فرنسا: لماذا استقبلت دولة "حقوق الإنسان" ابن سلمان وتجاهلت ملف خاشقجي؟
يتحدث الكاتب في مدونته، عن دور السياسية الفرنسية الخارجية في العالم، ويتطرق إلى زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لباريس لبحث شراء الطاقة فيما مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي لم يكن ضمن الحسبان.
كشف الكاتب الفرنسي أوليفييه دا لاج، يوم الاثنين الأول من آب، تفاصيل بيان الإليزيه، بعد زيارة بن سلمان لفرنسا، وأشار إلى أنّ هدف الزيارة كان تجارياً من أجل النفط، في خضم الأزمة الأوكرانية. ولفت الكاتب إلى أنّ باريس "تعطي" بعض الدول مثل (إيران، وفنزويلا، وبورما، ودول أفريقية مختلفة، وغيرها) دروساً في معايير حقوق الإنسان، فيما تنظر بعيداً عندما يتعلّق الأمر بالدول التي تزود الهيدروكربونات أو بعملاء صناعات الأسلحة الخاصة بها كـ(الإمارات العربية المتحدة وقطر والمملكة العربية السعودية ومصر والهند وغيرها) وأحياناً عندما يتعلق الأمر بكليهما، كما هي الحال في المملكة العربية السعودية.
فيما يلي النص المنقول إلى العربية:
إذاً، هل تجدر الإشارة في النهاية، إلى أنّ دونالد ترامب كان على حق؟
ستكلفني كتابة ذلك كثيراً، لكن هناك بعض الحقيقة فيما يقوله ترامب عن مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول في 2 تشرين الأول/أكتوبر 2018. ففي حديثه إلى صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، في مقابلة نُشرت في 26 تموز/يوليو الجاري، قال الرئيس الأميركي السابق: "لم يتحدث إلي أحد في هذا منذ أشهر. أستطيع القول اليوم، إنه فيما يتعلق بخاشقجي، فقد هدأت الأمور حقاً".
من الصعب إثبات خطيئته، فيما نرى أقوياء هذا العالم يعودون إلى الجزيرة العربية، ويواجهون المسار السابق الذي خطتت له وكالة الاستخبارات الأميركية (سي أي إي)، كتحريض على اغتيال خاشقجي: فإيمانويل ماكرون، أول زعيم غربي يذهب إلى الجزيرة العربية منذ 2018، استقبله محمد بن سلمان، ولي العهد والرجل القوي في المملكة، في كانون الأول/ديسمبر الماضي، وتبعه إلى هناك رجب طيب إردوغان في نيسان/إبريل الماضي وقبل أسبوعين الرئيس الأميركي بايدن، الذي عدّه منبوذاً حتى وقت قريب.
والآن، بدعوة من الرئيس ماكرون، استقبل محمد بن سلمان، الذي وصل حديثاً من أثينا إلى الإليزيه في نهاية تموز/يوليو، في زيارة عمل حاولت فرنسا التكتم عليها، لكن السعوديين كشفوا عنها. زيارة عمل لا زيارة رسمية، هذا ما حاول تأكيده مستشارو الإليزيه، في محاولة منهم للتخفيف من التعليقات النقدية التي لا مفر منها. لكن في النهاية، لم يمنع هذا، من مد السجادة الحمراء لابن سلمان، ويجري ولو متأخراً، وبجرأة، زيارة تهدف إلى ضمان إمداد الفرنسيين بالطاقة في سياق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
إيمانويل ماكرون، أول زعيم لمجموعة السبع ذهب إلى السعودية للقاء محمد بن سلمان، وأول من استقبله رسمياً منذ مقتل خاشقجي، قبل أقل من أربع سنوات. إعادة دمج ولي العهد السعودي جارية وفرنسا تقدم مساهمة قوية.
في "عشاء العمل"، لم تُدعَ وسائل الإعلام ولم يبثّ الفرنسيون أي صورة. كان يجب الانتظار إلى صباح اليوم التالي حتى نشر الإليزيه بياناً طويلاً من (ثلاث صفحات) عن اجتماع بين ماكرون ومحمد بن سلمان. من الواضح أن ليلة طويلة من التفكير كانت ضرورية، للاتفاق على ما يمكنننا فعله، وما يجب أن نقوله عن هذا الاجتماع. بينما كان المستشارون في الإليزيه يرتبون اللقاء، عاد محمد بن سلمان للنوم في منزله في لوفيسيان، وهي قلعة تبلغ مساحتها نحو 7000 متر مربع تقع في وسط حديقة مساحتها 23 هكتاراً، يصادف أنّ من بناها مهندس معماري هو ابن عم جمال خاشقجي.
تجد في بيان الإليزيه، مقطعاً بليغاً عن "حرب العدوان (...) وآثارها الكارثية على السكان المدنيين وانعكاساتها على الأمن الغذائي"، وإذا قرأنا بعناية، ندرك أن هذه ليست الحرب التي تشنها المملكة العربية السعودية على اليمن منذ آذار/مارس 2015، والتي خلفت ما يقارب 400 ألف ضحية وعدداً غير محدود من الجرحى، بل عن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. في حين نوقشت الحرب على اليمن في عدد من فقرات البيان، لكن، بلهجة مختلفة تماماً: "فيما يتعلق بالحرب في اليمن، أشاد رئيس الجمهورية بجهود المملكة العربية السعودية لمصلحة حل سياسي وشامل وشامل تحت رعاية الأمم المتحدة، وأعرب عن رغبته في تمديد الهدنة"، كان من السيئ "جرح مشاعر ضيفه"، من خلال تذكير أسباب وآثار هذه الحرب، كما حدث في البيان، بما يتعلق بروسيا.
وكي لا يقال إنّ موضوع حقوق الإنسان حُذف، فإنّ الفقرة الأخيرة وضعت الأمور في "نصابها الصحيح": "في إطار حوار الثقة بين فرنسا والمملكة العربية السعودية، تناول رئيس الجمهورية قضية حقوق الإنسان في المملكة العربية السعودية".
عند قراءة هذه الصفحات الثلاث المكتملة، يجب أن نقنع أنفسنا بأنّ هذا النص ينبع جيداً من الإليزيه وليس من الغورافي (هي صحيفة فرنسية ساخرة للمعلومات المزيفة).
الرئيس الفرنسي يفعل ما هو ضروري للدفاع عن مصالح فرنسا، بحسب ما يؤكد أنصاره الذين يشكون في أنّ أوروبا محرومة جزءاً كبيراً من مجموع النفط والغاز الروسي، ويشيرون إلى أنّ "عليهم أن يجدوا مصادر بديلة للطاقة، وإذا جاء ذلك من خلال دعوة ابن سلمان، مهما كانت المظالم التي قد تكون لديهما ضدها، فليكن".
يمكن فهم هذا، صحيح أن الهيدروكربونات لا تكمن بالضرورة في باطن أرض البلاد الديمقراطية بحسب تصورنا، ويجب أن نكون عمليين، ولا يمكن اختيار النقص في البنزين وإغلاق الصناعات والبرد في الشتاء. إن حل هذه الأنواع من التناقضات هو حتى في صميم العمل الدبلوماسي. يسمي البعض هذا "السياسة الواقعية"، المصطلح الألماني قادم من السياسة الباردة والفعالة التي طبقها بسمارك (مستشار الرايخ الألماني سابقاً) في نهاية القرن التاسع عشر. يتّضح من عدة مقولات: "الدول ليس لديها أصدقاء دائمون، ولا أعداء دائمون، فقط المصالح الدائمة" (اللورد بالمرستون)، وهو ما يترجمه شعار الجمهورية الفرنسية منذ ديغول أيضاً: "فرنسا لا تعترف بالحكومات، بل الدول فقط". هذه المدرسة الواقعية لها أتباع مشهورون في العالم المعاصر، الأميركي هنري كيسنجر هو الأكثر شهرة. في فرنسا، يبدو أن وزير الخارجية السابق هوبير فيدرين مرتبط أيضاً بهذا التيار الفكري.
في العمق، "السياسة الواقعية" لمَ لا؟ لم تكن فرنسا دائماً متيقظة جداً في علاقاتها السابقة بدول الشرق الأوسط أو أفريقيا أو أوروبا الشرقية أو آسيا. إلى حد كبير ضمِن ذلك دورها الدولي واستقلالها (النسبي) في مجال الطاقة.
لكن هذا كان من قبل، في أيام ديغول وبومبيدو وجيسكار ديستان، وميتران بدرجة أقل. كان من المفترض أن الدولة، الوحش البارد، ليس لديها أي مخاوف. قبل ظهور "حق التدخل" الذي دفع الدبلوماسية الفرنسية إلى المشاركة أو حتى القيام بتدخلات عسكرية باسم الدفاع عن حقوق الإنسان، احتج مركزها بانتظام باعتبارها "وطن حقوق الإنسان". ونسب بعض الخبراء هذه التصريحات الأخلاقية بالإشارة إلى أن فرنسا كانت قبل كل شيء وطن "إعلان حقوق الإنسان"، وهو ليس الشيء نفسه تماماً. من الواضح أن آخرين أدركوا ذلك أيضاً واستجوبوا باريس بانتظام بشأن ميلها إلى "إعطاء البعض دروساً" (إيران وفنزويلا وبورما ودول أفريقية مختلفة وغيرها) بينما تنظر بعيداً عندما يتعلق الأمر بالدول التي تزود الهيدروكربونات أو عملاء صناعات الأسلحة الخاصة بها (الإمارات العربية المتحدة وقطر والمملكة العربية السعودية ومصر والهند وغيرها) وأحياناً كلاهما، كما هو الحال في المملكة العربية السعودية.
تغذي هذه الفجوة الكبيرة الاتهام بممارسة سياسة "الكيل بمكيالين". ولتجنب هذا اللوم، ليس هناك سوى بديل واحد: بناء الدبلوماسية على حقوق الإنسان، وقبول العواقب السلبية، ولا سيما على الصعيد الاقتصادي، أو التخلي عنها وممارسة الواقعية (أو السخرية، تبعاً لوجهة النظر المعتمدة) ثم استرداد ما يضيع في الوضع الأخلاقي بكفاية. كلا الرأيين يمكن الدفاع عنه بالقدر نفسه، ولكن على نحو منفصل. في هذا المجال، استخدام المسارين"في الوقت نفسه" لا ينتج سوى عيوب.
واختيار نهج واقعي لن يخفق في إثارة عدد من الانتقادات (فضلاً عن ذلك، له ما يبرره عموماً). لكن هذا من شأنه أن يضع حداً للممارسات القائمة على أسس مثالية متغيرة التي تسمح لوزير الخارجية بمنح براءات اختراع الديمقراطية للسيسي المصري "لأن هناك انتخابات". ومع ذلك، فإن أي مراقب لتراجع النفوذ الفرنسي، في أفريقيا وأماكن أخرى، لا يفوته أن يلاحظ أن هذا "النفاق" الذي يوجه إلى الغرب عموماً والفرنسيين خصوصاً هو في صميم المشاعر المعادية للفرنسية التي تطوّرت في السنوات الأخيرة، لمصلحة الصينيين وأخيراً الروس.
إن اتباع سياسة واقعية هو خيار مشروع ومحترم. لكن في هذه الحال، يجب ممارسة "السياسة الواقعية" بصورة أشمل، وليس في وقت استثنائي. ليس كل شخص يدعي أنّه "مترنيخ" (مستشار الإمبراطورية النمساوية سابقاً) يمكنه فعل ذلك.
نقلته إلى العربية: بيان خنافر