأعضاء في "الناتو" خطورة تصعيد النزاع الأوكراني وعواقبه، لكنها "تزيد من المخاطر" بثقة تامة بأن الجانب الروسي لن يستخدم الأسلحة النووية رداً على أفعالهم. "ومن هنا جاءت تصريحات للأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ، والمسؤولين الغربيين بأنّ الناتو أو الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة أو دول أخرى ليست طرفاً محارباً أو مشاركًا في النزاع". ربما هذه تكون تعويذة مهدئة لشعوبهم، لكن ليس للجانب الروسي.
إنّ محاولات الدول الغربية تحميل روسيا المسؤولية عن تصعيد النزاع الأوكراني، وكذلك تصريحات بعض السياسيين البغيضين، كالرئيس البولندي السابق ليخ فاليسا، حول "فرصة نادرة للتعامل مع روسيا"، ووزيرة الخارجية البولندية السابقة، آنا فوتيجا، حول أنّ "روسيا تشكل تهديداً وجودياً للإنسانية والنظام الدولي هو استفزاز متعمّد".
تصريحات المسؤولين الحاليين والسابقين في حلف شمال الأطلسي، ولا سيما رئيس اللجنة العسكرية للحلف روب باور، حول استعداد "الناتو" لمواجهة مباشرة مع روسيا، وكذلك القائد السابق للقوات البريطانية في الحلف، العقيد (المتقاعد) هاميش دي بريتون، حول الاحتمال الحتمي لتدخل "الناتو" في أوكرانيا في عام 2023، وكذلك التدريبات الأطلسية بالقرب من الحدود الروسية (مع وضع سيناريو افتراضي لتطبيق المادة 5 من معاهدة شمال الأطلسي) تعطي سبباً لتوقع حدوث تصادم بين حلف "الناتو" وروسيا خلال العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا.
تعزيز العمليات العسكرية في أوكرانيا من خلال التوسع المستمر في حجم ومدى الأسلحة الهجومية الثقيلة الحديثة من قبل دول "الناتو"، وتدريب الجيش الأوكراني على إدارتها على أراضيها وفقاً لمعايير "الناتو"، تشير إلى غياب النوايا الحقيقية لهذه الدول إلى تسوية سلمية للنزاع الأوكرانية، وإلى درجة تورط "الناتو" في هذا الصراع ومصلحته المباشرة في نتائجه.
إنّ التوسع المستمر لحلف شمال الأطلسي نحو الشرق، وتجاهل الحلف والولايات المتحدة لمطالب روسيا بتزويدها بضمانات أمنية، قد حدد سلفاً إلى حد كبير إندلاع نزاع مسلح في القارة الأوروبية، لديه كل الفرص للتحول من نزاع محلي إلى مواجهة على نطاق واسع.
بالنظر إلى الأوضاع في الماضي، كان "الناتو" يستعد لمواجهة مع روسيا لفترة طويلة، بدءاً من عام 2014، وهو ما أكدته كلمات الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ في مؤتمر صحافي في مدريد عام 2022. وفي عام 2019، حذّر رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية، فاليري غيراسيموف، من أنّ "الناتو يستعد لإشراك قواته في صراع عسكري واسع النطاق".
كما أنّ وزير الدفاعالروسي سيرغي شويغو، أشار أيضاً في 21 كانون الأول/ديسمبر 2022، إلى "محاولة السيطرة العسكرية على أراضي أوكرانيا من قبل دول الناتو".
كما تُعد تصريحات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وفرانسوا أولاند وبيترو بوروشنكو حول اتفاقيات مينسك لعام 2015 دليلاً على أنّ الجيش الأوكراني، تحت رعاية الناتو، قد أعيد تجهيزه للنزاع المسلح مع روسيا. "وقد ساهم منح الناتو وضع الشريك المعزز لأوكرانيا في زيادة قابلية التشغيل البيني للجيش الأوكراني مع الناتو، وتدريبه، وإجراء عدد كبير من التدريبات المشتركة، وضخ الجيش الأوكراني بالأسلحة، وإعداده لحل قوي لمشكلة دونباس، وربما الاستيلاء على شبه جزيرة القرم بسبب الأهمية الاستراتيجية لشبه الجزيرة بالنسبة لحلف شمال الأطلسي وأوكرانيا". اليوم، يتم استخدام أوكرانيا من قبل "الناتو" والدول الأعضاء فيه "كأداة لشن حرب هجينة" ضد روسيا، من أجل "هزيمتها الاستراتيجية".
في الوقت نفسه، تشارك الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي في الصراع الأوكراني من خلال توفير الأسلحة لأوكرانيا، وتدريب قواتها المسلحة، وتبادل البيانات الاستخباراتية مع كييف، ودعم الأقمار الصناعية للجيش الأوكراني.
إذا قمنا بحساب إجمالي المساعدات العسكرية المقدمة من جميع الدول الأعضاء في "الناتو"، فإننا نحصل على رقم مثير لتقييم درجة اهتمام "الناتو" والدول الغربية بالصراع الأوكراني، مقارنة بالنزاعات المسلحة الأخرى التي سبق للتحالف أن شارك فيها.
حتى الآن، لم تكن المساعدات العسكرية للدول الغربية إلى دول أخرى كجزء من حق الدفاع عن النفس في نزاع مسلح- مفتوحة وواسعة النطاق واستفزازية كما في الأزمة الأوكرانية. "التصعيد المتزايد" للنزاع الأوكراني سيؤدي حتماً إلى تحولها إلى صراع أوروبي، ثم إلى صراع عالمي.
فوفقاً للأمين العام لحلف "الناتو" ينس ستولتنبرغ، فقد تلقت أوكرانيا مساعدات عسكرية ومالية وإنسانية ومساعدات أخرى بمبلغ 120 مليار دولار.
أما بحسب وكالة "تاس" الروسية، منذ بداية الحرب في أوكرانيا، بلغ إجمالي حجم المساعدات من الدول الأجنبية والمنظمات الدولية لأوكرانيا أكثر من 150.8 مليار دولار، تم تخصيص ثلثها تقريباً - 48.5 مليار دولار - للاحتياجات العسكرية، وهو 94.9% من الإنفاق الدفاعي لروسيا خلال العام الماضي، أو 51.1 مليار دولار. ومنذ مارس 2022، خصص الاتحاد الأوروبي 2.5 مليار يورو لأوكرانيا كمساعدات عسكرية.
في كل من هذه المساعدات، وفي تلك التي سيقدمها الغرب إلى كييف في المستقبل القريب، هناك عنصر إخفاء لـ "عدوان الناتو" الفعلي من خلال المساعدات الغربية من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي ودول غربية أخرى. المساعدة التي يقدمونها، بما في ذلك العسكرية، تتم على أنها أعمال تضامن مع أوكرانيا، ودعم سيادتها، وحقها في الدفاع عن النفس ضد "العدوان الروسي"، وحماية "القيم الديمقراطية والأمن الأوروبي"، ولكن ليس كجزء من نظام ضمان الأمن الجماعي للدول الأعضاء الناتو من التهديد.
في 10 كانون الثاني/يناير 2023، تمّ التوقيع على الإعلان المشترك بين الاتحاد الأوروبي و"الناتو" بشأن التعاون، حيث تنص المادة 8 على أنّ "الناتو يظل أساس الدفاع الجماعي لحلفائه وهو عنصر أساسي في الأمن الأوروبي الأطلسي". وإدراكاً في هذا الإعلان لتوافق الدفاع الأوروبي مع حلف "الناتو"، يعترف الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو بالأدوار المترابطة (التكميلية والمنسقة والمعززة بشكل متبادل) في الحفاظ على السلام والأمن الدوليين، ويتعهدان أيضاً باستخدام جميع الأدوات المتاحة (السياسية ، الاقتصادية والعسكرية) لتحقيق أهداف مشتركة لصالح مواطنيها.
يجب أن يؤخذ في الاعتبار أنّ "الناتو" هو مجرد أداة لتحقيق المصالح الجيوسياسية لدوله الأعضاء، ولا سيما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول أخرى. حلف شمال الأطلسي ككتلة عسكرية هو نوع من "القناع" لتنفيذ خططهم، ولكنه في الوقت نفسه وسيلة عسكرية سياسية ضرورية لتنفيذ أهدافهم وغاياتهم.
المادة 5 من معاهدة شمال الأطلسي هي "الإسمنت" الذي يوحد الدول الأعضاء لضمان أمنها الجماعي والفردي، وفي الوقت نفسه، هي عبء مشترك يعني الالتزام بالسياسة المشتركة لحلف "الناتو".
إنّ الأمن الأوروبي الأطلسي ليس مرادفاً للأمن الأوروبي، الذي يفترض مسبقاً سيادة الدول الأوروبية في الدفاع عن مصالحها مع حماية أمنها القومي. على الرغم من تهديدات أن يتحول الصراع الأوكراني إلى صراع أوروبي، يواصل الاتحاد الأوروبي اتباع المصالح الأميركية. وحسب رئيس الأركان العامة للقوات الروسية، الجنرال فاليري غيراسيموف، "تعتبر الولايات المتحدة حلف شمال الأطلسي كأداة لحماية المصالح الأميركية بدقة على نطاق عالمي لإلحاق الضرر لأمن الدول الأوروبية".
إنّ كل محاولات إستبعاد روسيا من الهيكل الأمني لعموم أوروبا تخلق ظروفًا لحدوث صراع محتمل في القارة الأوروبية. والدليل على ذلك هو تاريخ أوروبا وروسيا. يجب أن تظل روسيا جزءًا من الهيكل الأمني لعموم أوروبا. لقد تم التأكيد على الحاجة إلى مشاركتها في البناء المستقبلي للقارة الأوروبية في البداية من قبل المستشارة السابقة لألمانيا ، أنجيلا ميركل.
قد تكون سيناريوهات تصعيد الصراع في أوكرانيا مختلفة، لكنها ستؤدي حتمًا إلى صدام مباشر بين الناتو وروسيا. فمن سمات الأزمة الأوكرانية أنّ الولايات المتحدة لعبت منذ البداية أحد الأدوار الرئيسية فيها.
في الوقت نفسه، تعمل الولايات المتحدة "كبديل" لأوكرانيا في هذا الصراع باعتبارها "العدو الرئيسي لروسيا في ساحة المعركة"، مما يؤدي إلى مستوى خطير من تصعيد هذا الصراع وإطالة أمده وصعوبة إجراء مفاوضات سلام.
ستعتمد نتيجة المفاوضات إلى حد كبير على الوضع في مسرح العمليات. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ تورط الولايات المتحدة في الصراع الأوكراني، وفقًا لوزير الدفاع الروسي،شويغو ، "يمكن أن يؤدي إلى مستوى تصعيد لا يمكن التنبؤ به".
من المرجح أن يكون عام 2023 حاسماً في صياغة نتائج مفاوضات السلام بشأن نتائج العمليات العسكرية للأطراف المتحاربة. قد يستمر الصراع، لكنه لن يكون طويل الأجل بسبب الحاجة إلى تمويل غير مسبوق للجيش والاقتصاد في أوكرانيا، مما يفرض عبئًا لا يطاق على دافعي الضرائب في هذه البلدان.
خلال الصراع الأوكراني، حققت الولايات المتحدة عددًا من الأهداف والغايات المحددة مسبقًا، كـ"توحيد الناتو وإنشاء تحالف عالمي"، وفرض عقوبات مناهضة لروسيا لإضعافها قدر الإمكان. كما جلبت مجمع صناعي عسكري إلى مستوى جديد لاستبدال الأسلحة القديمة بأسلحة حديثة. كذلك اختبرت قدرات الأسلحة الروسية الحديثة "في ساحة المعركة"، وعززت من عسكرة أوروبا، وأخرجت روسيا من سوق الطاقة الأوروبية، وخفضت من عجز الموازنة، وتحول الترهيب من روسيا إلى مرتبة سياسة الدولة، والقائمة تطول وتطول. لكن الهدف الرئيسي الذي يوحد كل هذه الأهداف الفرعية لا يزال في طور التحقيق - "إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، وإرهاقها وإستنزافها". أما بالنسبة لروسيا، فإنّ أهدافها المتمثلة في "نزع السلاح في أوكرانيا" لم تتحقق إلا بشكل جزئي. إنّ أهداف كل من الولايات المتحدة وروسيا، المتبعة في الصراع الأوكراني، والمتناقضة في الواقع، تزيد من صعوبة مفاوضات السلام.
بالنسبة لروسيا، فإنّ تحقيق أهدافها من خلال العملية العسكرية هو ضمانات أمنية بأنه لن يكون هناك تهديد عسكري ضدها من الأراضي الأوكرانية.
إنّ هزيمة روسيا "في ساحة المعركة" أمر مستحي ، لأنّ روسيا قوة نووية عظمى. وكما أشار ديمتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن في روسيا، فإنّ "فقدان قوة نووية في حرب تقليدية يمكن أن يؤدي إلى اندلاع حرب نووية".
كما أنّ وزارة الخارجية الروسية تشير أيضاً إلى خطورة الوضع الحالي: "الحرب الهجينة" الشاملة ضد روسيا محفوفة بخطر حقيقي من اندلاع صدام عسكري مباشر بين قوتين نوويتين.
أي روايات غربية عن الحاجة إلى هزيمة روسيا في الصراع الأوكراني أو منع انتصارها هي، في الواقع ، حشو معلوماتي، لتبرير تصرفات الدول الأعضاء في "الناتو"، في المشاركة وتصعيد الأعمال القتالية في الصراع الأوكراني.
تواصل الولايات المتحدة وحلفاؤها اختبار صبر روسيا. لكن صبر روسيا ليس بلا حدود.
نقله إلى العربية: فهيم الصوراني