نعوم تشومسكي: السلام ممكنٌ في الشرق الأوسط.. لكنّه لن يتحقق
قد تبدو حقيقة استمرار الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني من دون حل غريبة إلى حد ما مع وجود إجماع شبه عالمي على تسوية متمثلة بـ"حل الدولتين".
موقع "Scheerpost" ينشر مقتطفات من الكتاب الجديد للفيلسوف والمؤرخ الأميركي نعوم تشومسكي "آمال وآفاق". هذه المادة تحوي محطات تاريخية في القضية الفلسطينية تؤكد أنّ الولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل" لا يريدان التوصل إلى "سلام"، على الرغم من الإجماع شبه العالمي على خطوط الحل العريضة الأساسية المتمثلة بحل الدولتين.
أدناه نص المادة منقولاً إلى العربية:
قد تبدو حقيقة استمرار الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني من دون حل غريبة إلى حد ما؛ فبالنسبة إلى الكثير من الصراعات في العالم، يصعب حتى التوصل إلى تسوية ممكنة. أمّا هذه القضية، فالأمر ليس ممكناً فحسب، بل هناك إجماع شبه عالمي على خطوطها العريضة الأساسية المتمثلة بحل الدولتين على طول الحدود المعترف بها دولياً (ما قبل حزيران/يونيو 1967)، مع "تعديلات طفيفة ومشتركة"، لتبني المصطلحات الأميركية الرسمية قبل خروج واشنطن من المجتمع الدولي في منتصف السبعينيات.
وقد قبل العالم أجمع تقريباً بالمبادئ الأساسية، بما في ذلك الدول العربية (التي استمرت في الدعوة إلى التطبيع الكامل للعلاقات)، ومنظمة التعاون الإسلامي (بما في ذلك إيران)، والجهات الفاعلة غير الحكومية المعنية (بما في ذلك حماس). وتم اقتراح التسوية من هذا المنطلق لأول مرة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في كانون الثاني/يناير 1976 من قِبل الدول العربية الكبرى، إلّا أنّ "إسرائيل" رفضت حضور الجلسة، واستخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضد القرار، وفعلت ذلك مرة أخرى عام 1980. ومنذ ذلك الحين، لم يطرأ على سجل الجمعية العامة أي تغيير.
وقد تكشّفت حقائق مهمة وواضحة وراء الرفض الأميركي-الإسرائيلي لهذا القرار؛ فبعد اتفاقيات كامب ديفيد الفاشلة في عام 2000، أدرك الرئيس كلينتون أن الشروط التي اقترحها و"إسرائيل" غير مقبولة بالنسبة إلى جميع الفلسطينيين. وفي كانون الأول/ ديسمبر من ذلك العام، اقترح "معاييره" غير الدقيقة، ولكنها أكثر إيجابية، ثم صرّح بأنَّ الجانبين قبلا بهذه المعايير، مع إبداء تحفظات.
واجتمع المفاوضون من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في مدينة طابا المصرية في كانون الثاني/يناير 2001 لحل الخلافات، وكانوا في طريقهم إلى تحقيق تقدّم ملحوظ. وخلال المؤتمر الصحافي الأخير الذي عقدوه، ذكروا أنه، مع مزيد من الوقت، ربما كان بإمكانهم التوصل إلى اتفاق تام. ومع ذلك، أوقفت "إسرائيل" المفاوضات في وقت مبكر، وأُلغي بالتالي التقدّم الرسمي على الرغم من استمرار المناقشات غير الرسمية على مستوى عالٍ، ما أدى إلى انبثاق اتفاق جنيف الذي رفضته "إسرائيل" وتجاهلته الولايات المتحدة.
وفي ذلك الوقت، تم التوصل إلى اتفاق كبير، لكن التسوية على هذا الأساس لا تزال بعيدة المنال، في حال كانت واشنطن مستعدة لقبولها بالطبع مرّة جديدة، لكن لسوء الحظ، لا وجود لمؤشرات على حدوث ذلك.
وحيكت أساطير وحكايات كثيرة حول السجل بأكمله، لكن الحقائق الأساسية كانت واضحة بما فيه الكفاية وموثقة بشكل جيّد.
وتؤازر الولايات المتحدة "إسرائيل" في توسيع رقعة الاحتلال وتعميقها؛ ففي عام 2005، بعدما أدركت حكومة أرييل شارون أن من غير المجدي تقديم الدعم المالي لبضعة آلاف من المستوطنين الإسرائيليين في غزة، الذين كانوا يستولون على موارد كبيرة ويتمتعون بحماية جزء كبير من الجيش الإسرائيلي، قررت نقلهم إلى الضفة الغربية ومرتفعات الجولان الأكثر أهمية.
وعوضاً عن تنفيذ هذه العملية التي كانت سهلة جداً بشكل مباشر، قررت الحكومة إحداث "صدمة وطنية"، عن طريق تكرار المهزلة التي صاحبت الانسحاب من صحراء سيناء بعد اتفاقيات كامب ديفيد في الفترة بين عامي 1978 و1979. وفي كل الأحوال، صاحب الانسحاب صرخة "لن يتكرر ذلك أبداً"، التي كانت تعني عملياً أنه "لا يمكننا التخلي عن شبر واحد من الأراضي الفلسطينية التي نريد الاستيلاء عليها في انتهاك صارخ للقانون الدولي. وقد لقيت هذه المهزلة صدى مسموعاً في الغرب، على الرغم من سخرية المعلقين الإسرائيليين الأكثر حنكة وذكاء في "إسرائيل"، ومن ضمنهم عالم الاجتماع البارز الراحل باروخ كيمرلينغ.
وبعد انسحابها رسمياً من قطاع غزة، لم تتخلَّ "إسرائيل" قط عن سيطرتها الكاملة على القطاع، الذي غالباً ما وصف واقعاً بأنّه "أكبر سجن في العالم". وفي كانون الثاني/يناير 2006، أي بعد أشهر قليلة من الانسحاب، أجرت الدولة الفلسطينية انتخابات اعترف المراقبون الدوليون بحريتها ونزاهتها، إلا أن الفلسطينيين صوتوا "خطأً" لمصلحة حماس. وعلى الفور، كثفت الولايات المتحدة و"إسرائيل" هجومهما على سكان غزة كعقاب على هذا التصرّف الخاطئ. ولم يتم إخفاء الحقائق والمنطق، بل تم نشرها علناً إلى جانب تعليقات تبجّل إخلاص واشنطن الصادق للديمقراطية. ومنذ ذلك الحين، كثّفت "إسرائيل" هجومها على سكان غزة بدعم من الولايات المتحدة، عن طريق استخدام العنف وتضييق الخناق الاقتصادي واعتماد الهمجية المتزايدة.
وفي غضون ذلك، واصلت "إسرائيل" تنفيذ برامج طويلة الأمد في الضفة الغربية للاستيلاء على الأراضي والموارد القيّمة والنفيسة للفلسطينيين وتركهم في كانتونات غير صالحة للعيش، معظمها بعيد عن الأنظار؛ وكلّ ذلك بدعم من الولايات المتحدة. ويشير المعلّقون الإسرائيليون بصراحة إلى هذه الأهداف على أنها "استعمار جديد". وقد أطلق آرييل شارون، "عرّاب" برامج الاستيطان، على هذه الكانتونات اسم "البانتوستانات"، رغم أنّ المصطلح مضلل؛ فدولة جنوب أفريقيا كانت تحتاج إلى أغلبية القوى العاملة ذات البشرة السمراء، في حين ستكون "إسرائيل" سعيدة في حال اختفى الفلسطينيون، وسياساتها موجهة لتحقيق هذه الغاية.
محاصرة غزّة براً وجواً
يُعد فصل غزّة عن الضفة الغربية إحدى الخطوات لإقامة كانتونات وتقويض الآمال في قيام دولة فلسطينية مستقلة. وقد ضاعت هذه الآمال في غياهب النسيان، وهي جريمة فظيعة لا ينبغي لنا أن نوافق عليها ضمنياً. وفي هذا الصدد، كتبت الصحافية الإسرائيلية أميرة هاس، وهي واحدة من أبرز المتخصصين في شؤون قطاع غزة، ما يلي:
"شكّلت القيود التي فرضتها إسرائيل على حركة الفلسطينيين في كانون الثاني/ يناير 1991 إلغاءً لعملية كانت قد بدأت في حزيران/ يونيو 1967. ففي ذلك الوقت، وللمرة الأولى منذ عام 1948، كان جزء كبير من الشعب الفلسطيني يعيش مرة أخرى في الأراضي المفتوحة لبلد واحد كان محتلًا، لكنه مع ذلك كان كاملاً.. ويُعد الفصل التام لقطاع غزة عن الضفة الغربية أحد أعظم إنجازات السياسة الإسرائيلية، التي يتمثل هدفها الشامل في منع التوصل إلى حل قائم على القرارات والتفاهمات الدولية، وبدلاً من ذلك إملاء ترتيب يعتمد على التفوق العسكري للجيش الإسرائيلي..
"ومنذ كانون الثاني/ يناير 1991، نجحت "إسرائيل" في تعزيز الانقسام والفصل بيروقراطياً ولوجستياً، ليس بين الفلسطينيين والإسرائيليين فحسب، بل أيضاً بين السكان الفلسطينيين في القدس وأولئك الذين يعيشون في بقية الأراضي، وبين سكان غزة والضفة الغربية/ المقدسيين. في المقابل، يعيش اليهود في نفس قطعة الأرض هذه في ظل نظام متميز ومنفصل غني بالامتيازات والقوانين والخدمات والبنية التحتية المادية وحرية التنقل".
وتضيف سارة روي، الباحثة الأكاديمية الرائدة في شؤون غزة من جامعة هارفارد، قائلةً:
"تعدّ غزة مثالاً لمجتمع تم تحويله عمداً إلى مجتمع يرزح تحت وطأة الفقر المدقع. وقد تحول سكانها الذين كانوا منتجين ذات يوم إلى مجتمع من الفقراء يعتمد على المعونات... بدأ إخضاع غزة قبل فترة طويلة من الحرب الإسرائيلية الأخيرة ضدها (كانون الأول/ ديسمبر 2008). وقد أدى الاحتلال الإسرائيلي، الذي ينكره المجتمع الدوليّ اليوم إلى حد كبير، إلى تدمير اقتصاد غزة وشعبها، وخصوصاً منذ عام 2006. وبعد الهجوم الإسرائيلي في كانون الأول/ ديسمبر 2008، باتت الظروف المتدهورة في غزة غير مناسبة للعيش فيها عملياً، فقد انقطعت سبل العيش وتدمرت المنازل والبنية التحتية العامة".
"وفي غزة اليوم، لا وجود لقطاع خاص أو صناعة يمكن الحديث عنها، فقد تم تدمير 80% من المحاصيل الزراعية في غزة، وتواصل "إسرائيل" قنص المزارعين الذين يحاولون زراعة حقولهم ورعايتها قرب الحدود المسيّجة الخاضعة لدوريات. كما تم تدمير معظم الأنشطة الإنتاجية... واليوم، يعتمد 96% من سكان غزة البالغ عددهم 1.4 مليون نسمة على المساعدات الإنسانية لتلبية احتياجاتهم الأساسية. ووفقاً لبرنامج الأغذية العالمي، يحتاج قطاع غزة إلى ما لا يقل عن 400 شاحنة من المواد الغذائية يومياً لتلبية الاحتياجات الغذائية الأساسية للسكان. ومع ذلك، وعلى الرغم من قرار مجلس الوزراء الإسرائيلي [22 آذار/مارس 2009] القاضي برفع جميع القيود المفروضة على دخول المواد الغذائية إلى غزة، لم يُسمح إلا لـ653 شاحنة من المواد الغذائية والإمدادات الأخرى بالدخول ابتداءً من 10 أيار/مايو، وهو ما يلبي في أفضل الأحوال 23% من الاحتياجات المطلوبة. وتسمح "إسرائيل" حاليًا بدخول ما بين 30 و40 منتجاً تجارياً إلى غزة مقارنة بـ4000 منتج تمت الموافقة عليهم قبل حزيران/يونيو 2006".
وفي كثير من الأحيان، لا يمكن التأكيد أنّ "إسرائيل" لم تكن تملك حجة مقنعة لمهاجمة غزة في عامي 2008 و2009، بدعم أميركي كامل، وباستخدام أسلحة أميركية بشكل غير قانوني. ويؤكد الرأي شبه العالمي العكس، زاعماً أن "إسرائيل" كانت تدافع عن نفسها، وهذا أمر غير قابل للاستمرار إطلاقاً، في ضوء رفض "إسرائيل" القاطع للوسائل السلمية التي كانت متوافرة، وهو أمر تدركه "إسرائيل" جيداً وشريكتها في الجريمة أميركا. وبعيداً عن هذا، فإن الحصار الذي يفرضه هذا الكيان على غزة يشكل في حد ذاته عملاً عدائياً، وهو ما تعترف به "إسرائيل" بكل تأكيد. وقد بررت مراراً وتكراراً شن حروب كبرى بحجة القيود الجزئية المفروضة على وصولها إلى العالم الخارجي، على الرغم من أنه لا شيء يشبه على الإطلاق القيود التي فرضتها منذ فترة طويلة على غزة.
علاوة على ذلك، يُعد الحصار البحري أحد العناصر الأساسية في الحصار الإجرامي الذي تفرضه "إسرائيل"، والذي لم يتم الإبلاغ عنه إلا نادراً. وقد أفاد بيتر بومونت من غزة بأنّ "النطاق الساحلي لحدود غزة يتميز بسياج مختلف؛ فالقضبان عبارة عن زوارق حربية إسرائيلية تثير موجات هائلة، وتنطلق مسرعة خلف قوارب الصيد الفلسطينية، وتمنعها من الخروج من المنطقة التي تفرضها السفن الحربية".
ووفقاً للتقارير الواردة من هذا النطاق، فقد انطلقت عملية تشييد السياج البحري منذ عام 2000. وتم إخراج قوارب الصيد من المياه الإقليمية لغزة نحو الشاطئ بواسطة الزوارق الحربية الإسرائيلية، وغالباً ما يتم ذلك بطريقة عنيفة من دون سابق إنذار، ويتسبب بسقوط الكثير من الضحايا. ونتيجة لهذه الإجراءات البحرية، انهار قطاع صيد الأسماك في غزة عملياً؛ ومن المستحيل صيد الأسماك قرب الشاطئ بسبب التلوث الناجم عن الهجمات الإسرائيلية المنتظمة، بما في ذلك تدمير محطات الطاقة ومرافق الصرف الصحي.
والجدير بالذكر أنّ هذه الهجمات البحرية الإسرائيلية بدأت بعد وقت قصير من اكتشاف الشركة البريطانية للغاز (British Gas) لما يشبه حقول غاز طبيعي كبيرة جداً في المياه الإقليمية لغزة. وتشير تقارير القطاع إلى أنّ "إسرائيل" بدأت بالفعل استيلاءها على موارد الغاز هذه لاستخدامها الخاص، كجزء من التزامها بتحويل اقتصادها إلى الغاز الطبيعي.
وتفيد تقارير مصادر القطاع المعيارية بما يلي:
"منحت وزارة المالية الإسرائيلية شركة الكهرباء الإسرائيلية (IEC) الموافقة على شراء كميات من الغاز الطبيعي من شركة الغاز البريطانية أكبر مما تم الاتفاق عليه في الأصل، وفقاً لمصادر الحكومة الإسرائيلية التي قالت إنّ المرافق المملوكة للدولة ستكون قادرة على التفاوض للحصول على أكبر قدر من الغاز الطبيعي. كما سيتم استخراج 1.5 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي من الحقل البحري الواقع قبالة ساحل البحر الأبيض المتوسط في قطاع غزة الخاضع للسيطرة الفلسطينية.
"وفي العام الماضي، منحت الحكومة الإسرائيلية شركة الكهرباء الإسرائيلية موافقتها على شراء 800 مليون متر مكعب من الغاز من الحقل. وفي الآونة الأخيرة، غيّرت الحكومة الإسرائيلية سياستها، وقررت أنّ الشركة المملوكة للدولة يمكنها شراء كامل كمية الغاز من حقل غزة البحري. وقد صرّحت الحكومة في وقت سابق بأنّ شركة الكهرباء الإسرائيلية يمكنها شراء نصف الكمية الإجمالية، وسيشتري الباقي منتجو الطاقة من القطاع الخاص".
ومن المؤكد أنّ نهب ما يمكن أن يصبح مصدراً رئيساً للدخل في غزة هو أمر معروف لدى السلطات الأميركية. ومن المنطقي أن نفترض أنّ نية الاستيلاء على هذه الموارد المحدودة، سواء من جانب "إسرائيل" وحدها أو بالتعاون مع السلطة الفلسطينية المتعاونة معها، هي الدافع وراء منع قوارب صيد الغزيين من دخول المياه الإقليمية لغزة.
أوباما والمستوطنات
لطالما كانت أنواع القيود المفروضة على التنقل المستخدمة لتدمير قطاع غزة مطبّقة في الضفة الغربية أيضاً بأقل قساوة، ولكن مع تأثيرات مريرة على الحياة والاقتصاد، وأفاد البنك الدولي بأنّ "إسرائيل" أنشأت "نظام إغلاق معقد يقيّد وصول الفلسطينيين إلى مناطق واسعة من الضفة الغربية.. فبقي الاقتصاد الفلسطيني راكداً نتيجة الانكماش الحاد الذي يعانيه القطاع والقيود الإسرائيلية المتواصلة على التجارة الفلسطينية والتنقل في الضفة الغربية".
وأشار البنك الدولي إلى حواجز الطرق ونقاط التفتيش الإسرائيلية التي تعوق التجارة والسفر، فضلاً عن القيود المفروضة على تشييد المباني للفلسطينيين في الضفة الغربية، إذ تسيطر حكومة الرئيس الفلسطيني محمود عباس. وتسمح "إسرائيل"، بل وتشجع، الوجود المميز للنخب في رام الله، وفي أماكن أخرى أحياناً، وتعتمد إلى حد كبير على التمويل الأوروبي، وهي سمة تقليدية للممارسات الاستعمارية وممارسات الاستعمار الجديد.
كل ذلك يشكّل ما يسميه الناشط الإسرائيلي جيف هالبر "مصفوفة السيطرة" الرامية إلى إخضاع السكان المستعمَرين. وقد هدفت هذه البرامج المنهجية على مدى أكثر من 40 عاماً إلى ترسيخ توصية وزير الدفاع موشيه ديان لزملائه بعد وقت قصير من الغزوات الإسرائيلية عام 1967، بأنّ علينا أن نقول للفلسطينيين الموجودين في هذه الأرض: "لا نملك حلاً. يجب أن تستمروا في العيش كالكلاب. ومن يرغب في الرحيل فليرحل، وسنرى إلى أين ستقودنا هذه العملية".
وبالانتقال إلى نقطة الخلاف الثانية، وهي المستوطنات، فهناك بالفعل مواجهة، لكنّها أقل دراماتيكية مما تم تصويره. وقد ظهر موقف واشنطن بقوة أكبر في بيان وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، الذي كثيراً ما يُستشهد به، والذي رفضت فيه "استثناءات النمو الطبيعي" للسياسة المعارضة لبناء مستوطنات جديدة.
ويصر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ومعه الرئيس شمعون بيريز وأغلبية المجتمع السياسي الإسرائيلي، على السماح "بالنمو الطبيعي" داخل المناطق التي تعتزم "إسرائيل" ضمها، ويشتكي من أنّ الولايات المتحدة تتراجع عن تصريح جورج دبليو بوش حول هذا التوسع في إطار "رؤيته" للدولة الفلسطينية.
وقد ذهب كبار أعضاء حكومة نتنياهو أبعد من ذلك، إذ أعلن وزير المواصلات يسرائيل كاتس أنّ "الحكومة الإسرائيلية الحالية لن تقبل بأي حال من الأحوال تجميد النشاط الاستيطاني القانوني في يهودا والسامرة". ومصطلح "قانوني" في اللغة الأميركية - الإسرائيلية يعني "غير قانوني، ولكنه مرخص من قبل حكومة "إسرائيل" في إشارة من واشنطن". وبموجب هذا الاستخدام، يطلق على البؤر الاستيطانية غير المرخصة وصف "غير قانونية"؛ رغم أنّها، بعيداً عن إملاءات الأقوياء، ليست أكثر شرعية من المستوطنات الممنوحة لـ"إسرائيل" بموجب "رؤية" بوش وتجاهل أوباما التام.
إنّ الصيغة "الجريئة" التي أطلقها أوباما، ومعه كلينتون، ليست جديدة، فهي تعيد صياغة مسوّدة إدارة بوش لخارطة الطريق لعام 2003، التي تنص على أن "تجمد "إسرائيل" جميع أنشطتها الاستيطانية في المرحلة الأولى (بما في ذلك النمو الطبيعي للمستوطنات)"، فتقبل جميع الأطراف رسمياً بخارطة الطريق (التي تم تعديلها لإسقاط عبارة "النمو الطبيعي")، وتتجاهل باستمرار حقيقة أن "إسرائيل" أضافت في الحال 14 "تحفظًا" يجعلها غير صالحة للعمل بدعم من الولايات المتحدة.
ولو كان أوباما جاداً بشأن معارضة التوسع الاستيطاني، لكان بوسعه أن يمضي بسهولة في اتخاذ تدابير ملموسة، كخفض المساعدات الأميركية بمقدار المبلغ المخصص لهذا الغرض على سبيل المثال، إلا أنّ من الصعب أن تكون هذه الخطوة ثورية أو شجاعة، وهذا ما فعلته إدارة بوش الأب (خفض ضمانات القروض)، ولكن بعد اتفاق أوسلو عام 1993، ترك الرئيس كلينتون الحسابات لحكومة "إسرائيل". ومن غير المستغرب أنه "لم يحدث أي تغيير في النفقات المتدفقة إلى المستوطنات"، بحسب ما ذكرت الصحافة الإسرائيلية. ويخلص التقرير إلى أن "رئيس الوزراء رابين سيواصل بناء المستوطنات. وماذا عن الأميركيين؟ سيتفهمون ذلك".
وقد أبلغ مسؤولون في إدارة أوباما الصحافة بأنّ التدابير التي اتخذها بوش الأب "ليست موضع نقاش"، وأنّ الضغوط ستكون "رمزية إلى حد كبير". باختصار، أوباما يتفهم ذلك بقدر ما فعل كلينتون وبوش الابن.
الرؤى الأميركية
في أحسن الأحوال، يُعد التوسع الاستيطاني قضية جانبية، مثل قضية "البؤر الاستيطانية غير القانونية"، أي تلك التي لم تسمح بها حكومة "إسرائيل". إنّ التركيز على هذه القضايا يصرف الانتباه عن حقيقة أن لا وجود لـ"بؤر استيطانية قانونية"، وأنّ المستوطنات القائمة هي المشكلة الأساسية التي يجب حلّها.
وتفيد الصحافة الأميركية بأن "التجميد الجزئي كان قائماً منذ عدة سنوات، لكنّ المستوطنين وجدوا طرقاً للالتفاف على القيود.. وتباطأت عملية بناء المستوطنات، لكنها لم تتوقف أبداً، واستمرت بمعدل سنوي يبلغ نحو 1500 إلى 2000 وحدة" على مدى السنوات الثلاث الماضية. وفي حال استمر بناء المستوطنات بالمعدل الذي كان عليه عام 2008، فإنّ الـ50046 وحدة التي تمت الموافقة عليها، ستكتمل في غضون 20 عاماً تقريباً.. وإذا قامت "إسرائيل" ببناء جميع الوحدات السكنية التي سبق أن تمت الموافقة عليها في الخطة الرئيسة الشاملة للمستوطنات في البلاد، فإنها ستضاعف عدد منازل المستوطنين في الضفة الغربية".
وتشير تقديرات منظمة السلام الآن، التي تراقب الأنشطة الاستيطانية، إلى أنّ أكبر مستوطنتين، وهما آرييل ومعاليه أدوميم، اللتين بنيتا بشكل رئيسي خلال سنوات أوسلو في المواقع الاستراتيجية التي تقسم الضفة الغربية إلى كانتونات، سيتضاعف حجمهما.
ويعود نمو المستوطنات إلى العدد الكبير من المهاجرين الإسرائيليين في انتهاك لاتفاقيات جنيف، مدعومين بإعانات سخية، وأغلبها يشكل انتهاكاً مباشراً لقرارات حكومية رسمية، ولكنّها تنفذ بتفويض من الحكومة، وتحديداً من باراك، الذي يعتبر حمامة السلام في المجتمع الإسرائيلي.
وبالعودة إلى الواقع، فإنّ كل هذه المناقشات حول التوسع الاستيطاني تُعد تهرباً من القضية الأكثر أهمية المتعلقة بالمستوطنات، والمتمثلة بما سبق أن أنشأته الولايات المتحدة و"إسرائيل" في الضفة الغربية. ويقرّ هذا التهرب ضمنياً بأنّ برامج الاستيطان غير القانونية القائمة فعلياً مقبولة إلى حد ما (مع استبعاد مرتفعات الجولان التي تم ضمها في انتهاك صارخ لقرارات مجلس الأمن). وعلى الرغم من أن "رؤية بوش"، التي قبلها أوباما، كما يبدو، تنتقل من الدعم الضمني إلى الدعم الصريح لهذه الانتهاكات للقانون. وبالتالي، فإنّ ما يجري حالياً يكفي لضمان عدم إمكانية حصول الفلسطينيين على حق تقرير المصير. وتشير كل الدلائل إلى أنّه حتى في ظل الافتراض غير المرجح بأن "النمو الطبيعي" سيتوقف، فإنّ الرفض الأميركي-الإسرائيلي سيستمر ليُعوق الإجماع الدولي كما حصل من قبل.
وفي وقت لاحق، أعلن رئيس الوزراء نتنياهو تعليق بناء المستوطنات الجديدة لمدة 10 أشهر، مع عدد من الاستثناءات واستثناء القدس الكبرى بالكامل، إذ تتواصل عمليات مصادرة المناطق العربية وبناء مستوطنات لليهود بوتيرة سريعة. وقد أشادت هيلاري كلينتون بهذه التنازلات "غير المسبوقة" بشأن البناء (غير القانوني)، الأمر الذي أثار الغضب والسخرية في معظم أنحاء العالم.
وقد يكون الأمر مختلفاً لو كان هناك "تبادل شرعي للأراضي" قيد الدرس؛ وهو الحل الذي تم طرحه في مدينة طابا وتوضيحه بشكل كامل في اتفاق جنيف الذي تم التوصل إليه في المفاوضات غير الرسمية رفيعة المستوى بين "إسرائيل" وفلسطين. وقد تم تقديم الاتفاق في جنيف في تشرين الأول/أكتوبر 2003، فرحّب به عدد كبير من دول العالم، ورفضته "إسرائيل"، وتجاهلته الولايات المتحدة.
"حيادية" واشنطن
لقد احتفظ خطاب باراك أوباما الموجّه إلى العالم الإسلامي في 4 حزيران/يونيو 2009 في القاهرة إلى حد كبير بأسلوب "الورقة البيضاء" المصقول بعناية مع القليل من المضمون، ولكن تم تقديمه بطريقة أنيقة وجذّابة تسمح للمستمعين بأن يكتبوا على هذه الورقة ما يرغبون في سماعه. واستحوذت شبكة "سي أن أن" على جوهر هذا الخطاب في عنوانها الرئيس ضمن تقرير بعنوان "أوباما يتطلع إلى الوصول إلى روح العالم الإسلامي". وكان أوباما قد أعلن عن أهداف خطابه في مقابلة مع الكاتب في صحيفة "نيويورك تايمز" توماس فريدمان.
وقال أوباما لجمهوره إنّ من السهل "توجيه أصابع الاتهام.. ولكن إذا رأينا هذا الصراع من جانب واحد فقط أو آخر، فسنعمى عن الحقيقة". ويتمثل الحل الوحيد في تلبية تطلعات الجانبين من خلال دولتين يعيش فيهما كل من الإسرائيليين والفلسطينيين بسلام وأمان".
وبالانتقال من حقيقة أوباما - فريدمان إلى الحقيقة، يختبئ طرف ثالث يؤدي دوراً حاسماً في كل مكان، هو الولايات المتحدة، لكن هذا الطرف المشارك في الصراع تجاهله أوباما. ومن المفهوم أن يكون هذا التجاهل طبيعياً ومناسباً، وبالتالي لم يتم ذكره؛ ومقال فريدمان حمل عنوان "خطاب أوباما يستهدف العرب والإسرائيليين على حد سواء". ويظهر تقرير صحيفة "وول ستريت جورنال" في صفحتها الأولى حول خطاب أوباما تحت عنوان "أوباما يوبخ إسرائيل والعرب في ظل انفتاحه على المسلمين"، والتقارير الأخرى مشابهة.
ويمكن فهم الاتفاقية على أساس المبدأ العقائدي القائل بأنه على الرغم من أن حكومة الولايات المتحدة ترتكب أخطاء في بعض الأحيان، إلا أنّ نياتها بحكم تعريفها حميدة، بل وحتى نبيلة. وفي عالم الصور الجذابة، سعت واشنطن دائماً إلى أن تكون وسيطاً نزيهاً وتواقاً إلى إرساء السلام وتحقيق العدالة. وبناء عليه، تتغلّب هذه العقيدة على الحقيقة التي يخلو منها الخطاب أو التغطية السائدة لها.
مرة جديدة، كرّر أوباما "رؤية" بوش بشأن الدولتين، من دون أن يوضح ما يقصده بعبارة "الدولة الفلسطينية". ولم يتم توضيح نياته من خلال الإغفالات المهمة فحسب التي سبق أن تمت مناقشتها، بل أيضاً من خلال انتقاده الصريح لـ"إسرائيل"، بقوله: "إنّ الولايات المتحدة لا تقبل شرعية استمرار بناء المستوطنات الإسرائيلية، فهذه العملية تنتهك الاتفاقيات السابقة وتقوض الجهود المبذولة لتحقيق السلام. وبناء عليه، حان الوقت لكي تتوقف عملية بناء هذه المستوطنات"، وهذا يعني أنّ "إسرائيل" يجب أن ترقى إلى مستوى المرحلة الأولى من خارطة الطريق لعام 2003، التي رفضتها على الفور بدعم ضمني من الولايات المتحدة، كما ذكرنا سابقاً، رغم أن الحقيقة تتجلّى في استبعاد حتى الخطوات التي اتخذها بوش الأب للانسحاب من المشاركة في هذه الجرائم.
ويشير أوباما من خلال تجاهله الكلمتين المؤثرتين "الشرعية" و"المتواصل" إلى توافقه مع رؤية بوش، فالمشاريع الاستيطانية والبنية التحتية الضخمة القائمة تُعدّ "مشروعة"، وهي تضمن أن تكون عبارة "الدولة الفلسطينية" مرادفًا لـ"الدجاج المقلي".
ولطالما حذر أوباما الدول العربية، بقوله: "عليها أن تدرك أن مبادرة السلام العربية كانت بداية مهمة، ولكنها ليست نهاية مسؤولياتها"، ولكن من الواضح أنها لن تشكل "بداية" ذات مغزى في حال استمر أوباما في رفض مبادئها الأساسية.
وفيما يتعلق بالديمقراطية، قال أوباما: "إننا لن نفترض اختيار نتيجة انتخابات سلمية"، كما حدث في كانون الثاني/يناير 2006، عندما اختارت واشنطن النتيجة بطريقة انتقامية وانتقلت على الفور إلى معاقبة الفلسطينيين بشدة لأن نتيجة الانتخابات لم تلقَ إعجابها. وكل ذلك بموافقة أوباما الواضحة إذا حكمنا من خلال كلماته قبل توليه منصبه، وأفعاله منذ ذلك الحين.
وكما كان الحال في الماضي، فإن دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأهداف الاستراتيجية والاقتصادية.
نقله إلى العربية: زينب منعم