ارفعوا أيديكم عن عبد الناصر!

يسرنا لا ريب استحضار عبد الناصر بعد مرور 46 عاماً على رحيله. وتحيّرنا الرسالة الكامنة وراء ذلك.

الرئيس المصري جمال عبد الناصر
بعدما فارقنا، وحين حلت ذكرى وفاته في 28 أيلول، جرى اكتشافه فجأة في الفضاء المصري، فتعددت المقالات التي أشادت بمناقبه وذرفت دمعاً غزيراً على «حبيب الملايين». ووجدنا اسمه في العنوان الرئيسي للصفحة الأولى في صحيفة «الأهرام» يوم 29 أيلول، حيث أبرزت الصحيفة خبر افتتاح الرئيس عبد الفتاح السيسي متحف جمال عبدالناصر، وهو البيت الذي عاش ومات فيه. وكان المشروع نائماً ومحل مماطلة وتراخٍ من جانب وزارة الثقافة طوال السنوات التي خلت. لكنه تحرك أخيراً بقرار سياسي. صحيح أن الخبر اكتسب أهميته من قيام الرئيس السيسي بالافتتاح وليس من إقامة المتحف، إلا أن «الأهرام» خصصت صفحتين كاملتين في الداخل لجمال عبد الناصر وزمانه. وقبل ذلك زفّت إلينا صحف الصباح خبر إطلاق اسم الزعيم الراحل على حاملة للطائرات من طراز «ميسترال» تم شراؤها من فرنسا، كما أطلق اسم أنور السادات على حاملة أخرى من الطراز ذاته. كان مثيراً للانتباه أن جريدة «الأهرام» كانت قد أبرزت على صفحتها الأولى في وقت سابق تقريراً أمنياً عن حصار مصر والتآمر عليها. أشار في ختامه إلى أن القوى الخارجية لجأت إلى حصار مصر والتآمر عليها لأنها «تخشى من عودة نموذج الحالة الناصرية إلى الساحة العربية» ممثلة في القيادة المصرية الراهنة («الأهرام» ــ 18/9/2016).للدقة، فإن تلك لم تكن المرة الأولى التي يتم فيها استحضار عبد الناصر في الفضاء المصري بعد «ثورة يناير»، ذلك أن البعض فعلها في أعقاب التحوّل الذي تمّ في الثالث من تموز العام 2013. إذ سمعنا أصداء وقرأنا كتابات وإشارات أعطت انطباعاً بأن ما جرى كان استلهاماً لزمن عبد الناصر في تجربته وشخوصه. إلا أن تلك الأصوات خفتت بمضي الوقت، إلى أن تجدّد الاستحضار أخيراً على النحو الذي ذكرت.
شاءت المقادير أن يتزامن استحضار عبد الناصر وتمجيد مسيرته مع واقعتين أخريين لهما رمزيتهما. الأولى تمثّلت في صدور قرار إسرائيل في الأسبوع نفسه بتغيير اسم معبر طابا الموصل إلى شبه جزيرة سيناء، بحيث يحمل اسم مناحيم بيغين اعتزازاً بدوره في توقيع معاهدة السلام مع مصر. والثانية تمثلت في حضور وزير الخارجية المصري جنازة القيادي الإسرائيلي شمعون بيريز صاحب التاريخ الطويل في ارتكاب أبرز الجرائم في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي، وأحد المحرّضين على العدوان الثلاثي على مصر العام 1956.صحيح أنه لا توجد علاقة مباشرة بين حملة استدعاء جمال عبد الناصر وبين الواقعتين السابقتين، إلا أن التزامن يوفر لنا فرصة المقابلة والمقارنة بين مرحلتين في تاريخ مصر المعاصر يحاول البعض أن يربط بينهما ويسقط إحداهما على الأخرى، في حين أن الشواهد كلها تدل على نقيض ذلك تماماً. إذ تقنعنا شواهد الواقع بأن كل زمان له رؤيته واجتهاداته مقطوعة الصلة بالآخر، وإن محاولة الربط بينهما تُعَدّ من قبيل الافتعال والتدليس السياسي.استطراداً، فإن الباحث حين يدقق في المسار الذي انتهجته مصر خلال السبعين سنة الأخيرة (منذ ثورة عام 1952 حتى الآن) يجد أن الوضع الراهن أقرب إلى عصر السادات وخليفته حسني مبارك منه إلى عصر عبد الناصر. من ثم فلسنا نبالغ إذا قلنا إن الإشادة بعبد الناصر ومواصلة مسيرة السادات تذكّرنا بنموذج قائد السيارة الذي يضرب به المثل حين يُعطى إشارة الانعطاف إلى اليمين، ثم ينحرف متجهاً إلى اليسار.
لست في وارد المقابلة بين تجربة عبد الناصر والوضع الراهن في مصر. إذ برغم أن غيري ربما يكون أقدر على ذلك، إلا أن المقارنة قد لا تكون متكافئة. فتجربة عبد الناصر اكتملت وجاز لنا أن نضع أيدينا على معالم الرؤية فيها، في حين أن رؤية نظام الرئيس السيسي لم تكتمل وهي لم تتبلور تماماً. وغاية ما يمكن أن يُقال إنها رؤية لا تزال تحت التشكيل، برغم أن بعض معالمها لاحت في ما يُعلَن من سياسات وما يرتجله الرئيس في بعض خطاباته من أفكار وآراء.ما قيل عن أن تجربة عبد الناصر كانت عظيمة في إنجازاتها وجسيمة في أخطائها تقييم ينصف الرجل وتجربته. يعبر عن ذلك المستشار طارق البشري، الفقيه والمؤرخ، صاحب كتاب «الحركة السياسية في مصر والديموقراطية ونظام 23 يوليو»، بقوله: إن تجربة عبد الناصر (1954 ــ 1970) تمثل الفترة الأكبر التي استقلت فيها مصر في سياستها الداخلية والخارجية خلال القرن العشرين. ذلك أنها المرحلة التي مارست فيها مصر سياسة مستقلة رعت فيها الصالح الوطني في تعامله مع الدول الكبرى في زمانه. وذلك إنجاز يجب التأكيد عليه. إلا أن عبد الناصر حقق ذلك الإنجاز الوطني في ظل نظام غير ديموقراطي. وكان غياب الديموقراطية أحد العوامل الأساسية التي أسهمت في إجهاض تجربته، وإفشال مشروعه على أيدي من جاءوا بعده.إذا كان عبد الناصر قد دخل التاريخ من أوسع أبوابه برغم كل ما يؤخذ عليه، فإنه يحسب له أن عصره اتسم بثوابت لم يتخلَّ عنها تمثلت في ما يلي: الاستقلال الوطني ــ الحياد الإيجابي وعدم الانحياز ــ مقارعة الاستعمار والانحياز إلى حركات التحرر في العالم ــ الانحياز للقضية الفلسطينية ورفض الصلح مع إسرائيل ــ الاعتزاز بعروبة مصر ورفع لواء القومية العربية ــ العدل الاجتماعي والتنمية الشاملة في الداخل.هذا المعمار الذي أقامه عبد الناصر في زمانه وظل يشكل ركيزة سياسية حتى رحيله في العام 1970، جرى تفكيكه واحداً تلو الآخر بمضي الوقت، حتى بتنا نبذل جهداً كبيراً لرصد آثاره وتحرّي ما بقي منها. إن شئنا الدقة فقد نقول إن إيجابياته تراجعت كثيراً وأغلبها تعرّض للاندثار، لكن سلبياته التي بقيت وازدهرت بمضي الوقت، وكان تغييب الديموقراطية وتزييفها هو المظهر الأكثر وضوحاً في ذلك.
ليس مطلوباً من السيسي أن يصبح نسخة من عبد الناصر. وليس معقولاً أن تستنسخ تجربة منتصف القرن الماضي لكي تطبق في بدايات القرن الجديد. لكنّ ثمة فرقاً كبيراً بين احترام التاريخ واستنساخه. وتجربة الصين خير دليل على ذلك، فالقيادة الصينية تحمل للرئيس ماو تسي تونغ كل تقدير واعتزاز، لكن تجربة الصين الراهنة لا علاقة لها بصين الرئيس ماو. فهم لم يستنسخوا تجربته، لكنهم استلهموا ثوابتها، وعمدوا إلى تطويرها على النحو الذي يلمس الجميع آثاره. وأياً كان رأينا في تلك الثوابت، خصوصاً ما تعلق منها بالموقف من الديموقراطية، فإن فكرة الالتزام بها هي أكثر ما يعنينا.إذا قمنا بتنزيل الفكرة على الواقع الراهن في مصر فسنلاحظ أمرين، الأول أن ثوابت عصر عبد الناصر اختلفت على نحو تستغرب معه الإشارة إلى خشية القوى الخارجية من احتمال عودة نموذج الحالة الناصرية إلى الساحة العربية. والعلاقة مع إسرائيل أوضح وأفدح دليل على ذلك. الأمر الثاني أن قطاعاً عريضاً من «الناصريين» تخلّوا عن إيجابيات عبد الناصر، ولم يفتر حماسهم لسلبياته. وحين تعدّدت المسالك والخيارات فإنهم اصطفوا وراء سلبياته، وعلى رأسها الموقف من الحريات العامة، وتجاهلوا إيجابياته أو قلّلوا من شأنها.هذه الخلفية تسوّغ لنا أن نطرح السؤال التالي: بماذا يفسّر استحضار اسم عبد الناصر وتجربته في الوقت الراهن، برغم بعد الشقة بين نموذج القائد والتجربة في الحالتين؟ لستُ من المطلعين على ما يجري وراء الكواليس، لكني من الخارج أستطيع أن أدّعي أن الأمر ليس مصادفة، وأن الاستدعاء ليس بريئاً، كما يبدو في ظاهره، أعني أن الحفاوة السياسية والإعلامية ليست اعتزازاً بالزعيم الراحل ولا هي لوجه الله، ولكنها من قبيل الدفاع عن الذات في ظروف الأزمة الراهنة من خلال شحذ الذاكرة والتقليب في الأوراق القديمة. إذ في غمار التهويل من خطر المؤامرات الخارجية التي تدبَّر، والتنديد بحصار مصر وممارسة الضغط عليها، فلا بأس من التلويح باستدعاء الحالة الناصرية، باعتبارها ذريعة تدفع القوى الخارجية إلى تحدّي النظام المصري والسعي لإسقاطه.لا ينتبه الذين يديرون هذه اللعبة أنهم يسحبون من رصيد عبد الناصر بما يفعلون. إذ يشوّهون إيجابياته في أذهان الأجيال الجديدة التي قد تحمّله بما يحدث في مصر الآن، بما في ذلك العلاقة مع إسرائيل التي أصبحت صورتها مشوشة في أذهان تلك الأجيال، حيث لم تعد تعرف مَن عدو مصر ومَن صديقها.ليس لي أن أقترح على أولي الأمر ما الذي ينبغي أن يفعلوه لمواجهة ضغوط المرحلة وتحدياتها، لكن غاية ما أرجوه في الوقت الراهن أن يرفعوا أيديهم عن عبد الناصر بحيث لا يقحمونه في ما يجري، لأن استحضاره يسيء إليه فضلاً عن أنه لن يفيد النظام القائم في شيء.