هل على الفلسطينيين السعي من أجل العدالة في المحكمة الجنائية؟
مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بحقوق الإنسان في فلسطين المحتلة ريتشارد فولك يتناول التطورات في القضية الفلسطينية بعد تسلّم الرئيس الأميركي دونالد ترامب السلطة في الولايات المتحدة، وتخليه المفاجئ عن حل الدولتين، ومصادقته على حل الدولة الواحدة، بشرط اتفاق الطرفين على ذلك، وهو ما لا يستطيع أحد تخيله.
من السهل التنبؤ بأن مثل هذا الحديث من ترامب لم يلق ترحيباً في الأردن ولا في مصر، اللتين ستتحملان عبء اللاجئين الفلسطينيين من عملية يراد لإسرائيل فيها أن تتمتع بأكثرية يهودية مريحة، إن تم فرض حل الدولة الواحدة.
إن الجزء المثير في هذا السياق الجديد هو التسارع في توسيع المستوطنات غير الشرعية الموجودة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فبالرغم من قرار مجلس الأمن شبه المجمع عليه في شهر كانون الأول/ ديسمبر، الذي أدان المستوطنات، فإن إسرائيل قامت بالتحدي وإعلان المصادقة على آلاف الوحدات السكنية في المستوطنات، كما وافقت الحكومة الإسرائيلية على بناء مستوطنة جديدة، وأعلنت عن 50 مستوطنة يتم توزيعها في أنحاء مختلفة، بعد أن كان هناك قانون يقضي بعدم شرعيتها".
إن المحكمة الإسرائيلية العليا قد تقوم بالتجاوب مع التحدي القضائي المتوقع، وتلغي قانون الكنيست الأخير، الذي يقضي بشرعية تلك المستوطنات، مستدركا بأن تمرير القانون في الكنيست أصلاً يعني أن القوى السياسية التي تدير دفة الحكم في إسرائيل الآن مصرّة بشدة على عدم السماح بقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة.
.. في ظل هذه الظروف، يصبح واجباً على السلطة
الفلسطينية أن تظهر للعالم أنها لا تزال على قيد الحياة، ولديها طرق عدة لفعل ذلك،
ومن هذا المنطلق فإن هناك بديهية للسلطة لإنارة سماء الوعي العام حول معاناة الفلسطينيين،
من خلال السعي للمطالبة الحثيثة بالعدالة في المحكمة الجنائية الدولية.
هناك شبه إجماع على الساحة الدولية بأن المستوطنات، وليست فقط النائية منها، مخالفة للمادة 49 (6) من اتفاقية جنيف الرابعة، بالإضافة إلى أن هذه المستوطنات شكلت على مدى عقود حجر عثرة للتوصل إلى حل دبلوماسي مرض للصراع.
من السذاجة التوقع أن تلتزم إسرائيل بحكم محكمة الجنايات الدولية، أو أن تشارك في مثل هذه المحكمة في أي شكل، عدا عن تحدي أهلية المحكمة، لكن نتيجة إيجابية من المحكمة ستكون لها قيمة عالية بالنسبة للفلسطينيين، حيث إنها ستضع إسرائيل في موقف سيئ فيما يتعلق بالأمم المتحدة والقانون الدولي والراي العام العالمي، ودون شك فإنها تشجع تنامي حركة التضامن العالمية.
.. مع ذلك، وبالرغم من هذه الظروف، التي تجعل التوجه إلى محكمة الجنايات خياراً جذاباً، فإنه من غير الواضح ما إذا كانت السلطة ستسلك مثل هذا الطريق، حيث استبعد وزير الخارجية السابق للسلطة وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، ناصر القدوة، عملياً الذهاب إلى المحكمة وقال لـ"ميدل إيست آي" الأسبوع الماضي، بأن الأمر معقّد دون إبداء أي إيضاحات أخرى.
هناك إشارات مختلطة تصدر عن دوائر القيادة في الفلسطينية، فكان موقف السكرتير العام لمنظمة التحرير الفلسطينية على عكس ما كان عليه القدوة، حيث كان واضحاً في إصراره على أن تقوم محكمة الجنايات الدولية بالتحقيق في "نظام الاستيطان الاستعماري".
يبدو مفيداً أن نتكهن لماذا هذه الازدواجية بين القيادات
الفلسطينية، حيث يبدو أن القانون الدولي والرأي العام مع الفلسطينيين، وإسرائيل تتحدى
وتظهر علامات الاستمرار في التوسع.
إن أهم ما في هذا النقاش هو الإجابة عن السؤال عما إذا
كان رد الفعل على هذه التقلبات الجيوسياسية يخدم المصالح الفلسطينية أم لا في هذا الوقت.
إن حجّة الدعوة للجوء إلى محكمة الجنايات الدولية واضحة،
فإنه سيضع إسرائيل في الزاوية ومن المؤكد أن تكون ردة فعل حكومة نتنياهو غاضبة وعدوانية
لأي تحرك كهذا من السلطة، ومثل ذلك الرد سيقرأ على أنه تأكيد لقابلية إسرائيل بأن تدان
في أي تحقيق مستقل فيما إذا كانت سياساتها الاستيطانية تلتزم بأدنى حدود القانون الدولي.
إن الأهم بالنسبة للسلطة في رام الله هو أنها ستثبت بأنه بالرغم من الإحباطات السياسية مؤخراً، إلا أن القيادة مستعدة لأن تسلك طريقاً صعباً، وتظهر شجاعة سياسية، بما في ذلك استعدادها لتحمل الأعمال الانتقامية التي ستقوم بها إسرائيل.
اللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية سيكون مرحباً به على مستوى الشعب الفلسطيني، الذي يعيش تحت وطأة الاحتلال، ويعاني من اعتداءات المستوطنين، ولا يرى مستقبلاً إلا في مواجهة مع إسرائيل، فإن اختارت السلطة السير في هذا الطريق فإنها تكون قد استعادت الدعم لادعائها المتضائل بأنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
أما الحجج لعدم الذهاب للمحكمة فإن العثور عليها أصعب، فليس هناك شك بأن فلسطين، التي اعترفت بها الأمم المتحدة دولة، تتمتع الآن بما يؤهلها للمشاركة في إجراءات المحكمة الدولية، لكن ما ليس واضحاً هو إن كانت محكمة الجنايات الدولية ستتجاوب أم لا، فخلال عمرها البالغ 15 عاماً، كانت محكمة الجنايات الدولية مترددة، إلا في أفريقيا، وحتى هناك لدغت بمقاومة قوية من الحكومات الأفريقية والاتحاد الافريقي، وكانت المحكمة حريصة على ألا تثير المعارضة السياسية لها في الغرب، وهو بالتأكيد ما سيحصل إن هي أطلقت تحقيقاً كاملاً في مظالم الفلسطينيين ضد إسرائيل.
هناك مشكلة عكسية بالنسبة لمحكمة الجنايات الدولية، التي قد تحبط السلطة الفلسطينية، فحتى تبدو المحكمة متوازنة قد توسّع تحقيقها ليشمل الادعاءات بخصوص الصواريخ العشوائية التي تطلق من غزة، وقد تقرر أن هناك أدلة قوية على وجود مسؤولية جنائية تقع على حركة حماس، في الوقت الذي تفشل فيه التهم ضد إسرائيل؛ لعدم إمكانية التحقق من النوايا الإجرامية.
مع أن مثل هذه النتيجة تعد نكسة للسلطة، إلا أنها في محكمة الجنايات الدولية ستكون مكان نقد دولي؛ لمخالفتها التفسير المعقول للقانون الدولي، وستعد انعكاساً للضغوط التي وضعتها واشنطن على المحكمة.
قد يكون أكثر ما يمنع السلطة من اللجوء إلى المحكمة هو الحملة التي تشنها إسرائيل وأميركا ضدها، التي أدت خلال حكم أوباما إلى إصدار قانون من الكونغرس يقطع المساعدات كلّها للسلطة في حال اللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية، ومنذ فوز ترامب تزايدت هذه التحذيرات، بما في ذلك توقيف كامل للمساعدات المالية، وإغلاق مكاتب المنظمة في واشنطن، والتهديد بوضع كل من منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح على قائمة الإرهاب الأميركية مرة ثانية، وواضح أن السلطة الفلسطينية تأخذ هذه التهديدات بجدية"
هناك مخاوف للسلطة بأن اللجوء إلى المحكمة قد يجعل إسرائيل تسرع نحو الإغلاق بشأن الصراع بالقيام بضم كل أو بعض الضفة الغربية، ومثل هذا الرد يتماشى مع ميل إسرائيل للرد بشكل غير متناسب على إجراء رسمي يستهدف شرعيتها أو سياساتها أو ممارساتها، وإسرائيل حساسة جداً من تهم جرائم الحرب.
الآن، حيث يستطيع نتنياهو الاعتماد على دعم غير مشروط من البيت الأبيض والكونغرس، فإنه لن يكون مفاجئاً أن يستغل فرصة رفع القضية لمحكمة الجنايات الدولية لإعلان سيادة إسرائيل على فلسطين التاريخية كلها.
يبدو من المؤكد في هذا السياق أن السلطة لن تحاول الاستفادة من خيار محكمة الجنايات الدولية، وستتبنى موقفاً محيراً، فلن تعلن بوضوح أنها لن تلجأ للمحكمة، ولن تلجأ لها.
وهذا يعكس حقيقة أن السلطة محاصرة بين صخرة التهديد الأميركية
الإسرائيلية وغضب الشعب الفلسطيني الهائج، ويذكرها بمأزقها أن عام 2017 تحل فيه الذكرى
الخمسون للاحتلال الإسرائيلي للضفة.
الموقف الأميركي هذا ليس جديداً، فخلال رئاسة أوباما عارضت أميركا محاولات السلطة الاعتماد
على القانون الدولي للمضي قدماً في نضالها الوطني.
بدلاً من الترحيب باستخدام القانون عوضاً عن السلاح، انتقدت الحكومة الأميركية الجهود الفلسطينية للحصول على عضوية في الأمم المتحدة، أو السعي للحصول على العدالة لمظالمها في المحافل الدولية، وواضح أن الانقلاب على القانون الدولي والأمم المتحدة سمة من سمات رئاسة ترامب، وليس فقط في ما يتعلق بالفلسطينيين، وهذه أخبار ليست جيّدة للعالم.
لقراءة المقال من مصدر إضغط هنا