من الانقلاب إلى الفوضى.. كيف أضعفت واشنطن الديمقراطية في هايتي؟
مجلة "ريسبونسيبل ستيت كرافت" الأميركية، في مقال، عن الفوضى التي عمّت هايتي بعد إطاحة الولايات المتحدة برئيسها قبل عشرين عاماً، مشدّدةً على أنّه يتوجب على الرئيس الأميركي، جو بايدن، تغيير نهجه تجاه هذه الدولة.
مجلة "Responsible Statecraft" الإلكترونية، التابعة لمعهد "كوينسي" للدراسات الأميركي، تنشر مقالاً، يتحدث عن الفوضى التي تعمّ هايتي الكاريبية بعد 20 عاماً من إطاحة الولايات المتحدة رئيسها جان برتران أريستيد، وتسليم السلطة لأنظمة مدعومة أميركياً، مشيرةً إلى أنّ على الرئيس الأميركي جو بايدن أن يُغيّر نهجه تجاه هذه الدولة، إذا كان قلقاً بالفعل على "الديمقراطية الأميركية".
وفي ما يلي نص المقال منقولاً إلى العربية:
في مثل هذا الأسبوع منذ 20 عاماً، وضعت حكومة الولايات المتحدة رئيس هايتي المنتخب، جان برتران أريستيد، على متن طائرة أُرسلت من خليج غوانتانامو إلى جمهورية أفريقيا الوسطى بخطة طيران زائفة، في رحلةٍ أكملت انقلاباً أنهى عقداً من التقدم الديمقراطي الذي تم تحقيقه بشق الأنفس، فيما بدأت أيضاً عقدين من تفكيك الديمقراطية من جانب الأنظمة الهايتية المدعومة من الولايات المتحدة.
فالآن، تحتفل هايتي بذكرى الانقلاب من دون وجود مسؤول منتخب واحد في منصبه، ومن دون أي انتخابات في الأفق، في حين يواجه أغلب الهايتيين ظروفاً إنسانية كارثية.
تنفي الحكومة الأميركية رسمياً وقوع انقلاب، وتدّعي أنّها لم تجبر أريستيد على الفرار، لكنّ انقلاب 29 شباط/فبراير 2004 نجح في إزاحة زعيم إقليمي قاوم الامتثال للأوامر الأميركية، فالأعوام العشرين التالية من دعم الحكومات المعارضة لأريستيد، التي أغلبها غير منتخبة، أو منتخبة في انتخابات معيبة، كانت سبباً في منع ظهور زعماء هايتيين آخرين غير مطيعين.
لكن الآن، وبينما تواجه الولايات المتحدة انتخاباتها هذا العام، والتي وصفها الرئيس جو بايدن بأنّها تهديد وجودي لديمقراطية واشنطن، التي تكافح مع وصول الهايتيين الفارين من الظروف المروعة التي ساعدت السياسات الأميركية في توليدها، حان الوقت لإعادة النظر في هذا النهج.
في نظرةٍ تاريخية للأحداث، كانت الولايات المتحدة قد أعادت بالفعل أريستيد قبل أن تطيح به. ففي عام 1994، أطلق الرئيس حينذاك، بيل كلينتون، عملية استعادة الديمقراطية لإعادة أريستيد من منفاه الذي سببه الانقلاب العسكري عام 1991. ترك أريستيد منصبه في نهاية فترة ولايته في عام 1996، في أول انتقال للسلطة على الإطلاق من رئيس هاييتي منتخب إلى آخر، ومن ثم عاد إلى القصر الرئاسي، في ثاني انتقال ديمقراطي للسلطة الرئاسية في هايتي في عام 2001.
لكن زعماء الولايات المتحدة لم يعجبهم الاتجاه الذي سلكته الديمقراطية المستعادة في هايتي، إذ إنّهم استاءوا بشكل خاص من تحدي الرئيس أريستيد للولايات المتحدة من خلال محاولته رفع الحد الأدنى لأجور العمال الذين يخيطون ملابس الأميركيين، وتحدي عقيدة "الحكومة الصغيرة" من خلال زيادة الاستثمار الحكومي في التعليم والرعاية الصحية، والتحدث علناً ضد النظام الدولي غير العادل، والمطالبة بمبلغ 21 مليار دولار من فرنسا كتعويض عن "إتاوة الاستقلال" التي ابتزت بها فرنسا هايتي في عام 1825.
كانت هذه السياسات تحظى بشعبية كبيرة في مناطق هايتي الواقعة خارج مجمع السفارة الأميركية. وفي عام 2000، صوّت الهايتيون بأغلبية ساحقة لصالح أريستيد وحزبه لافالاس. لكن الولايات المتحدة استخدمت جدلاً بسيطاً بشأن المخالفات الفنية المزعومة في الانتخابات كذريعة لفرض حظر على مساعدات التنمية، الأمر الذي أدى إلى ركوع اقتصاد هايتي وحكومتها.
وبالتزامن مع ذلك، هاجمت حركة تمرد قادها جنود سابقون الحكومة الضعيفة عبر الحدود من جمهورية الدومينيكان، ما مهد الطريق أمام الولايات المتحدة لإجبار أريستيد على الذهاب إلى المنفى.
ومنذ ذلك الوقت، لم تتمكن هايتي قط من استعادة مستوى الديمقراطية الذي كانت تتمتع به قبل رحيل أريستيد، ولم تشهد السنوات العشرين الماضية سوى انتقال واحد للسلطة من رئيس منتخب إلى آخر، في عام 2011. ولأكثر من نصف تلك الفترة، كان برلمان هايتي غير قادر على إجراء تصويت، لأنّ الفشل في إجراء الانتخابات تركه مع عدد قليل جداً من الأعضاء. ولمدة ربع ذلك الوقت، لم يكن هناك رئيس منتخب في منصبه.
أُجريت آخر انتخابات في هايتي في عام 2016، ولم يعقد البرلمان أي انتخابات منذ عام 2019. ولم يكن هناك رئيس منذ تموز/يوليو 2021، عندما اغتيل الرئيس آنذاك جوفينيل مويز، الذي بقي في منصبه بعد 5 أشهر من نهاية فترة ولايته. ويقود هايتي رئيس الوزراء الفعلي، آرييل هنري، الذي لم يتم اختياره من قبل الهايتيين بل من قبل المجموعة الأساسية، وهي مجموعة من الدول ذات الأغلبية البيضاء بقيادة الولايات المتحدة. ويمكن القول إنّ عهد هنري غير دستوري ويواجه معارضة هاييتية واسعة النطاق. لكن مع دعم الولايات المتحدة له، تمكن هنري من الخدمة لفترة أطول من أي رئيس وزراء خلال 40 عاماً على الأقل.
وقد أدى هذا الدعم المستمر إلى إضعاف تعبئة المجتمع المدني الواعدة نحو تشكيل حكومة انتقالية ديمقراطية ذات قاعدة عريضة، وإزالة أي حافز قد يدفع هنري إلى تقديم تنازلات حقيقية نحو انتخابات نزيهة لا يستطيع هو وحزبه الفوز بها. استجابت الولايات المتحدة لتعنت هنري من خلال قيادة عملية إنشاء التدخل المسلح الأجنبي الذي طلبه هنري، والذي يقول الهايتيون إنّه لن يؤدي إلاّ إلى ترسيخ حكم الأخير.
وفي هذه الأثناء، يواجه الهايتيون ظروفاً لا تطاق. وتسيطر العصابات على جزء كبير من البلاد، بما في ذلك ما يقدر بنحو 80% من العاصمة بورت أو برنس. وقد حقق الاقتصاد نمواً صفرياً وتضخماً يزيد عن 15% لمدة 3 سنوات متتالية، فيما يواجه الأطفال مستويات غير مسبوقة من الهزال بسبب الجوع. ولإنقاذ أنفسهم وعائلاتهم من هذا الكابوس، يقوم مئات الآلاف من الهايتيين برحلة يائسة للخروج من هايتي توصلهم في معظم الأحيان إلى الحدود الأميركية.
في الخلاصة، ينبغي لمخاوف الرئيس بايدن بشأن الديمقراطية الأميركية أن توجه نهجه تجاه هايتي. فدفاعه عن الديمقراطية باعتبارها "قضية أميركا المقدسة" يضعف عندما تصر إدارته على الإبقاء على حكومة هايتي غير الشرعية في السلطة، وذلك على وجه التحديد لأنّها سوف تطيع إملاءات رؤساء الولايات المتحدة بشأن أولويات الناخبين الهايتيين. وعليه، إذا كان الرئيس بايدن جاداً بشأن الديمقراطية، فعليه أن يتيح للناخبين في هايتي الفرصة لاختيار قادتهم.
نقله إلى العربية زينب منعم