الدولاب في حلب يدور على أصحابه

تشير الساحة في حلب على تغيير استراتيجي آخر في فهم طبيعية القتال في سوريا. فإذا كانت "دعيت" القوى العظمى للتدخل كي تساعد منظمات الثوار والنظام السوري ميليشياتها "الخاصة بها"، يبدو الآن أن الترتيب انقلب وأصبحت بنفسها متعلقة بالانتصارات – أو الخسائر – للميليشيات "خاصتها" على الأرض.

تشير الساحة في حلب على تغيير استراتيجي آخر في فهم طبيعية القتال في سوريا
في غضون عشر دقائق خرب أمس أحد الاسواق الرئيسة في مدينة ادلب في سوريا. سلسلة من أعمال القصف التي قام بها سلاح جو الرئيس بشار الأسد في هذه الفترة الزمنية القصيرة خلفت 20 قتيلاً على الأقل وعشرات الجرحى الاخرين، دكاكين احترقت ومساكن هدمت.
لم يكن هذا قصفاً استراتيجياً هدفه فتح محور أو توجيه ضربة شديدة لقوات الثوار التي تسيطر في أجزاء واسعة من المدينة ومحيطها، يبدو أنه جاء أساساً ليشوّش الانعطافة الاستراتيجية التي وقعت في اليومين الأخيرين في مدينة حلب، والتي حوّلت القوات السورية فيها من قوة هجومية تحاصر المدينة الى قوة توجد تحت حصار الميليشيات. 
قوة جيش الفتح، التي تجمع مجموعة من الميليشيات مع قوة كبيرة من جبهة فتح الشام (الإسم الجديد لجبهة النصرة)، نجحت ليس فقط في فتح عدة محاورة مركزية في طريق الطوق الذي يحيط بحلب – بل سيطرت أيضاً على عدة قواعد هامة في جنوب غرب المدينة، وكليتين عسكريتين تمركزت فيهما قوات سورية كبيرة.
 وكنتيجة لذلك، فان القوة السورية التي كانت في هاتين القاعدتين انسحبت وقوة سورية أخرى توجد في مركز المدينة، تعيش الأن في حصار ودون اتصال بقسم من القوات في الخطوط الخلفية. 
واذا كان يخيّل في الاسبوع الماضي بأن المعركة على حلب توشك على الحسم العسكري في صالح الجيش السوري وشركائه اللإيرانيين، الروس وقوات حزب الله، والتي تعززت ببضع مئات اخرى من المقاتلين، فقد تغيّر وجه الساحة هذا الأسبوع. ومع ذلك، لا يزال من السابق لأوانه القول اذا كان ممكنا تحقيق حسم عسكري لأحد الطرفين.

 لقد كان الانتصار السوري في حلب ولا يزال حيوياً ليس فقط من ناحية معنوية، بل وأيضاً ليشكل رافعة لاستئناف المفاوضات السياسية. فقد أملت سوريا وروسيا بان يمنحهما الانتصار موقف قوة لإملاء شروطهما.
 أما الآن فيبدو ان المدينة، التي يحاصر فيها نحو 300 الف مواطن، ستبقى ساحة استنزاف مستمرة، حتى لو صعدّت روسيا هجماتها. إذّ أنّ المدينة، الثانية في حجمها في سوريا، لا يمكن للقتال من الجو أن يحسم فيها الخطوات العسكرية، ولا سيما عندما تكون قوات الثوار تتواجد في قلب الاحياء السكنية.
 يبدو أن التدخل العسكري لروسيا في حلب – التي اعلنت في شهر اذار/مارس  عن سحب قواتها  "لأن كل الاهداف تحققت" – أخذ في التعاظم فقط. ويشكل التدخل لبوتين تحدّيا مركباً. فروسيا تدير عمليا الاستراتيجية السورية، وبعد أن دحرت ايران عن موقع الحسم في الخطوات العسكرية، فان روسيا ملزمة بان تحقق الانتصارات على الارض، والتي يمكنها أن تقيم عليها تنفيذ خطتها السياسية لمستقبل سوريا.  
ومثل هذه الانجازات حيوية على نحو خاص بعد أن حطمت روسيا الاتفاقات السابقة التي كانت لها مع الولايات المتحدة، بدء باتفاق وقف النار الذي وقع في شباط/ فبراير وانهار في غضون وقت قصير، وحتى التوافقات في شهر تموز/ يونيو والتي بموجبها تمتنع روسيا عن الهجوم على قواعد الثوار وتركز على مهاجمة داعش وجبهة فتح الشام.

يبدو الآن أنه دون إعلان رسمي، تترك الولايات المتحدة لروسيا الغرق في الوحل السوري وتكتفي بممارسة الضغوط للسماح بمعبر للمساعدات الانسانية للمحاصرين في حلب وفي مدن اخرى. 
مشكوك ان تكون واشنطن قلقة أيضا من استئناف العلاقات بين تركيا وروسيا ولقاء القمة الذي عقد هذا الأسبوع بين فلاديمير بوتين ورجب طيب اردوغان، والذي ولد هيئة تنسيق عسكري، استخباري وسياسي. 

لا تزال بين روسيا وتركيا فجوة كبيرة في المواقف من الاسد وبالنسبة للحل المرغوب فيه في سوريا، ناهيك عن ان روسيا تواصل مساعدة الاكراد السوريين، الذي تعتبرهم تركيا منظمة ارهاب. فضلا عن ذلك، فان تركيا هي عضو في الناتو وهذا الاطار أهم لها من كل حلف عسكري مع روسيا، التي حتى في أفضل الازمنة تعتبر "دولة مشبوهة" في تركيا.

في ساحة القتال السورية أيضاً توجد خلافات بين الدولتين. فقد طلب تركيا من روسيا الا تهاجم قواعد الثوار بمن فيهم جبهة فتح الشام بدعوى ان قوات هذه الميليشيا تلتصق جغرافيا بقواعد قوات الثوار "الشرعيين". اما روسيا بالمقابل فتستغل هذا القرب كي تقصف قواعد الثوار بحجة انها تهاجم "حسب المتفق عليه" قواعد منظمات الارهاب.

تشير الساحة في حلب على تغيير استراتيجي آخر في فهم طبيعية القتال في سوريا. فاذا كانت في بداية الطريق "دعيت" القوى العظمى للتدخل كي تساعد منظمات الثوار والنظام السوري، لدرجة انه كان لكل قوة عظمى غربية ولجزء من الدول العربية ميليشيات "خاصة بها"، مجموعات من المقاتلين السوريين الممولة من هذه الدول، والتي قاتلت كفروع لاصحاب المصالح الخارجية، يبدو الان ان الترتيب انقلب. روسيا، الولايات المتحدة، ايران، تركيا والسعودية، اصبحت بنفسها متعلقة بالانتصارات – أو الخسائر – للميليشيات "خاصتها" على الأرض. 

ويتسبب هذا التعلّق في أن تكون هذه الدول غير قادرة على الكف عن مساعدة الميليشيات بسبب المنافسة فيما بينها، ولكن في نفس الوقت تجد صعوبة في أن تملي عليها طرق عمل عسكرية، او السيطرة على فكرها السياسي بالنسبة لمستقبل سوريا. هذا ليس السيناريو الذي تصورته لنفسها القوى العظمى قبل نحو سنة فقط، عندما بدأت روسيا بتدخلها العسكري النشط في الدولة.