«نسبية العين الواحدة»...
الانتخابات على النظام الأكثري أصبحت بائدة، لأنّ المشرّعين، وتحت الضغط السياسي الاجتماعي الكبير في العالم ابتكروا "المفهوم النسبي" الذي يتيح فرص التمثيل السياسي لكلّ القوى مهما تباينت أحجامها، وبشكل لا يلغي القوي الضعيف إنما ضمن الحدود القانونية المطلوبة.
أهمية القانون النسبي تبدأ في جمعه، بين كلّ مَن يمتلك قوة شعبية تشكل نسبة من الناخبين تعادلُ في حدّها الأدنى "الحاصل الانتخابي" أيّ قسمة "الأصوات الفعلية" على عدد المقاعد، حسب ما تناله كلّ قوة من أصوات الناخبين.
لربما هذا هو الجانب الجميل من القانون النسبي عموماً الذي أدّى إلى خلق المعارضات البرلمانية في العالم والتي أدّت بدورها إلى نشوء ديمقراطية فعلية… هذا ما نشهده في برلمانات العالم الغربي وبعض أنحاء القارات الأخرى، حيث تصعد شخصيات سياسية مشاريع وتسقط أخرى بفعل المراقبة المتبادلة بين القوى المتعدّدة لبعضها بعضاً، وقدرتها على استخدام وسائل الاتصال الاجتماعي التي تعمّمُ الأخبار بطرفة عين وبشكل أكثر فاعلية حتى من الفضائيات والوسائل الإعلامية الأخرى.
فهل هذا ما يُنشدُه القانون الحالي في لبنان؟
المصيبة الأولى والمحورية أنّ هذا القانون مخصّصٌ للتطبيق في نظام طائفي ومذهبي.. أيّ أنّ كلّ مرشح يقتطع مقعداً من حصة المذهب المنتمي إليه، وبموجب بدعة الصوت التفضيلي الذي يتيح للناخب التصويت لمرشح مفضل لديه، من اللائحة الانتخابية المغلقة نفسها، حسب القانون النسبي، وبالتجانس مع المذهب والدائرة.
فهذا ينتج على الفور قيادات مذهبية لكلّ لائحة هي التي تقود الناجحين من لائحتها في مجلس النواب، لأنّ كلّ لائحة تضمّ متحالفين وفق حصص المذاهب في تقسيمات النظام الطائفي، هؤلاء يتحلّقون حول طائفي متزعّم "يسوق" اللائحة متمتعاً بأصوات تفضيلية، إنما من دون أن يحجب قسماً منها عن حلفائه، فيتأمّن نجاح الجميع وتدوم النعم الطائفية فقط.
وفي قراءة عجولة لأدوار المؤسسات الدينية في الجوامع والكنائس والحسينيات والخلايا، وخطب الجمعة المنقولة تلفزيونياً، يتبيّن التحشيد على أصوله. أما بتعداد رجال الدين لفضائل الرؤساء والوزراء والنواب في إدارة البلاد وتعميم الاستقرار، أو برؤيتهم وهم منحنون أمام البطاركة والمفتين والمطارنة والفقهاء في صفوف طويلة من المؤمنين المنتمين إلى كلّ الطبقات يخشعون.. لقداسة "النظام الطائفي" الذي يُفترض أنه يؤدّي إلى مشاريعهم السياسية فقط وليس إلى اهتمامات الفقراء.
يتضح إذاً أن لا مكان فعلياً لقوى مدنية حديثة في قانون انتخاب مفصّل على قياس الطوائف ونظامهم الطائفي ومستعملاً وسيلة النسبية العصرية التي قد تؤمّن ومن دون أدنى شك توسيعاً ملحوظاً في تمثيل القوى اللبنانية… إنما المنتمية فقط إلى النظام الطائفي والعاملة لأجله… انظروا ماذا جرى في نقابة المهندسين في انتخاباتها الأخيرة.. هنا تجمّعت كلّ الأحزاب الطائفية المتقاتلة في ما بينها والمتشاحنة في الشوارع والإعلام.. تجمّعت في لائحة واحدة ضدّ لائحة قدّمت نفسها على أساس أنها مدنية، وهزمتها شرّ هزيمة.. تكفي الإشارة إلى أنّ قوى اللائحة الطائفية جمعت بسحر ساحر مقابل بضعة مهندسين اعتقدوا بإمكانية مجابهة النظام الطائفي اللبناني في نقابة مدنية لا تلتزم بالقواعد المذهبية التي ينصّ عليها الدستور، لأنّها من مؤسسات المجتمع نقابة وليست من مؤسسات النظام السياسي. فكان أنْ تلقوا هزيمة شنيعة قد لا تسمح لهم بالعودة إلى القتال إلا بعد وقت طويل.
هناك "مصائب" أخرى للقانون الحالي تتركّز على أنه من غير المسموح في مرحلة ما قبل الانتخابات إلا بتحالفات ذات طابع "انتخابي" حصري على قاعدة هي أكثر سوءاً من البراغماتية. وهنا لدينا "نظام هجين" يفرض على كلّ أحزاب النظام أن تختار قوى قد تكون على عداوة سياسية تاريخية معها، فيفرض النظام عليها التحالف معها في مناطق انتخابية معيّنة، تمتلك فيها أصواتاً وازنة.. وقد تلتقي في دوائر أخرى مع قوى تناقض مَن تحالفت معها في مواقع أخرى، وهكذا دواليك.. فتتبنّى مفهوماً جديداً يقضي بالتحالف "على القطعة"، وحسب معطيات توزّع القوى في كلّ دائرة انتخابية، وهذا يؤدّي إلى الجمع بين "سمك، لبن، تمر هندي" وفي لبنان فقط بلد الأعاجيب المعجزات.
أما عن قاعدة الانقسام في هذه الانتخابات، فهي بين أصحاب المشاريع الداخلية ذات البعد الإقليمي في مجموعات النظام الطائفي، أي بين حزب المستقبل من جهة وحزب الله من جهة أخرى، فهما الوحيدان اللذان لن يلتقيا في أي لائحة انتخابية مشتركة مع إمكانية "غضّ الطرف" وعدم المسّ بالمواقع النيابية لقيادات الصف الأول فيهما. بدليل أنّ أحداً لم يلاحظ اهتماماً من حزب الله بدعم مرشحين ينافسون جدياً رئيس الحكومة سعد الدين الحريري في دائرة بيروت الثانية.. لربّما يعتبرونه الأكثر اعتدالاً في مواجهة أصحاب الرؤوس الطائفية الحامية.
يتّضح بالنتيجة أن هذا القانون يؤمّن أولاً النسبية، إنما بين القوى الطائفية فقط، لأنّ النظام السياسي طائفي ومجلس النواب موزّع طائفياً وقوى الدولة مصادرة من قبل قوى الطوائف التي تستخدمها لمنع تيارات مدنية من الوصول لمجلس النواب بإمكانات مختلفة، ولا يسمح هذا القانون بالاتكاء على التباين السياسي لخوض الانتخابات. وهذه ميّزة نادرة تؤكد على هزالة الصراع السياسي على قاعدة اختلاف المشاريع وثبات الصراع على أسس إقطاعية وشخصية.
.. فالأحزاب والناس في خدمة "الزعامات" وليس العكس.
المجلس النيابي إلى أين؟ من المؤكد أنه ذاهب إلى منافسات حادة داخل صف قوى الطوائف فقط، وذلك نحو مزيد من احتكار مراكز القوة في النظام السياسي اللبناني، وعلى حساب الناس..
أما ماذا يفعل هؤلاء.. فإنّ الانهيار الاقتصادي الوشيك قد يشكّل الدافع لبناء تيارات مدنية على مستوى لبنان، تعمل للدفاع عن وطنها ضدّ آفات ثلاث:
الخطر الإسرائيلي الدائم، ووبال الإرهاب، والنظام الطائفي اللبناني.