تقرير: مجزرة مستشفى غزة وتسويق الأكاذيب الإسرائيلية
لا يملك الفلسطينيون في ترسانتهم رؤوساً متفجّرة محلية الصنع، مماثلة لتلك التي رأيناها في مستشفى المعمداني، و"إسرائيل" هي الطرف الوحيد الذي يملك هذا النوع من العبوات الناسفة. القوية ووسائل إطلاقها.
أدَّى انفجار هائل إلى مقتل أكثر من 500 مدنيّ في السَّاحة "الآمنة" لمستشفى الأهلي المعمداني. وفي غضون ساعات قليلة، خلص الجيش الإسرائيليّ إلى أنه صاروخ فلسطيني تم إطلاقه بصورة خاطئة. وبالسرعة ذاتها، تبنى الرّئيس الأميركي جو بايدن، فور وصوله إلى تلّ أبيب، الرّواية الإسرائيليَّة الَّتي تحمّل "الطرف الآخر" المسؤولية عن المذبحة.
كان استهداف "إسرائيل" المتعمّد للأفراد أو المدنيّين، الَّذين يبحثون عن ملجأ أكثر أمانّاً، جزءاً من استراتيجيَّة "دولة" الاحتلال الإسرائيليّ منذ عام 1948. ومن المهمّ وضع مذبحة مستشفى المعمداني، ضمن السّياق العميق للسياسات الإسرائيليَّة.
ما يلي قائمة جزّئية فقط من الحوادث الَّتي أنكرت فيها "إسرائيل" مسؤوليتها لأوَّل مرَّة، قبل أن يشير تحقيق مستقلّ إلى ارتكابها قتل مدنيين، بينما تمكَّنت من التَّهرب من المساءلة، بتواطؤ كامل من القوى الغربيَّة ومنظَّماتها النخبويَّة والإعلاميَّة.
في أعقاب القتل المأسَوي للصحافية الفلسطينيَّة الأميركيَّة شيرين أبو عاقلة، في عام 2022، أصدر رئيس الوزراء الإسرائيليّ آنذاك، نفتالي بينيت، تغريدة نسب فيها المسؤوليَّة عن الجريمة إلى المقاتلين الفلسطينيين. وأيدَّ تأكيداته من خلال مقطع فيديو نشره الجيش الإسرائيليّ، يدَّعي فيه أنَّ مسلحين أطلقوا النَّار في المنطقة المجاورة التي فقدت فيها أبو عاقلة حياتها. وسرعان ما قامت وسائل الإعلام الغربيَّة بتسويق الكذبة الإسرائيليَّة من خلال إعطائها مساحة أكبر من الرواية الفلسطينيَّة. استغرق الأمر أسابيع، طغت عليها الأدلَّة المخالفة، قبل أن تبدأ وسائل الإعلام الغربيَّة الرئيسة أخيرًا تحقيقاً شاملاً في مقتل زميلة صحافيّة.
وبعد ستة أشهر، في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2022، اعترف وزير الحرب الإسرائيليّ، بيني غانتس، بالمسؤولية الإسرائيلية، ووصف مقتل أبو عاقلة بالخطأ الفادح. كما أبلغ الإدارة الأميركية أنَّ "إسرائيل" لن تتعاون مع أي تحقيق خارجي، أي "مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي"، الَّذي أطلق تحقيقاً في وفاة الصحافيّة الأميركية. ولم يتَّصل بايدن، ولم يلتق أسرة الشهيد شيرين أبو عاقلة، لكنَّه سافر مسافة 6000 ميل للقاء الأميركيين الذين اختاروا جنسيَّة دولة أخرى، في "تلّ أبيب".
إن إحجام إدارة بايدن عن السَّعي لتحقيق العدالة في وفاة شخص يحمل الجنسيَّة الأميركية،" يعكس عدم كفاءة القادة الأميركيين في التَّعامل بعدالة تحت القانون، لا أن تخضع لهيمنة لأقوى جماعة ضغط صهيونية في الولايات المتحدة. وربما يفسَّر هذا مصدر وقاحة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يتفاخر بأن "أميركا شيء يمكنك تحريكه بسهولة شديدة".
بالفعل، أفلتت "إسرائيل" في السابق من جريمة قتل جنود أميركيين، حين هاجمت مقاتلاتها الجويَّة، في 8 حزيران/يونيو 1967، البارجة الحربية "يو أسّ أسّ ليبرتي"، الأمر الذي أسفر عن مقتل 34 بحاراً، وإصابة 171 من أفراد الطاقم.
أميركيون آخرون فقدوا حياتهم ولم يتلقَّوا أي اهتمام من البيت الأبيض. اغتيل ألكسندر ميشيل عودة، في عام 1985، في مكتبه على يد إرهابي من "رابطة الدفاع اليهوديَّة". وهرب قاتله إلى بلد جنسيته الجديدة الإسرائيليَّة، وظلّ أعواماً متعدّدة، مختبئاً في مستعمرة يهوديَّة في الضفَّة الغربيَّة المحتلَّة.
شهيدة أميركية أخرى تعرضت لقلة المساواة، هي راشيل ألين كوري، التي سُحقت تحت جرّافة إسرائيليَّة، أميركية الصّنع، في شهرآذار/مارس من عام 2003.
تنبع غطرسة نتنياهو من ثقته بأنَّ القادة السياسيّين الأميركيين "المخصيين"، في لجنة الشُّؤون العامة الإسرائيليَّة، "آيباك"، سوف يصطفون للخضوع لـ"إسرائيل"، والتَّضحية بالمواطنين الأميركيين من أجل "إسرائيل".
ومن الأمثلة الأخرى على استهداف المدنيّين (مجزرة قانا في نيسان/أبريل 1996)، خلال العدوان الإسرائيليّ على لبنان. ومن أجل تجنب وقوع أي حادث، زودت الأمم المتَّحدة "إسرائيل" بإحداثيات قاعدتها، الَّتي لجأ إليها المدنيُّون. وربَّما استخدم الجيش الإسرائيليّ الإحداثيات نفسها من أجل استهدافها بالمقذوفات الثَّقيلة، الأمر الذي أسفر عن مقتل 106 أشخاص، معظمهم من النّساء والأطفال، وجرح العشرات.
ومرَّة أخرى في عام 2009، أمطرت "إسرائيل "قنابل فسفورية على المدنيّين في غزَّة، والَّذين لجأوا إلى مدرسة الفاخورة التَّابعة للأمم المتحدة "الأونروا". وخلّف الدخان الأبيض، الذي خلّفته القنابل آثاراً من الدّماء وحمض الفوسفور، الأمر الذي أدَّى إلى إحراق جثث أكثر من 40 قتيلاً و50 جريحاً من الأطفال والنّساء
وكما حدث في مستشفى الأهلي المعمداني، وفي أعقاب هذه المآسي، استخدمت الهسبارة الإسرائيليَّة، بمساعدة وسائل الإعلام الغربيَّة، أساليب التشويش والتعتيم، الأمر الذي أدى إلى أسابيع من الجدل بشأن الحقائق "البديلة". وهي استراتيجيَّة تهدف إلى تخفيف الغضب الدوليّ، وإزالة هذه الحوادث في نهاية المطاف من دائرة الضَّوء الإخباريَّة. ومع ذلك، فإن التَّحقيقات المستقلَّة حمّلت "إسرائيل" المسؤولية باستمرار، ودحضت رواياتها الكاذبة. في كل هذه الحالات، كما هي الحال في مذبحة مستشفى المعمداني، أعطت وسائل الإعلام والحكومات الغربيَّة مزيداً من الحريَّة لتأكيد "إسرائيل" الكاذب والأوَّلي، في حين خنقت الأدلَّة الَّتي قدَّمها الجانب الفلسطينيّ.
الآن، ما الدليل الذي لدينا عن مسؤولية "إسرائيل" عن مجزرة مستشفى المعمداني؟
عموماً، إذا نظرنا إلى جميع الصواريخ التي تمَّ إطلاقها على "إسرائيل"، من الجانب الفلسطينيّ، فسنجد أن أياً منها لم يتسبَّب بانفجار بقوَّة الانفجار الذي وقع في المستشفى. بعبارة أخرى، لا يملك الفلسطينيون في ترسانتهم رؤوساً متفجّرة محلية الصنع، مماثلة لتلك التي رأيناها في المستشفى. و"إسرائيل" هي الطرف الوحيد الذي يملك هذا النوع من العبوات الناسفة القوية، ووسائل إطلاقها.
علاوة على ذلك، هناك دليلان مقنعان يكذّبان الفيديو الإسرائيليّ المدبَّر، والذي تمَّ تقديمه إلى بايدن. أولاً، كان اتجاه الصَّوت المسجَّل للقذيفة قبل الانفجار مباشرة من الشَّرق إلى الغرب، في حين أن الصواريخ الفلسطينية تتجه عادة شرقاً أو شمالاً، فلا تتَّجه أبداً في اتجاه الغرب، إلا إذا كانت موجَّهة نحو البحر المفتوح. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أنَّ المقذوف انفجر قبل الاصطدام، بهدف التسبُّب في أكبر قدر من الخسائر البشرية. والطَّرف الوحيد الذي يمتلك هذه التكنولوجيا بالذَّات، بفضل القنابل الأميركية الصُّنع، هو "إسرائيل". وفي المقابل، فإن الصواريخ البدائيَّة التي يطلقها الفلسطينيون تنفجر فقط عند تأثير قوي ومباشر، تاركة وراءها شظايا كبيرة، وجزءاً كبيراً من الصَّاروخ سليماً. ولم يتمَّ الكشف عن أي من هذه الخصائص والمواد في محيط المستشفى.
علاوة على ذلك، تلقى المستشفى صاروخين "تحذيريين" إسرائيليين صغيرين في الأيَّام التي سبقت الانفجار. وأكد رئيس الأساقفة الأنغليكاني، حسام نعوم، الذي يشرف على المستشفى، أنَّ الجيش الإسرائيلي اتَّصل بمديري المستشفى عدَّة مرَّات، منذ يوم 14 الشهر الجاري، وأبلغوهما ضرورة إخلاء المنشأة الصحية.
في هذه الأثناء، بعد الانفجار مباشرة، أعلن المساعد الرقمي لرئيس الوزراء الإسرائيليّ، حنينا نفتالي، في حسابه في وسائل التَّواصل الاجتماعيّ أن “سلاح الجو الإسرائيليّ ضرب قاعدة لحركة حماس داخل مستشفى في غزَّة.
بالنَّظر إلى هذه الظُّروف، يُصبح من غير المحتمل، إلى حدّ كبير، أن يسقط صاروخ فلسطيني محلي الصُّنع، برأس حربيّ شديد الانفجار، لا يملكونه أصلاً، على حشد من الناس على المستشفى، الذي أمر الجيش الإسرائيليّ بإخلائه.
في سياق هذه الأحداث، من الضَّروري إدراك العنصر التاريخي للخداع المرتبط بالصهيونية، كما أبرزه ضابط الموساد السابق، فيكتور أوستروفسكي، في كتابه “عن طريق الخداع”. لقد اكتسب القادة الغربيون خبرة في التَّعامل مع الخداع الإسرائيليّ، الذي تجسده شخصيات مثل نتنياهو. ومن الأمثلة البارزة على ذلك، تصريح الرئيس الفرنسي (السابق) نيكولا ساركوزي الصَّريح، عبر الميكروفون المفتوح غير المقصود للرَّئيس الأميركي باراك أوباما، "لا أستطيع تحمل نتنياهو، إنَّه كاذب"، أو عندما وصفته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ساخرةً، بأنَّه يكذب في حضورها، وفي غيابها.
وفي الآونة الأخيرة، حتَّى الرَّئيس الأميركي جو بايدن أصبح رسولاً للكذب، عندما ادَّعى أنَّه رأى صوراً لأطفال إسرائيليين مقطوعي الرّؤوس، كما روى له نتنياهو. وضاعف الرَّئيس الأميركيّ أكاذيبه عندما قبل النُّسخة الإسرائيليَّة من الخداع، الَّتي تلوم الفلسطينيّين على الانفجار الَّذي وقع في مستشفى غزَّة.
وعُرض على الرَّئيس بايدن شريط فيديو تمّ تلفيقه من جانب الاستخبارت الإسرائيليَّة، وأشار من عنده إلى معلومات استخبارية أميركية، لا أساس لها من الصحَّة، مفادها أن “الجانب الآخر هو المسؤول” عن انفجار المستشفى. ولا يمكن أن يكون الفيديو، الذي شاهده الَّرئيس، متبايناً عن ذلك الَّذي استُخدم في البداية لإنكار المسؤوليَّة عن مقتل الصَّحافية الفلسطينيَّة الأميركيَّة شيرين أبو عاقلة.
على الرَّغم من تاريخ الخداع الإسرائيليّ والأكاذيب الصَّريحة، فإن وسائل الإعلام والقادة الغربيَّين يواصلون التَّشكيك في صحَّة الرَّوايات، من خلال شهود عيان على الأرض، في حين يتوقون إلى تبني الرّواية الإسرائيليَّة الكاذبة للأحداث. إنَّ القبول غير المشروط لروايات منافق، مثل نتنياهو، يفضح التحيُّز التَّأكيدي الغربيّ، ويؤكّد العنصريَّة الميالة تجاه الثَّقافات غير الغربيَّة. يتمّ تعريف التَّحيز التَّأكيدي من خلال ميل الفرد إلى قبول ما يدعم وجهة نظره المسبّقة فقط.
تُعَدّ الحكومات ووسائل الإعلام الغربيّة أمثلة رئيسة على التحيُّز العلني، بحيث يكونون على استعداد لتبني الأكاذيب، الَّتي تدعّم عنصريتهم المسبّقة تجاه الثَّقافات غير الغربيَّة، وبالتالي يعفون أنفسهم من خطايا قتل الأطفال في غزَّة.
إنَّ القصف العشوائي والمتواصل للأحياء المدنيَّة في غزَّة واسع النّطاق إلى درجة أنه لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالميَّة الثَّانية. أسقطت حكومة الاحتلال من المتفجرات ما يعادل قنبلة نووية، على المنطقة الأكثر اكتظاظاً بالسكَّان في العالم، وبحيث يتمّ إجراء عمليَّات جراحية للمدنيين المصابين في أروقة المستشفى تحت كشافات الهاتف. ولشدَّة قلق الرَّئيس الأميركي بايدن من نفاد المخزون الإسرائيليّ، طلب إلى الكونغرس الأمريكيّ تخصيص 14.3 مليار دولار إضافيَّة من أموال دافعي الضرائب لتعويضه بقنابل أميركية جديدة، مثل تلك الَّتي سقطت على مستشفى الأهليّ المعمداني.
على ما يبدو، ليس وزير الحرب الإسرائيليّ وحده الَّذي يعتقد أنَّ الفلسطينيين "حيوانات". وتتجلَّى تصرُّفات الزُّعماء الغربيين على نحو مماثل في إرسال قنابلهم ودعمهم الدبلوماسي لتمكين "إسرائيل" من قطع المياه والغذاء والوقود عن 2.3 مليون إنسان، وارتكاب كبرى جرائم التاريخ الحديث.