الأزمة الخليجية وترتيبات النظام الإقليمي
لقد شهدت الأزمة تسابقاً بين مسارين أولهما مسار تصعيدها من جانب الدول الأربع: السعودية والإمارات والبحرين ومصر وتكثيف الضغوط على قطر كي تستجيب للمطالب، وثانيهما مسار الحوار والتهدئة الذي تقوده الكويت مع سلطنة عمان مدعومتين من الولايات المتحدة، صاحبة المواقف الملتبسة «الناقدة لقطر ودعمها وتمويلها للإرهاب» والحريصة على عدم انفراط عقد النظام الخليجي، إلى جانب الدعم الأوروبي والروسي. هذان المساران كشفا بعض معالم التفاعلات على المستويات الثلاثة: الخليجي والعربي والإقليمي.
على ما يبدو، حتى الآن، أن ما أخذ يُعرف في الأسابيع الثلاث الأخيرة باسم «الأزمة الخليجية» المتفجرة بين ثلاث دول خليجية (السعودية والإمارات والبحرين) إضافة إلى مصر مع قطر، والتي مازالت ممتدة، ليست أزمة عارضة، بل هي أزمة لها جذورها وتعكس خلافات عميقة في إدارة السياسات والتحالفات بين قطر وكل من هذه الدول الأربع.
وبقدر ما ستؤثر الأزمة على مجلس التعاون الخليجي ستؤثر أيضاً على النظام العربي وجامعة الدول العربية التي اختارت موقف «النأي بالنفس»، وهذا الموقف ستكون له حتماً عواقبه وتداعياته، التي ستتكشف على ضوء ما سوف تنتهي إليه الأزمة، كما أن الأزمة ستؤثر أيضاً على النظام الإقليمي الأوسع أي النظام الشرق أوسطي من منظور أدوار وتحالفات القوى الإقليمية الثلاث الكبرى: إسرائيل وإيران وتركيا، إضافة إلى قوة رابعة جديدة أدخلتها الأزمة وصراعات أطرافها فى معترك تفاعلات النظام الإقليمي وهي إثيوبيا. كيف ستؤثر الأزمة على العلاقات بين هذه القوى الكبرى الأربع من ناحية، وعلى علاقاتها مع النظام العربي وقواه الفاعلة وبالذات مصر والسعودية؟
أسئلة شديدة الأهمية في حاجة إلى متابعة دقيقة وتحليلات علمية متجردة من الأهواء والإملاءات أو المجاملات، فالموقف شديد الخطورة، وربما تكون مواقف الأطراف الإقليمية بالذات من أهم المداخل التحليلية للكشف عن بعض ملامح مستقبل أنماط العلاقات والتحالفات الجديدة التي ستفرضها الأزمة الخليجية بعد انتهائها، إضافة إلى أنماط تطور الأزمة ومسارات الحل المتنافسة، سوف تكون لها كلها في المستقبل تأثيرات مهمة على النتائج المحتملة.
إذا تتبعنا معالم تطور الأزمة سنجد أنها تميزت بسرعة تطور وتلاحق الأحداث من جانب الدول الأربع نحو قطر، وكأنها كانت معدّة سلفاً، الأمر الذي وضع قطر وحلفاءها في حالة «الصدمة» و«المباغتة» مما فرض قيوداً على التحركات القطرية خاصة إجراءات المقاطعة الجوية والبحرية والبرية ضدها، لكنها سرعان ما استوعبت الصدمة، وبدأت بانتهاج سياسات مضادة، أبرزها محاولة تدويل الأزمة، والإعلاء من شأن «المظلومية» والأبعاد الإنسانية للمقاطعة، وحققت من هذه السياسات دعماً ملحوظاً خاصة من جانب الدول الأوروبية وروسيا، ناهيك عن الحرص الإيراني والتركي على اقتناص الفرص.
لقد شهدت الأزمة تسابقاً بين مسارين أولهما مسار تصعيدها من جانب الدول الأربع: السعودية والإمارات والبحرين ومصر وتكثيف الضغوط على قطر كي تستجيب للمطالب، وثانيهما مسار الحوار والتهدئة الذي تقوده الكويت مع سلطنة عمان مدعومتين من الولايات المتحدة، صاحبة المواقف الملتبسة «الناقدة لقطر ودعمها وتمويلها للإرهاب» والحريصة على عدم انفراط عقد النظام الخليجي، إلى جانب الدعم الأوروبي والروسي.
هذان المساران كشفا بعض معالم التفاعلات على المستويات الثلاثة: الخليجي والعربي والإقليمي.
فعلى المستوى الخليجى كشفت الأزمة وتفاعلات أطرافها أن انكساراً حقيقياً قد حدث فى العلاقات السعودية- القطرية بالأساس، وأن مجلس التعاون بات منقسماً إلى أطراف متعددة: السعودية والإمارات والبحرين في جهة، وقطر في جهة ثانية، وكل من الكويت وعمان في جهة ثالثة. أما على المستوى العربي فقد تبدى للجميع مدى هشاشة وضعف الموقف العربي من الأزمة وفي مقدمته جامعة الدول العربية، إلى جانب تفاعلات ضعيفة بين الحياد وبين التعاطف مع قطر والتحفظ على محاصرتها: المغرب، تونس، الجزائر، أما العراق والأردن فكانت مواقفهما أشد وضوحاً نسبياً، فالعراق رافض لحصار قطر، والأردن متردد بين الانحياز للدول الأربع والحرص على امتلاك ورقة التدخل مستقبلاً لرأب الصدع بين الطرفين. على العكس من ذلك كانت القوى الإقليمية هي الأحرص على التفاعل، فإذا كانت إثيوبيا قد وجدت أن طرفي الأزمة كانا حريصين على أن تدلي بدلوها فى تفاعلاتها فإنها حرصت على التزام موقف الحياد والدعوة للحوار والحل السلمي للأزمة. لكن القوى الثلاث الأخرى: إيران وتركيا وإسرائيل هي من تفاعل بمنهجية واضحة تكشف مدى التزام كل منها بمشروعها السياسي فى الإقليم ومدى حرصها على الاستفادة من الأزمة لفرض نفسها اللاعب الأهم فى إدارة شؤون المنطقة.
التنافس التقليدي بين هذه القوى الثلاث فرض نفسه بوضوح شديد على تفاعلاتها مع الأزمة. تركيا كانت في الموقف الأضعف لأنها كانت مضطرة لاختيار صعب لا فكاك منه بين حليفين: السعودية والإمارات من ناحية وقطر من ناحية أخرى. لكن وجود التزامات وتحالفات أمنية مشتركة مع قطر خاصة ارتباطهما المشترك بجماعة الإخوان و«حركة حماس» اللتين استُهدفتا من قمم الرياض التي حضرها الرئيس الأميركي، جعل تركيا تختار الانحياز إلى «حماس» وأن تتجاوب مع ما تمليه اتفاقية الدفاع المشترك من التزامات مع حرص على عدم خسارة السعودية والإمارات من خلال إطلاق دعوات القيام بتحركات محورها الدعوة للحوار بين الأطراف المتنازعة.
على العكس تماماً كان الموقف الإيراني. فإيران قبل الأزمة كانت مستبعدة ومستهدفة، وبالأزمة وجدت في قطر حليفاً محتملاً يمكن توظيفه لاختراق السياج الخليجي ومن هنا كان اندفاعها لدعم قطر وتحميل الرئيس الأميركي مسؤولية الأزمة، التي رأت فيها فرصة للنيل من المملكة العربية السعودية، خصوصاً أن هذه الأزمة تزامنت مع العملية الإرهابية التي وقعت في العمق الإيراني واستهدفت مرقد الإمام الخميني ومعه مجلس الشورى وكان التركيز الإيراني على السعودية وتحميلها جانباً من مسؤولية هذه العملية.
على الجانب الآخر كانت إسرائيل تتابع عن كثب كل ما يحدث وهي على يقين أن المكاسب ستكون حتماً لمصلحتها ولمصلحة مشروعها الأهم الذي يستهدف إحداث انقلاب جذري في مسار التفاعلات الإقليمية على النحو الذي تأمله بتأسيس «التحالف الإقليمي» للحرب على الإرهاب الذى يعني بالنسبة لها كل الأطراف المعادية للمشروع الإسرائيلي وبالتحديد: إيران و«حزب الله» وحركة «حماس»، وهذا يستلزم المزيد من التحليل والمتابعة.