التوترات بين واشنطن وأنقرة تطيح بالليرة التركية

الانحدار الأكثر حدة في الليرة منذ إعادة انتخاب أردوغان، تغذيها الآن مخاوف من أنه معزول أكثر من أي وقت مضى ولا يأخذ أي نصيحة اقتصادية من أحد.

تفرد أردوغان بقرارات الدولة السياسية والاقتصادية أضعف العملة الوطنية

نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية تقريراً مطولاً لمراسليها كارلوت غال وجاك إيونغ عن تفاقم حدة الخلافات بين الولايات المتحدة وتركيا. والآتي ترجمة نص التقرير:

اسطنبول - تفاقمت حدة الخلافات بين الولايات المتحدة وتركيا من خلال الاقتصاد العالمي يوم الجمعة مما ساهم في تسريع هروب الأموال من الأسواق الناشئة وزرع عدم الاستقرار في أنحاء الشرق الأوسط حيث اقتربت العلاقات بين الحلفاء داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) من نقطة الانهيار.

اندلعت الأزمة الحالية - التي تسارعت من خلال تغريدة عدائية من الرئيس الأميركي دونالد ترامب - بسبب استمرار احتجاز القس الأميركي أندرو برونسون، الذي تم سجنه قبل 21 شهراً في حملة قمع واسعة النطاق بعد فشل الانقلاب في تركيا.

 لكن الأثر الكبير عكس المخاوف المتفاقمة بشأن الإدارة الاقتصادية لتركيا من قبل الرئيس رجب طيب أردوغان ، الذي أعيد انتخابه في حزيران - يونيو الماضي مع سلطات شبه استبدادية. كما أنها زادت من خطر أن المشاكل في تركيا، التي تقع على الحدود مع إيران والعراق وسوريا، قد تزعزع استقرار الاقتصادات إلى ما وراء المنطقة.

إن اقتصاد تركيا هو السابع عشر في العالم، لكن مشاكله تزداد سوءاً، حيث أن حرب التجارة التي يشنها ترامب تزعج التجارة العالمية، وتدمر التحالفات الطويلة الأمد وتهدد النمو الاقتصادي في جميع أنحاء العالم.

وهناك كذلك مخاوف واسعة النطاق بين المستثمرين الأجانب من أن الحكومة الاستبدادية والشعبية للسيد أردوغان تنتهج سياسات اقتصادية غير مسؤولة بينما تقوض استقلال البنك المركزي. وعليه، يخشى المحللون، أن يمنع ذلك البلد من اتخاذ الخطوات الضرورية لوضع الاقتصاد على أساس أكثر استقراراً.

انخفضت العملة التركية، الليرة، التي تم تداولها بسعر 4.7 لكل دولار قبل شهر، إلى 6.4 مقابل الدولار يوم الجمعة - وهي المرة الأولى على الإطلاق التي تحتاج فيها إلى أكثر من 6 ليرات لشراء الدولار. فقدت الليرة أكثر من 30 في المائة من قيمتها هذا الشهر - نصفها تقريباً هذا الأسبوع.

يبدو أن شعور السيد ترامب بالضعف قد جعله تحت الضغط، وأعلن عن فرض عقوبات اقتصادية إضافية - مضاعفة التعريفات الجمركية على الصلب التركي المستورد إلى 50 في المائة وعلى الألمنيوم إلى 20 في المائة - بعد أن قام بالفعل بفرض عقوبات على اثنين من وزراء الحكومة التركية الأسبوع الماضي.

وقد أدى هذا التحرك إلى تسعير الصلب التركي بفعالية خارج السوق الأميركية، التي تمثل 13 في المائة من صادرات تركيا من الصلب.

"علاقاتنا مع تركيا ليست جيدة في هذا الوقت!" كتب السيد ترامب في تغريدة له على تويتر.

أثارت المواجهة العميقة تساؤلات حول ما إذا كان الزعيمان القويان سيخوضان المزيد من الفوضى على نطاق أوسع بينما يتنافسان في نزاع دبلوماسي آخذ في الاتساع يركز بشكل كبير على شخصيات فردية.

واعظ إنجيلي، السيد برونسون، الذي عاش في تركيا لمدة 23 عاماً، هو واحد من نحو 20 من الأميركيين، بينهم عالم من وكالة ناسا وأستاذ في الكيمياء من ولاية بنسلفانيا، كانوا قد اعتقلوا ضمن حملة أردوغان منذ الانقلاب الفاشل قبل عامين.

يقول السيد أردوغان إن الانقلاب تم تنسيقه من الولايات المتحدة، وعلى وجه التحديد من قبل رجل دين مسلم، يدعى فتح الله غولن، من منفاه الذي اختاره لنفسه في بنسلفانيا. وطالبت السلطات التركية بتسليمه، وهو ما رفضه المسؤولون الأميركيون، ويُنظر إلى الأميريكيين المحتجزين في تركيا على نطاق واسع على أنهم أوراق مساومة.

لم يبدِ السيد أردوغان أي علامة على التراجع. وبدا متحدياً في خطابين أمام أنصاره يوم الجمعة مهاجماً القوى الأجنبية التي اتهمها بتدبير الأزمة الاقتصادية في تركيا وتعهد بعدم الرضوخ للضغوط الغربية.

وقال أردوغان أمام حشد من الناس في جوموشان، وهي مقاطعة تقع على ساحل البحر الأسود في شمال تركيا، "إن أولئك الذين يعتقدون أنهم يستطيعون أن يجعلونا نركع بالتلاعب الاقتصادي، لم يفهموا هذه الأمة على الإطلاق. لا يمكنهم استخدام لغة التهديد، ولغة الابتزاز ضد هذه الأمة، وخصوصاً البلطجة لن تجدي مع أمتنا."

وبعد مشاهدة السيد أردوغان على بث تلفزيوني مباشر، قالت أسلي أيدينتاسباس، وهي باحثة بارزة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، "ليس لديهم أية صفقة، فقد أصبحت مواقفهم أكثر صلابة". وقالت إن الانهيار كان مفاجئاً، لأن السيد ترامب بدا وكأنه توصل إلى الخطوط العريضة لاتفاق لإطلاق سراح القس مع السيد أردوغان على هامش قمة الناتو الشهر الماضي.

في المقابل، وافقت الولايات المتحدة على ترتيب للمصرفي التركي، محمد هاكان أتيلا، الذي يقضي حكماً بالسجن لمدة 32 شهراً في الولايات المتحدة، ليتم إعادته لقضاء ما تبقى من عقوبته في تركيا.

بعد اجتماعه مع السيد أردوغان، قام السيد ترامب بخدمة إضافية، طالباً من "إسرائيل" إطلاق سراح المعتقلة التركية، إبرو أوزكان، التي أطلق سراحها بسرعة.

أرادت واشنطن إطلاق سراح السيد برونسون على الفور، لكن كان من المتوقع أن تستغرق إجراءات نقل المصرفي التركي أسبوعين أو ثلاثة، وفقًا للسيدة أيدينتاسباس. وقالت إن الصفقة لم تتم بعد، بينما كانت تركيا تطالب بتقديم مزيد من الضمانات، بما في ذلك تخفيض غرامة من جانب وزارة الخزانة الأميركية ضد بنك هالك بنك التركي المملوك للدولة بسبب اتهامه بالتآمر لانتهاك عقوبات الولايات المتحدة ضد إيران والوعد لوقف أي محاكمات أخرى ضده.

وطبقاً لأحد المسؤولين الأميركيين، فقد مُنحت تركيا مهلة للإفراج عن السيد برونسون، الذي يخضع حالياً للإقامة الجبرية في منزله في مدينة إزمير الساحلية التركية، وذلك في الساعة السادسة من مساء الأربعاء.

وبدا أن تركيا تحاول تفادي الأزمة بإرسالها وفداً إلى واشنطن لإجراء المزيد من المحادثات في ذلك اليوم. وقال مسؤول أميركي ثانٍ إن المحادثات لم تسِر على ما يرام.

وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية، هيثر نويرت، بعد المحادثات: "تستمر المناقشات".

بحلول يوم الجمعة، بدا السيد أردوغان مصمماً على صرامته. ودعا الأتراك إلى بيع الذهب والدولار وشراء الليرة لتعزيز العملة التركية. وقال: "أولئك الذين لديهم دولارات، يورو، ذهب تحت الوسائد، يجب أن يذهبوا ويحولونها في بنوكنا إلى الليرة التركية. هذا هو الكفاح الوطني."

وقالت السيدة ايدينتاسباس: "لقد اتخذ أردوغان قراراً. لقد كان خطابه واضحاً للغاية."

غير أن الوضع الاقتصادي التركي بدا هشاً على نحو متزايد.

وأدى هبوط الليرة إلى زعزعة الأسواق المالية لأنه أثار الشكوك حول الاستثمار في الأوراق المالية التركية. ارتفع العائد على السندات التركية لأجل عشر سنوات بشكل حاد، إلى أكثر من 20 في المائة، وهو ما يعني أن التجار يطالبون بعوائد أعلى بكثير لما يعتبرونه استثماراً ينطوي على مخاطر متزايدة.

امتد القلق إلى شكوك حول البنوك الآسيوية والأوروبية التي استثمرت بشكل كبير في تركيا، وساهمت في انخفاض أسواق الأسهم حول العالم. وكما هو الحال مع الأزمة المالية التي شهدتها اليونان في عام 2010، كانت أحداث يوم الجمعة أحدث مثال على الكيفية التي يمكن أن تهدد بها المشاكل في دولة، ذات اقتصاد متوسط ​​الحجم ولكن مشاكل على مستوى عالمي، الاستقرار المالي أكثر من ذلك.

وقال بارت هورديجك، محلل السوق في أمستردام في شركة مونيكس يوروب Monex Europe، وهي شركة تعمل في مجال الصرف الأجنبي: "في الأسواق المالية، كل شيء متشابك. أنت لا تعرف ما إذا كان أحد البنوك لديه تعرض ضخم للليرة التركية."

ونتيجة لذلك، قال السيد هورديك: "يهرع الناس إلى أصول أكثر أماناً".

تعتمد شعبية السيد أردوغان، الموجود في الحكم منذ 15 عاماً، إلى حد كبير على قدرته على جلب النمو الاقتصادي المستمر للأتراك. لقد أوجد النمو طبقة وسطى مخلصة له، حتى عندما قام بتقليص الحريات المدنية، وسجن المعارضين، وقيّد وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية على حد سواء.

وقد دعا إلى انتخابات مبكرة هذا العام، أي قبل عام ونصف من الموعد المقرر، مدفوعاً جزئياً بعلامات تدل على أن الاقتصاد يتداعى. مع ذلك، انخفضت الليرة حتى في خضم حملة إعادة انتخابه.

تفاقمت الأزمة الاقتصادية فقط في الأسابيع القليلة الماضية منذ أن حصل أردوغان على سلطات تنفيذية واسعة بعد إعادة انتخابه إلى نظام رئاسي تم تعزيزه مؤخرًا في يونيو - حزيران.

وقد عكس الانخفاض الحاد في قيمة العملة المخاوف بشأن أساسيات النموذج الاقتصادي للسيد أردوغان، والذي اعتمد على صناعة البناء الشرهة التي يقول خصومه إنها أثرت دائرته الداخلية في الوقت الذي كد فيه الدين على البلاد.

إن الانحدار الأكثر حدة في الليرة منذ إعادة انتخاب أردوغان، تغذيها الآن المخاوف من أنه معزول أكثر من أي وقت مضى ولا يأخذ أي نصيحة اقتصادية لأحد غيره.

وفي مثال على دوره المتزايد، قاوم أردوغان الدعوات لرفع أسعار الفائدة للحد من التضخم ولتخفيف الضغط على الليرة.

وقد حاول بيرات البيرق، صهر أردوغان، الذي تم تعيينه في منصب وزير المالية والخزانة المدمجين معاً، تهدئة الأسواق من خلال إحاطة إعلامية إلى وسائل الإعلام. وأصر على أن تركيا ستحترم استقلال البنك المركزي حتى لو كان تدخل أردوغان في السياسة النقدية أحد أسباب سقوط الليرة، وأن اقتصادها سيُظهر نمواً إيجابياً هذا العام.

وقال: "ستذهب تركيا إلى أبعد من ذلك مع أصدقائها ومع أولئك الذين يقولون (نحن مع انتصار تركيا). تركيا لديها قطاع مصرفي قوي للغاية، وهي مستعدة بشكل جيد لهذا النوع من السيناريوهات مع هيكل رأس المال".

كما أعلنت تركيا أن السيد أردوغان أجرى مكالمة هاتفية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم الجمعة لمناقشة العلاقات الاقتصادية وسط اضطراب السوق، وفقاً لما ذكرته وكالة أسوشيتد برس. وقال أردوغان، الذي غالباً ما وصف علاقته مع روسيا كإشارة بأن لديه بديلاً للعلاقات مع الغرب، أنهما ناقشا السياحة الروسية إلى تركيا.

ورد وزير التجارة التركي رُسَار بيكان على نبأ العقوبات الجديدة بأسلوب مضبوط، داعياً إلى العودة إلى المفاوضات. وقال في بيان: "تشعر تركيا بخيبة أمل عميقة بسبب قرار الإدارة الأميركية بمضاعفة تعريفات الصلب والألمنيوم. كانت الرسوم الجمركية لا أساس لها عندما تم الإعلان عنها في حزيران - يونيو، وتبقى كذلك الآن". وأضاف: "آثار هذا الإجراء غير الرشيد من قبل الإدارة الأميركية لن تؤثر فقط على تركيا، بل ستثبت أنها تضر بالشركات الأميركية والعمال الأميركيين أيضاً. إننا نناشد الرئيس ترامب العودة إلى طاولة المفاوضات - وهذا يمكن ويجب أن يتم حله من خلال الحوار والتعاون".

 

ترجمة: هيثم مزاحم - الميادين نت