إسرائيل.. ثروة إستراتيجية
على الرغم من مرور ما لا يقل عن 55 عاماً بين بداية عصر أيزنهاور وبين دخول باراك أوباما للبيت الأبيض، وعلى الرغم أيضاً من أن إسرائيل قد تحولت خلال هذه السنين من عبء إستراتيجي إلى ثروة أمنية بارزة بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، فإن "كل حاشية الرئيس" الحالي لم تستخلص العبر المطلوبة من المحاولات الفاشلة التي قام بها أسلافها لترسيخ سياستهم تجاه إسرائيل من خلال ربطها بالمشهد (الإقليمي) الأوسع.
-
الكاتب: ابراهام بن تسفي
- 20 تشرين ثاني 2016 11:59
بعد ساعات على فوزه دونالد ترامب يتصل هاتفياً برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو
في شهر
أيار/ مايو 1948، بعد أن أصبحت إسرائيل دولة ذات سيادة، بدأ ظل الحرب الباردة
الكئيب بالسيطرة على الساحة شرق الأوسطية. وفي ضوء النية المعلنة لبريطانيا
بالانسحاب التدريجي من معظم ممتلكاتها ومعاقلها في المنطقة، بدأ يتضح لواضعي
السياسة الأميركية أن مهمة احتواء الاتحاد السوفييتي في المنطقة برمتها ستقع من
الآن فصاعداً على كاهلهم.
هذا الإدراك
زاد، في نظرهم، من الحاجة إلى البحث عن حلفاء في العالم العربي. وكان أحد التعابير
البارزة عن ذلك هو الجهد لإقامة معاهدة الدفاع العربي المشترك. وقد كان من شأن تأسيس
الحلف أن يجعل من مصر والعراق حلقتين رئيسيتين في النسيج الشامل الذي يهدف إلى
إحباط محاولات التمدد من قبل موسكو، إلى جانب الدفاع عن المواقع والقواعد الأميركية،
وهو الأمر الذي أدى إلى ظهور أجندة سياسية (أميركية) باردة ومتحفظة حيال إسرائيل.
وعليه،
ووفقاً لصانعي القرار الأميركيين، وبخاصة بعد دخول دوايت أيزنهاور إلى البيت
الأبيض، نشأت صلة مباشرة بين تحقيق المصالح الإستراتيجية والحيوية للغرب في
المنطقة برمتها، وبين ما يجب القيام به على صعيد العلاقة الأميركية – الإسرائيلية.
وكان العزل والإبقاء على مسافة مع إسرائيل والتحفظ منها هي الوسائل المقدَّمة
لتوفير الحافز المطلوب لزعماء العالم العربي، وفي مقدمتهم الرئيس المصري جمال عبد
الناصر، من أجل أن يوافق على الانضمام إلى عملية الاحتواء المخطط لها.
وكان يكمن
في هذا الأمر أيضاً الدليل، الكاذب، على استعداد الدولة العظمى الأميركية للعب دور
"الوسيط النزيه"، والذي لا يتردد عن استخدام كافة عوامل الضغط الثقيلة
على إسرائيل في مجموعة واسعة من القضايا والسياقات، بما في ذلك الجانب الإقليمي.
والإيمان
بوجود علاقة وثيقة بين ما هو متعدد الأطراف وبين ما هو ثنائي، الذي جعل العلاقات
بين واشنطن وبين القدس رهينة في أيدي قوى إقليمية مضطربة، لم يغرق تماماً في غياهب
النسيان حتى بعد أن انهار مشروع إقامة "حلف بغداد"، بشكل كامل، وبعد أن
أدارت بلاد النيل ظهرها للغرب.
وبالفعل،
وحتى بعد أن اتضح فشل محاولة تحويل عبد الناصر الثوري إلى دعامة رئيسية في جدار الحماية
الذي أرادت الإدارة (الأميركية) بناؤه، ووضعه بذلك على السكة الموالية للغرب على
حساب إسرائيل، لم يتم التخلي عن مبدأ الصلة الوثيقة بين الأهداف والمصالح
الإقليمية وبين مجمل علاقات الولايات المتحدة الأميركية مع إسرائيل.
لقد واصل
هذا المبدأ توجيه تفكير زعماء الأمة الأميركية. فعلى سيبل المثال، وعلى الرغم من
مرور ما لا يقل عن 55 عاماً بين بداية عصر أيزنهاور وبين دخول باراك أوباما للبيت
الأبيض، وعلى الرغم أيضاً من أن إسرائيل قد تحولت خلال هذه السنين من عبء إستراتيجي
إلى ثروة أمنية بارزة بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، فإن "كل حاشية
الرئيس" الحالي لم تستخلص العبر المطلوبة من المحاولات الفاشلة التي قام بها أسلافها
لترسيخ سياستهم تجاه إسرائيل من خلال ربطها بالمشهد (الإقليمي) الأوسع.
وقد حصل
هذا من خلال التمسك بإيمانهم المبدئي القائل بأن تحسين مكانة الولايات المتحدة
الأميركية في المنطقة العربية سيتم من خلال تحقيق اختراق على الصعيد الإسرائيلي -
الفلسطيني. وبالفعل، وعلى الرغم من أن سياسة "اليد الصلبة" التي استخدمتها
إدارة الرئيس أيزنهاور حيال إسرائيل لم تُقنع مصر بالانضمام إلى منظومة الاحتواء
والردع التي حاولت إقامتها فقد عاد الرئيس الـ 44 وكرر تبنى هذا المنطق.
الفجوة التي لا تزال قائمة
البيت الأبيض وسياسة الأسلاف التي لم تتغير
عندما دخل
إلى البيت الأبيض كان أوباما يتطلع إلى استقرار الساحة الإقليمية عن طرق إقامة
تحالف عربي واسع ومعتدل يشكل عائقاً لا يمكن اختراقه من قبل القوى المتطرفة، وهذا
ما دفعه، مباشرة، إلى داخل العقدة الإسرائيلية – الفلسطينية. ذلك أنه، حسب الرئيس،
مجرد إزالة هذه العقبة من جدول أعمال العالم العربي سيمكن اللاعبين الرئيسيين، مثل
مصر والسعودية، من زيادة حجم تعاونها السياسي والأمني مع الولايات المتحدة إلى
درجة كبيرة بدون أن يتم تعريض استقراهم الداخلي للخطر.
وبذلك عادت
نظرة الصلة الوثيقة والجارفة القائمة بين مجمل الشرق الأوسط الواسع وبين الجبهة
الفلسطينية، بشكل مباشر، إلى قلب الدبلوماسية الأميركية. حيث كان البيت الأبيض يرى
أن القضية الفلسطينية هي المصدر الأساسي للحقد العربي المتواصل تجاه الولايات
المتحدة وذلك بسبب دعمها لإسرائيل.
هذه
التراكمات والرواسب العميقة من الحقد والإحباط، التي تراكمت في الحيّز الفلسطيني،
هي التي أحبطت، في نظر أوباما، الجهود السابقة لتحسين العلاقات الإستراتيجية
للولايات المتحدة الأميركية مع العالم العربي، وكان الرئيس مصراً على إزالتها.
"إذا ما نجحت فقط في تسوية القضية الفلسطينية" قال مراراً وتكراراً
"فإنه سيكون عندها من الأسهل على الدول العربية تقديم دعمها لنا".
لقد كان
الربيع العربي هو الذي هزّ أسس الاستقرار الإقليمي، وكشف إلى أية درجة كان التفكير
الأميركي بعيداً عن الواقع الحقيقي للشرق الأوسط وعن القوى الفاعلة فيه. وبذلك
أيضاً اُسدل الستار على مقولة الصلة المطلقة القائمة بين الإقليمي والمحلي وبين
الشامل والموضعي، التي وجهت حتى ذلك الوقت طريقة تفكير وعمل الدبلوماسية الأميركية
على هذه الساحة. وعلى خلفية هذه الأمور يمكن أن نرى انتخاب دونالد ترامب الرئيس
الـ 45 للولايات المتحدة الأميركية على أنه مسمار آخر في نعش هذه العقيدة.
وبما أن الخطوط
الرئيسية الناظمة للسياسة الإقليمية لازالت في طور الصياغة فمن الواضح في هذه
المرحلة أن هدف إقامة تحالفات دفاعية جديدة، والمرتبطة بتعاظم كبير في الأعباء والالتزامات
والضمانات الأميركية، بعيد لسنوات ضوئية عن مزاج الرئيس المنتخب.
وليس فقط
أنه لا يوجد في نيته العمل لإقامة شراكات أخرى بإيحاء أو برعاية أو بدعم مالي من واشنطن،
بل حتى أنه قد وضع من خلال تصريحاته عشية الانتخابات هوامش واسعة من عدم اليقين
حيال الطابع والإطار وطرق التمويل للشراكات الإستراتيجية القائمة بما في ذلك حلف
شمال الأطلسي.
وبما أن
أسلوب ترامب في ما يتعلق بالبيئة الدولية هو تجاري في أساسه فإنه يمكن الافتراض أن
موقفه المستقبلي تجاه حلفائه، أو خصومه، سيكون موضعياً وليس شاملاً. وبدلاً من
القيام بربط الولايات المتحدة بمجموعة أخرى وباهظة من الترتيبات الأمنية الإقليمية،
والتي ستكون مرتبطة بمزيد من التدخل الأميركي في بؤر الأزمات، فإن ترامب سيفضل
التركيز على الاحتفاظ بتعميق منظومة العلاقات القائمة مع الشركاء.
هذا يحدث
بالاستناد إلى أن الاعتبارات الضيقة للكلفة والمردود هي التي ستحكم سياسته وليست
الاعتبارات المرتبطة بميزان القوى الإقليمي. وعليه، وباعتماد هذه الرؤيا، يجب
التقدير بأن العلاقات الخاصة ستظهر بالنسبة له على أنها استثمار فعال وناجح جداً.
كما ويحدث هذا
على أساس الحقيقة بأن إسرائيل تشكل ثروة إستراتيجية، وجزيرة للاستقرار في قلب بيئة
تعج بالتهديدات، حيث بوسعها أن تقدم للولايات المتحدة شبكة أمان حيوية في عصر بات
قريباً يتراجع فيه استعدادها للعب دور شرطي العالم.
وهنا ليس
بالوسع، إلا الانتظار لنرى ما إذا كانت شخصيات بارزة في الطاقم السياسي والأمني،
الآخذ بالتبلور، والخاص بالرئيس الجديد، من نمط رودي جولياني ومايكل فلين اللذين
لهما مواقف متعاطفة جداً مع إسرائيل، لنرى إذا ما سيكون لمثل هذه الشخصيات بالفعل تأثير
على النظرة إلى إسرائيل باعتبارها ثروة إستراتيجية.
ترجمة: مرعي حطيني