عودة روسيا كقوة كبرى لا تقف عند سوريا
سوف تعتاد على ذلك، لأن النفوذ الروسي يقترب من منطقة قريبة منك.
كتب ديميتري ترينين مدير مركز كارنيغي في موسكو مقالة في صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تناولت الدور الروسي العالمي معتبراً أن عودة روسيا كقوة عالمية لا تقتصر على التدخل العسكري في سوريا بل تمتد إلى دول أخرى في الشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية. والآتي ترجمة نص المقالة:
بالنسبة للكثيرين في الغرب، أضحت عودة روسيا إلى المسرح العالمي خلال السنوات القليلة الماضية بمثابة مفاجأة لكنها ليست مفاجأة سارة. بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، تم شطب البلاد مثل إزالة ثلج أمس، وأصبحت قوة إقليمية، ومحطة تعبئة تتنكر كدولة.
وبعد خمس سنوات من العقوبات الغربية المفروضة على روسيا بسبب أعمالها في أوكرانيا، ظلت تتمتع بالمرونة. لقد انتصرت عسكرياً فعلياً في سوريا: فهي اليوم وسيط قوة في ذلك البلد؛ وقد رفع النصر مكانتها في الشرق الأوسط وقدم الدعم المادي لمزاعم موسكو بأنها قوة عظمى مرة أخرى.
يجب على أولئك الذين يعانون من هذه اللحظة مع بعض الانزعاج أن يعتادوا على ذلك: روسيا ليست قوة عظمى، لكنها عادت كلاعب مستقل مهم. وستلعب في مناطق مختلفة حول العالم في السنوات المقبلة.
بالنسبة الروس أنفسهم، فهذا شعور طبيعي بما فيه الكفاية. في تسعينيات القرن العشرين، عندما رأى العالم روسيا ساقطة على ظهرها، لم ينظر قادة روسيا إلى البلاد على أنها منتهية. وبدلاً من ذلك، فقد رأوا أن تراجعها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانسحابها من المشهد العالمي كانا مؤقتين فقط، وهو الأمر الذي عرفته روسيا من قبل وستتغلب عليه في النهاية. كان السؤال الوحيد هو الشكل الذي سيتخذه.في العقد الأول من القرن العشرين، أصبحت موسكو تشعر بخيبة أمل بسبب رغبتها في أن تصبح جزءاً من المجتمع الأوروربي-الأطلسي الممتد: لم تتأثر واشنطن بمطالب موسكو بأن تعاملها على قدم المساواة، وتم تجاهل مطالبها باحترام مصالح أمنها القومي في عملية توسيع حلف الأطلسي (الناتو). وهكذا منذ أوائل عام 2010، بدأ الكرملين في رسم مسار يتعارض بوضوح مع سياساته السابقة المتعلقة بالتكامل الغربي.
مع التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا في عام 2014، اكتمل الخروج من نظام ما بعد الحرب الباردة، الذي كان يسيطر عليه الغرب. إن الاستيلاء على شبه جزيرة القرم ودعم الانفصاليين في دونباس (أوكرانيا) لم يؤسس لسياسة إعادة احتلال أوروبا الشرقية، كما كان يخشى الكثيرون في الغرب، لكن من الواضح أنه وضع أوكرانيا وجمهوريات سوفياتية سابقة أخرى خارج أي توسيع لحلف الأطلسي في المستقبل.
عاد الحزام الأمني مجدداً. وإذا كان استخدام القوة في أوكرانيا، من وجهة نظر الكرملين، دفاعياً بشكل أساسي، فإن تدخل روسيا في سوريا في عام 2015 كان مناورة محفوفة بالمخاطر لتقرير النتائج الجيوسياسية في الشرق الأوسط - وهي منطقة مشهورة بالخيانة بالنسبة للأجانب وكان قد خرج منها الاتحاد السوفيتي منذ حرب الخليج عام 1991. ومنذ ذلك الحين، لم تربك نتائج العملية العسكرية والمناورة الدبلوماسية فقط المنتقدين الأوائل بل تجاوزت توقعات الرئيس فلاديمير بوتين. وقد تجاوزت إنجازات روسيا في الشرق الأوسط النجاح في سوريا. إذ تستفيد موسكو من التحالفات المرنة مع تركيا وإيران، وترتيبات أسعار النفط مع المملكة العربية السعودية والعلاقات العسكرية التي تم إحياؤها حديثاً مع مصر. إنها مرة أخرى لاعب ذو تأثير في ليبيا، وهي قوة ينظر إليها الكثير من اللبنانيين لمساعدتهم على توحيد بلادهم، ووسيط أمني محتمل بين إيران ودول الخليج العربية. كل هذا مع الحفاظ على علاقة حميمة مع "إسرائيل".
اليوم، تبرز هذه الدرجة من الانخراط في الشرق الأوسط بوضوح في مشهد السياسة الخارجية الروسية. وغداً، من غير المحتمل أن يكون هذا استثناء. ومنذ فترة فعلاً، تعسى موسكو، بالتوازي مع واشنطن، إلى تسوية سياسية في أفغانستان. وهذا يتطلب مناورة بين كابول وحركة طالبان، وبين باكستان والهند، وبين الصين والولايات المتحدة. في الشهر الماضي، أقام السيد بوتين قمة لـ43 من القادة الأفارقة في سوتشي كانت أول قمة لروسيا مع قارة تعلن فيها موسكو عن نفسها كشريك أمني لها.
مصداقية هذا الادعاء لا تدعمه التجربة السورية فقط بل وأيضاً الدعم السياسي والمادي الروسي للرئيس نيكولاس مادورو في فنزويلا، الذي لا يزال متمسكاً بالحكم، على الرغم من إعلانه غير شرعي قبل عام تقريباً من قرابة 50 دولة بقيادة الولايات المتحدة. كوبا، التي تتعرض لضغوط من إدارة ترامب مجدداً، تعزز علاقاتها مع روسيا، كما يتضح من الزيارات المزدوجة الأخيرة التي قام بها رئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف إلى هافانا وزيارات الرئيس ميغيل دياز كارنيل إلى روسيا. إضافة إلى الأنظمة اليسارية في أميركا اللاتينية، تتواصل موسكو مع البرازيل (عضو زميل في تجمع البريكس) والأرجنتين والمكسيك.
إذا كان سجل روسيا في الشرق الأوسط يعد دليلاً، فإن سياستها الخارجية النشطة حديثاً لا تتعلق بالنظام العالمي بقدر ما تتعلق بمكانة روسيا في هذا النظام. اعتاد الاتحاد السوفياتي أن يسير في جميع أنحاء العالم ينفق موارد ضخمة على قضية أيديولوجية خاسرة وطموح جيوسياسي كبير. لقد تعلم الاتحاد الروسي من ذلك. عندما يتوجه الاتحاد الروسي إلى الخارج، فإنه يذهب إلى أحزمة أمنية كما هو الحال في أوكرانيا، وكما هو الحال في سوريا وفي الغالب حيث يوجد المال في أماكن أخرى. لا يوجد تخطيط كبير، ولكن هناك الكثير من البحث عن الفرص، استناداً إلى مزايا كل مشاركة محتملة. لا تفرض روسيا نماذج على الآخرين وفي حالتها الحالية، بالكاد تكون بمثابة نموذج لأحد.
وهنا يكمن التحذير الكبير. من الواضح أن روسيا تحمل أكثر من طاقتها. فسياستها الخارجية كقوة كبرى لا تدعمها قوة اقتصادية متناسبة. لقد تضاءلت قوتها التكنولوجية السابقة بشدة. إن النخبة الحاكمة مشغولة للغاية في مطاردة الأموال ولا تعطي الوقت الكافي للتفكير والعمل من أجل المصلحة الوطنية. وبالطبع، فإن السياسة الخارجية الروسية الأخيرة كان لها نصيبها من الإخفاقات والأخطاء الفادحة. فعلى سبيل المثال، أثار اختيار استخدام تقنيات الإنترنت كسلاح للتأثير على السياسة الداخلية للبلدان الأخرى، اتهامات من شركاء مهمين مثل ألمانيا وفرنسا، لكنه فشل في تحقيق الأهداف السياسية لروسيا. وفيما يتعلق بالتدخل في الانتخابات، سيكون من الحكمة امتناع روسيا، شأنها شأن أي دولة أخرى، عن التسلل إلى غرف النوم السياسية في الدول الأخرى، ليس لأن السادة المحترمين لا يفعلون ذلك، ولكن بسبب عدم وجود ربح عادة، بل مجرد رد سلبي.
ومهما يكن، فإن روسيا عادت وستبقى. كان من الأفضل للآخرين قبولها وتعلم كيفية التعامل معها – من دون توقعات لا مبرر لها، ولكن أيضاً من دون خوف شديد. في العالم الذي تهيمن عليه بشكل متزايد المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، يمكن للجهات الفاعلة الرئيسية المستقلة مثل روسيا أن تلعب دوراً مهماً في تجنب المواجهة الثنائية القطبية المكلفة.
*ديميتري ترينين هو مدير مركز "كارنيغي" في موسكو.
ترجمة: هيثم مزاحم - الميادين نت