بعد مئة عام.. "التايمز" تكشف عن دورها في وعد بلفور
بعد مرور قرن لا يزال الصراع على إقامة وطن لليهود محتدماً، لكن إحدى أولى معاركه وأكثرها أهمية لم تكن في الشرق الأوسط بل على صفحات "التايمز".
في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1917 نشرت "التايمز" واحدة من أهم الوثائق في التاريخ. لم تكن قصة خبرية بل نصاً حرفياً للرسالة التي كتبها وزير الخارجية البريطاني اللورد بلفور للبارون الثاني روتشيلد.
الرسالة أعلنت أن "حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذا الهدف" وسمح لروتشيلد بتمرير هذه الرسالة إلى الاتحاد الفيدرالي الصهيوني.
إعلان بلفور منح الحركة الصهيونية دعم القوة العظمى في العالم ممهداً الطريق أمام موجات الهجرة الجماعية لليهود وولادة إسرائيل في عام 1948.
إن تأثير تلك الرسالة المصيرية التي نشرتها "التايمز" آنذاك معروف جداً. بيد أن ما بقي منسيّاً على نحو كبير ولا يزال غامضاً هو الدور الذي لعبته هذه الصحيفة مما أدّى إلى تلك اللحظة.
لم تنقل "التايمز" فقط دعم الحكومة لوطن يهودي بل استخدمت قوتها ونفوذها وصفحاتها للتشجيع على الإعلان وإعاقة اللوبي المناهض للصهيونية في البلاد.
ففي حين كان المجتمع اليهودي في بريطانيا يدعم على نطاق واسع إقامة وطن لهم، رأى الكثير من العائلات الإنكليزية اليهودية التي كانت تعارض الصهيونية بشدّة أنه ليس هناك من حاجة لدولة يهودية مستقلة وكانت ترى أن الهوية الدينية والقومية مفهومان منفصلان بالكامل.
هؤلاء المناهضون للصهيونية كانوا ممثلين على نحو كبير في اللجنة المشتركة التي كانت عبارة عن تحالف بين المؤسسة الإنكليزية اليهودية التي أنشئت عام 1871 لمحاربة معاداة السامية ومجلس ممثلي اليهود.
أحد معارضي الصهيونية النافذين والمؤثرين كان إدوين مونتاغو وزير الدولة لشؤون الهند واليهودي الوحيد في الحكومة. في مذكرة له كتب مونتاغو مستشرفاً: إن سياسة حكومة صاحبة الجلالة هي في النتيجة معادية للسامية وستوجد أرضية للمشاعر اللاسامية في كل بلد من بلدان العالم.
في الجهة المقابلة كان الصهاينة من أمثال روتشيلد ورئيس الوزراء ديفيد لويد جورج واللورد بلفور والزعيم الصهيوني الروسي المولد حاييم وايزمان ومعهم "التايمز".
في رسالة خاصة لمالك الصحيفة اللورد نورث كليف قال محرر الشؤون الأجنبية هنري ستيد "كنت أفعل كل ما بوسعي لمساعدة الصهاينة وحتى الآن منحني المحرر حرية مطلقة" من أجل ذلك.
رسالة ستيد التي حفظت في أرشيف "التايمز" انتقدت تردد الحكومة الغريب في إعلانها دعم إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين على نحو صريح، مشيرة إلى أن لويد جورج وبلفور كانا يؤيدان منح اليهود الصهاينة وعداً عاماً مشجعاً ومتعاطفاً فيما مونتاغو كان معارضاً بشراسة.
دعم الصهاينة داخل الحكومة وفي مكاتب "التايمز" كان يستند بشكل كبير على حسابات الحرب الجيوسياسية. بريطانيا كانت عالقة في معركة يائسة مع ألمانيا وإعلان دعم الصهيونية كان سينظر اليه وفق كلمات بلفور على أنه "بروباغندا مفيدة للغاية في كل من روسيا وأميركا".
كان لليهود دور رئيسي في الثورة البلشفية وكان هناك أمل بأن يشجع الموقف الداعم لليهود روسيا على استمرار القتال في الجبهة الشرقية مع تقويض الدعم الألماني اليهودي للحرب وجذب يهود أميركا لزيادة مساهماتهم المالية في الحرب.
أعرب ستيد عن قناعته بأهمية الحصول على تعاطف اليهود في العالم من أجل مستقبل الامبراطورية، مشيراً إلى أن تصريحاً داعماً للصهيونية من شأنه المساعدة في كسب الحرب.
مع إدراكهم تنامي الدعم لمثل هذا الإعلان الداعم للصهيونية قرر البريطانيون المناهضون لها المواجهة. كان من المفترض بالاتحاد الصهيوني الإنكليزي عقد مؤتمر في 20 أيار/ مايو 1917 الذي كان يصادف يوم الأحد. قبل ذلك الموعد بثلاثة أيام وجّهت اللجنة المشتركة رسالة لصحيفة "التايمز" بعنوان رؤية اليهود الانكليز هاجمت فيها فكرة إقامة دولة يهودية منفصلة في محاولة لإجهاض المخطط الصهيوني.
الرئيسان المشتركان للجنة ديفيد ليندو الكسندر وكلود مونتيفيور كتبا في رسالتهما أن "إنشاء قومية يهودية في فلسطين تقوم على نظرية التشرد يجب أن يكون لها تأثير في جميع أنحاء العالم من خلال وصم اليهود بالغرباء في بلادهم الأصلية" وأضافا "إن اقتراح إحلال مستوطنين يهود في فلسطين يتمتعون ببعض الامتيازات الخاصة على السكان الآخرين سيكون بمثابة كارثة حقيقية للشعب اليهودي".
هذه الرسالة لم تظهر في "التايمز" في اليوم التالي ولا في اليوم الذي لحقه. وحين عقد المؤتمر الصهيوني كما كان مخططاً له اعتلى وايزمان المسرح وأعلن أن "حكومة صاحبة الجلالة مستعدة لدعم خططنا لإقامة وطن لليهود في فلسطين".
ظلّت رسالة المناهضين للصهيونية معلّقة لأربعة أيام قبل أن تنشر أخيراً في 24 أيار/ مايو لكن نشرها غداة إعلان وايزمان جعلها هامشية وغير ذات أهمية.
علاوة على ذلك، نشرت "التايمز" في العدد اللاحق ما لا يقلّ عن ثلاث رسائل من اللورد روتشيلد وكبير الحاخامات جوزيف هيرتز ووايزمان نفسه أعربوا فيها عن أسفهم لوجود معارضة للأمل الذي لطالما راود اليهود على مدى ألفي عام من التهجير والاضطهاد.
ربح الصهاينة الحرب الإعلامية واستقال رئيسا اللجنة المشتركة تباعاً وبدأ تحضير المشهد لنشر إعلان بلفور في تشرين/ الثاني. بعد مرور قرن لا يزال الصراع على إقامة وطن لليهود محتدماً، لكن إحدى أولى معاركه وأكثرها أهمية لم تكن ساحتها الشرق الأوسط بل صفحات "التايمز".