مبعوث هولندي سابق إلى سوريا: المعارضة أدركت أخيراً أنها وقعت ضحية "أصدقائها"
في كتابه الذي صدر حديثاً بعنوان "تدمير شعب: الحرب الأهلية في سوريا" يكتب نيكولاس فان دام المبعوث الهولندي الخاص إلى سوريا بين عامي 2015 و2016 عن القرارات الخاطئة وغياب الرؤية البعيدة المدى لدى المسؤولين في الغرب منذ بداية الأحداث في سوريا. مجلة "فورين بوليسي" تنشر مقتطفاً من الكتاب في مقالة تتناول تركيز الغرب على هدف إسقاط النظام وعدم التعاطي مع حقائق الواقع على الأرض.
إذا كان السياسيون الغربيون يتساءلون عن أسباب تحقيق القليل من أهدافهم في الحرب الأهلية السورية فإن عليهم أن يبدأوا بالتدقيق في قراراتهم الخاصة. إن مقاربة الغرب للانتفاضة السورية هيمنت عليها منذ البداية جرعة زائدة من التفكير الرغبوي (wishful thinking). بدا أن السياسيين يستندون في موافقهم على ردود الفعل السياسية المحلية اليومية أكثر من الرؤية الطويلة الأمد والبراغماتية الموجّهة نحو النتائج، رؤية ضرورية لتقديم المساعدة الحقيقية في حلّ الصراع.
غالبية السياسيين الغربيين ركّزوا منذ البداية على فكرة أن الصراع لن يحلّ إلا إذا أزيح الرئيس بشار الأسد من السلطة. كثيرون اعتقدوا أن النظام سيسقط خلال وقت قصير نسبياً. سفراء عدّة في دمشق توقعوا أن يرحل الأسد بحلول صيف 2012. جرى التقليل من قوّة النظام على نحو كامل، جزء من ذلك يعود إلى الجهل أو نقص المعرفة بالنظام السوري، ولكن أيضاً نتيجة تفاؤل كان في غير محلّه.
الأكاديميون والصحافيون وصانعو السياسة الذين تنبأوا بأن لدى الأسد فرصة واقعية للبقاء لفترة أطول، أو هؤلاء الذين شككوا في الشرعية الأخلاقية لما يسمّى "المعارضة السلمية" عرّضوا أنفسهم لخطر اتهامهم بأنهم مؤيدون للأسد أو حتى معارضين للديمقراطية.
هيمنت الحجج العقائدية في بعض الأحيان على تلك الواقعية. حتى الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص إلى سوريا كان يتهمان من وقت لآخر بالانحياز للأسد بعد أدنى خطوة من قبلهما يمكن تفسيرها على أنها لا تعارض مصالحه.
كان لدى المسؤولين الغربيين عموماً أفكار واضحة عما لا يريدونه، وغامضة وغير واقعية عما أرادوه مكان الأسد. أرادوا نوعاً من الديمقراطية في سوريا لكن لم يكن ليتوقع أن تؤدي الإطاحة بالأسد بأسلوب عنفي إلى مثل هذه الديمقراطية السلمية المنشودة.
لم يتعامل السياسيون مع الوقائع
على الأرض وواصلوا استخدام الشعارات التي لم تعد تنسجم مع الوضع القائم في البلاد بعد
الآن. ظلّت المعارضة السورية توصف بالسلمية والديمقراطية لوقت طويل بعد اختطاف منصتها
من قبل قوى أكثر تطرفاً بمن فيهم إسلاميون وجهاديون، فيما كانت الحرب جارية بالفعل.
وفي وقت لاحق أضحى مفهوم المعارضة السلمية أشبه بالأسطورة أكثر من كونها واقعية
كما كانت عليه في البداية لكن خطاب السياسيين في الغرب لم يتغير.
كما أن دعم الغرب العسكري للمعارضة السورية لم يتطابق مع خطابه على الإطلاق مما
أدى إلى تضخّم توقعات المعارضة على نحو خطير. لم تعطَ المعارضة يوماً الدعم
العسكري الكافي لجعل النظام يستسلم، حتى يوم كان مثل هذا الضغط العسكري ضرورياً للتوصل
إلى الحلّ السياسي الذي يدعي الغرب أنه يريده.
نتيجة هذه العوامل مجتمعة بدا أن الثورة السورية محكوم عليها بالفشل المؤكد وطالما
أن النظام يتلقى الدعم العسكري من حلفائه، روسيا وإيران وحزب الله.
تبين أن الهدف المعلن للدول الغربية بتسليح المعارضة مقيّد حين يتعلق الأمر
بالواقع. حين رفع الاتحاد الأوروبي في 2013 الحظر على إرسال الأسلحة إلى سوريا بعد
إصرار بريطانيا وفرنسا، 2013، لم يطرأ أي تغيير كبير في ما يتعلق بتسليم الأسلحة
إلى المعارضة خلافاً للتوقعات.
تبين أنه لا توجد إرادة سياسية لتسليح أي جزء من المعارضة لدرجة منحه فرصة حقيقية
لكسب المعارك ضدّ النظام حتى حين كان الأمر متعلقاً بالمعارضة ذات الغالبية
العلمانية.
أثيرت التساؤلات حول أي من جماعات المعارضة الكثيرة يجب تسليحها ولأي هدف، حيث
أردت الدول الغربية بوضوح تجنب احتمال إنشاء ديكتاتورية إسلامية متطرفة. لكن هل
كانت هناك أي ضمانة لعدم وصول الأسلحة التي ترسل إلى الجماعات الأخرى، إلى أيدي
الإسلاميين والجهاديين؟ وهل كانت الأسلحة تهدف حقاً للمساعدة في إسقاط نظام الأسد؟
أو مساعدة المعارضة بشكل رئيسي في الدفاع عن نفسها؟ أو من أجل قتال داعش وجبهة
النصرة والتنظيمات الجهادية الأخرى؟ هل كانت بادرة إنسانية؟ لم تكن هناك من استراتيجية
واضحة لدى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي باستثناء أن هزيمة داعش باتت
أولوية.
في غضون ذلك أصبح المزيد من
الجماعات الإسلامية المتطرفة أكثر قوة من "الجيش السوري الحر" المعتدل
نسبياً. دول مثل السعودية وقطر ركّزت دعمها أيضاً على التنظيمات الإسلامية
المسلّحة مثل حركة "أحرار الشام" و"جيش الإسلام".
ما أراده الغرب رؤيته بوضوح كان نظاماً معتدلاً ديمقراطياً علمانياً تعددياً لكن
مثل هذا الاحتمال لم يكن واقعياً، ليس في المدى المنظور بالتأكيد. في ما يتعلق
بالجماعات العلمانية المسلّحة التابعة للجيش السوري الحرّ، فإنها أصبحت تدريجياً
أكثر تطرفاً نتيجة للحرب الدموية الطويلة الأمد. لقد أصبح التيار الإسلامي في
سوريا أقوى خلال الحرب فيما بات التيار العلماني في المقابل أقلّ شعبية.
بالرغم من ذلك، تجاهل المسؤولون الغربيون هذا التطور على نحو كبير، وواصلوا دعمهم
الشفهي لما اعتبروه المعارضة العلمانية. لكن مع عدم تزويدهم إياها بالوسائل
الضرورية لكي تكون لها اليد العليا في المعركة، فإن دعمهم المعنوي لم تكن له أي
قيمة حاسمة في الميدان.
وفيما كانوا يعمدون إلى إراحة "ضميرهم السياسي" بالتعبير عن دعمهم
للمعارضة، كانوا في الواقع يساهمون عن غير قصد في إطالة أمد الحرب ومساعدة الأسد
على التقدّم نحو النصر خصوصاً بعد بدء روسيا تدخلها العسكري لمصلحة النظام في
أيلول/ سبتمبر 2015.
في مناسبات عدّة دعا القادة في الغرب إلى اتخاذ تدابير ضدّ النظام السوري كانوا
يدركون مسبقاً أنها لن تطبق. بيد أن عدم القيام بأي شيء أو عدم الرد، لم يكن من الناحية
السياسية خياراً مقبولاً بنظر الحكومات الديمقراطية.
مع ذلك يمكن القول إنه من حيث المنطق كان من الحكمة في بعض الحالات عدم فعل شيء
على القيام بالأمر الخطأ بما لديه من عواقب كارثية.
كان يتوقع أن يقوم السياسيون بأمر ما. عبارات من قبيل "ألا يجدر بنا التدخل
هنا" و"كيف يمكنك الجلوس والتفرج على الناس في سوريا وهم يتعرضون للقمع
والذبح؟" باتت شائعة جداً لكن عملياً لم يتمّ فعل الكثير للمساعدة على تغيير
واقع السوريين على الأرض بشكل كبير.
السؤال الرئيسي الذي غالباً ما يطرح خلال النقاشات حول الأزمة السورية كان: هل من
الممكن تحقيق العدالة؟ الاجابة كانت نعم بالتأكيد ولكن بأي ثمن؟ كان من السهل
القول على سبيل المثال إنه ينبغي محاكمة الأسد على الجرائم ضدّ الإنسانية أمام
المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. لكن هذا الأمر لم يساعد على إيجاد حلّ. الفكرة
القائلة بأن الأسد سيكون قادراً على مغادرة سوريا وهو على قيد الحياة من أجل
المثول أمام هذه المحكمة كانت غير واقعية إلى حد بعيد. بعض الأشخاص ذهبوا إلى حد
تخيّل أن الرئيس الأسد سيبدأ بالتصرف والتفكير بطريقة مختلفة بمجرد إدراكه
لإمكانية محاكمته أمام الجنائية الدولية في المستقبل. كل هذا تبين أنه مجرد رغبات
غير واقعية.
المطالبة بتحقيق العدالة جيدة بحدّ ذاتها، كما هو الحال بالنسبة لتوثيق كل جرائم
الحرب التي ارتكبت. هذا ما يجب القيام به بالتأكيد لكن ليس على حساب الجهود
الرامية إلى العمل استباقياً من أجل إيجاد حلّ ومنع إراقة المزيد من الدماء التي
ستستمر من دون شك في حال لم يتم تسهيل المفاوضات بين مختلف الفصائل السورية المتصارعة.
يجب أن تكون الدعوة للعدالة جزءاً من جهود أوسع لتحقيق السلام أكثر من التركيز فقط
عن الذين ارتكبوا الجرائم بحق الشعب السوري في الماضي القريب. يجب إيجاد حلّ سياسي
قبل تحقيق العدالة وليس العكس. إن الغرب خلق في الواقع توقعات كاذبة ومنح المعارضة آمالاً بالمزيد من الدعم الذي
لم يقدّم لها في نهاية المطاف.
ربما تكون الدول الغربية محقّة أخلاقياً في وسم نظام الأسد بـ"غير
الشرعي" لكنها بذلك قطعت الطريق على أي فرصة لديها للعب دور بنّاء في العثور
على حلّ سياسي للأزمة. السؤال كان: أي الأمرين يجب أن تكون له الاولوية؟
ويبدو أن العوامل السياسية المحلية تعتبر أكثر أهمية. السفير الأميركي السابق لدى
سوريا روبرت فورد عارض رحيل الأسد قائلاً إن الولايات المتحدة لن تكون قادرة على
تحقيق ذلك. لكن وفق كريستوفر فيليبس كان ينظر في الولايات المتحدة إلى أن تكلفة عدم
الدعوة إلى رحيل الأسد ستكون مرتفعة جداً داخلياً.
إن زيارة التضامن التي قام بها فورد ونظيره الفرنسي اريك شوفالييه للمعارضة في
حماة في تموز/ يوليو 2011 بدت خطوة متعاطفة من وجهة النظر الغربية لكنها في الواقع
أدت إلى نهاية إمكانية لعب الولايات المتحدة وفرنسا ودول أخرى أي دور وسيط في النزاع.
على العكس من ذلك منحت زياراتهم آمالاً كاذبة للمعارضة بأن الدعم الغربي بات وشيكاً
لكنه في لم يكن كذلك.
بطريقة ما، بدا الوضع شبيهاً بما جرى في جنوب العراق في عام 1991 حين شجعت
الولايات المتحدة وآخرون الشيعة التصعيد ضدّ نظام صدام حسين لكنهم لم يفعلوا شيئاً
لمساعدتهم حين جرى قمع انتفاضتهم بطريقة دموية.
كما قال ديفيد ليش "فإن تحركات فورد حظيت بالإشادة العالمية على مستوى
الولايات المتحدة والغرب حيث نظر إليها على أنها خطوة شجاعة من شأنها لفت الانتباه
إلى المتظاهرين، والمساعدة على منع تكرار ما تنبأ به البعض من مجزرة جديدة كتلك
التي وقعت في حماة في عام 1982". لكن من المحتمل أن خطوات فورد وشوفالييه
حققت العكس.
حين استعاد النظام السوري بعد خمس سنوات القسم الشرقي لمدينة حلب في كانون الأول/
ديسمبر 2016 والذي كان تحت سيطرة قوات المعارضة العسكرية لأكثر من أربع سنوات، لم
يتمكن القسم الأكبر من المجتمع الدولي بما في ذلك الدول الغربية والخليجية التي
دعمت أغلب قوات المعارضة العسكرية، من القيام بما هو أكثر من الوقوف مكتوفة الأيدي
وإصدار تصريحات الاستنكار الشديد والغضب تجاه إراقة الدماء والفظاعات التي تحدثت
التقارير عن حصولها.
كانت تفتقر للقوة التي تسمح لها بالتدخل السياسي أو العسكري لأنها كانت قد استبعدت
التدخل العسكري في سوريا قبل سنوات عدة ولم تعد لديها أي تأثير حقيقي على النظام
السوري (الذي كانت قد قطعت علاقاتها به قبل سنوات) أو على حليفيه روسيا وإيران من
أجل تغيير سياساتهما بما يتعلق بسوريا. علاوة على ذلك يبدو أنها لم تزوّد جماعات
المعارضة بالدعم العسكري الكافي بما يجعلها قادرة على كسب معركة حلب.
في 2012 كانت لا تزال شخصيات رئيسية في المجلس الوطني السوري تتحدث عن تفضيلها
التدخل العسكري كما لو أنه احتمال واقعي. وكان الزعماء الإقليميون يطمئنون
المعارضة بأن التدخل قادم لا محالة، لكنهم رفضوا القبول بقرار الولايات المتحدة عدم
التدخل العسكري بعد عقود من المرونة في التعاطي.
لقد استغرق الأمر وقتاً طويلاً قبل أن تبدأ المعارضة بإدراك أنها باتت ضحية التوقعات
الكاذبة لما يسمى "أصدقاءها الداعمين" في الغرب الذين لم يريدوا أن
يواجهوا علناً أو يواجهونها بحقيقة الوضع.