تركيا تخطط لإنشاء «بعشيقة سورية»

تتسارع الخطوات التركية لتحويل «درع الفرات» من عملية يفترض أنها لمحاربة الإرهاب إلى احتلال فعلي للأراضي السورية، وفق سيناريو مشابه لـ «معسكر بعشيقة» في العراق.

مقاتلون من "فيلق الشام" خلال تدريبات قرب الرستن شمال مدينة حمص
يأتي هذا في وقت صعّدت فيه الآلة الإعلامية المقربة من الرئاسة التركية والحزب الحاكم في أنقرة من حملتها المسعورة بهدف إسقاط مدينة حلب ووضع ذلك في إطار التفاهم الروسي ـ التركي. فيما تتخذ التطورات في محيط مدينة الباب منحى تصاعدياً بات يهدد بحدوث سيناريوهات كارثية ما لم يجر تطويق الأزمة وإيجاد حل لها، كما حدث سابقاً مع استعصاء إعزاز.

وبعد رصد تحركات مشبوهة لبعض وحدات الجيش التركي في قرى واقعة بالقرب من الحدود السورية ـ التركية في ريف حلب الشمالي، تم التأكد من أن هناك مخططاً تركياً لإقامة منشأة عسكرية لم تعرف طبيعتها وغايتها حتى الآن، وفق ما قاله لـ «السفير» مصدر أمني.وفي التفاصيل أن قرية الزيارة، والمقصود بها القرية الواقعة جنوب بلدة الراعي الحدودية وليس تلك التي تحمل الاسم نفسه وتقع بالقرب من عفرين، شهدت خلال الأسابيع الماضية تحركات غريبة من قبل بعض وحدات الجيش التركي. وعند الرصد والتدقيق تبين أن الهدف من هذه التحركات هو إنشاء قاعدة عسكرية لم تعرف طبيعتها بعد، ولكن من المتوقع أن تكون إما مطاراً عسكرياً وإما معسكراً يقيم فيه الجيش التركي، بذريعة تدريب عناصر تنضم لاحقاً إلى قوات عملية «درع الفرات» التي يقودها الجيش التركي مباشرةً.
وتكتسي هذه الخطوة التركية خطورة كبيرة لاعتبارات عدة، أهمها أنها تذكِّر بـ «معسكر بعشيقة» في العراق وكيف استغلته السلطات التركية أسوأ استغلال، ليس بهدف التدخل في الشؤون العراقية وحسب، بل بهدف المطالبة بحصتها التاريخية من بعض أراضي العراق مثل الموصل وكركوك، وهو ما تحدث عنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من دون أية مواربة مؤخراً.
كما أن إقامة منشأة عسكرية ثابتة للجيش التركي فوق الأراضي السورية، يرفع عن عملية «درع الفرات» غطاء محاربة الارهاب، ويمنحها رسمياً صفة الاحتلال، خاصة أن هذه الخطوة تتم من دون رضا السلطات الشرعية في دمشق. ولكن الأخطر بالنسبة لسوريا، هو أن هذه الخطوة تأتي في ظل أحاديث إعلامية شبه مؤكدة بخصوص قيام الرئيس التركي بإجراء تعديل على «الكتاب الأحمر» الذي يتضمن الأسرار الاستراتيجية للدولة التركية ومنظومة أمنها القومي.
وبموجب هذا التعديل، حُدد خطان للدفاع عن تركيا، الخط الأول من الصومال إلى قطر، والثاني من أفغانستان إلى الموصل فالرقة فحلب، وهذا ما يؤكد أن الأطماع التركية في قسم من الأراضي السورية لم تعد مجرد «أضغاث أحلام عثمانية» بل إن هناك مخططاً عملياً يجري تنفيذه خطوة خطوة.

وقد يكون أحد المؤشرات المهمة على جدية الأطماع التركية وخروجها من إطار النظرية إلى إطار التطبيق العملي، ذلك الاستنفار الذي تعيشه وسائل الإعلام المقربة من السلطات الحاكمة في أنقرة على خلفية تصاعد المعارك في مدينة حلب، حيث تشن هذه الوسائل ومنها صحيفتا «يني شفق» و «يني أقيت» المقربتان من «حزب العدالة والتنمية» الحاكم ومن الرئيس أردوغان، حملة إعلامية شعواء بهدف إسقاط مدينة حلب وإظهار ذلك أنه يأتي في إطار التفاهم الروسي ـ التركي.«يني أقيت» عنونت قبل يومين على صفحتها الأولى بـ «قادمون يا حلب انتظري»، فيما نشرت «يني شفق» ما قالت إنه معلومات خاصة من مصدر أمني تركي حول تفاصيل التفاهم الروسي ـ التركي، مشيرة إلى أنه يشمل الاتفاق على دخول الجيش التركي إلى مركز مدينة حلب، وانسحاب الجيش السوري إلى المنطقة الساحلية.
وبالرغم من أن هاتين الصحيفتين والعديد من وسائل الإعلام المقربة من أردوغان ما فتئت تنشر طوال الأعوام السابقة أنباء مضللة حول الأوضاع في سوريا، إلا أن ترديدها لصدى المعارك في حلب مع التذرع بالتفاهم مع روسيا، الذي لا تزال العديد من مضامينه غير معروفة، يؤكد أن ما تنشره هذه الصحف إنما يعكس رغبة الرئيس التركي وحزبه الحاكم، ولا شك في أن هذه الرغبة تأتي في سياق تحقيق الأطماع التركية ووضع التعديلات على «الكتاب الأحمر» موضع التنفيذ. ومن الجدير بالذكر أن جميع الدول التي وردت في الكتاب كخطوط دفاع عن تركيا أصبح للأخيرة قواعد عسكرية فيها.
كما أن هذه الحملة الإعلامية المواكبة للمعارك في حلب، والتي تضمنت في ما تضمنته إجراء مقابلة صحافية مع قاضي عام «جيش الفتح» السعودي عبدالله المحيسني، وقد صوّب من خلالها السهام على الدور الايراني في سوريا، وهو أمر من شأنه إثبات صحة ما ذكرته «السفير»، أمس، من أن «غزوة حلب» لم تنطلق إلا بعد حصولها على مباركة تركية.
على خلفية ما تقدم، يمكن فهم حالة «الاستعصاء» الميداني الحادّ الذي دخلت فيه التطورات العسكرية الجارية في محيط مدينة الباب، فالباب لم تعد مجرد بلدة أخرى يجري تطهيرها من تنظيم «داعش» عبر هذه القوة أو تلك، بل تحولت إلى قضية رمزية مفادها إما القبول بالاحتلال التركي أو رفضه ومقاومته.
ويبدو أن هذا الاستعصاء شكّل مفتاحاً لتنظيم «داعش» لترتيب انسحابات مبرمجة من المناطق التي يسيطر عليها في محيط الباب من دون أن يشعر بأي إحراج، لأنه سيتذرع بـ «عبقرية قادته» الذين يرمون عبر هذه الانسحابات إلى ضرب خصوم التنظيم بعضهم ببعض.
وبعد لغط ساد خلال الأيام الماضية حول مصير مدرسة المشاة العسكرية وعدد من القرى المحيطة بها، ومدى صحة انسحاب «داعش» منها، ومن هي الجهة التي سيطرت عليها، تبين أن التنظيم قام بالفعل قبل حوالي أسبوع بنقل عتاده الثقيل من هذه المناطق باتجاه غرب الباب، تاركاً بعض العناصر لتأمين الانسحابات، ما شكّل فرصة ذهبية أمام الجيش السوري وأمام «قوات سوريا الديموقراطية» للانقضاض على هذه المناطق والسيطرة عليها.
وفيما ذكرت بعض المصادر الإعلامية أن الجيش السوري سيطر على مدرسة المشاة وحقل الرامي، وهو ما لم يتسن التأكد من صحته حتى الآن، فقد سيطر «جيش الثوار» التابع لـ «قسد» على قرى «الوحشية، ومزرعتها ـ قرية كفر قارص ـ قرية تل سوسيان ـ قرية معراتة مسلمية ـ مزرعة فافين ـ مزرعة تل سوسيان ـ نقطة محطة القطار ـ نقطة معمل الإسمنت بالقرب من مزراع فافين»، وامس، ذكر «جيش الثوار» أنه استكمل العملية وسيطر على «حاسين وتل حاسين وحليصة»، ناشراً صوراً تؤكد هذه السيطرة، وهو ما يعني أنه أصبح على مسافة تقل عن ثمانية كيلومترات من مدينة الباب.
ووفق مصدر ميداني، فإن الجيش السوري كان يستطيع بسهولة التقدم إلى كل المناطق التي انسحب منها التنظيم وضمها إلى سيطرته، لكنه ترك لقوات «قسد» أن تتصدى لهذه المهمة.
وقد يكون سبب ذلك أن تقدم الجيش السوري، خصوصاً نحو حليصة، كان سيجعله وجهاً لوجه مع الجيش التركي، الذي يقود «ردع الفرات»، وبالتالي قد يتسبب ذلك باستعجال تفجير الأزمة والانزلاق نحو حرب إقليمية، وسيُتّهم الجيش السوري عندها بأنه هو الذي سعى إلى هذا التفجير بسبب تقدمه نحو مناطق سيطرة «درع الفرات» وتحرشه بها.
ولكن قد يكون هناك سبب آخر، وهو المرجح، وهو أن الجيش السوري أراد إرسال رسالة واضحة إلى تركيا مفادها أن تجاوزها للخطوط الحمراء والتقدم نحو مدينة الباب سيصار إلى الرد عليه، بالإضافة إلى التهديدات العسكرية التي أطلقها الجيش في وقت سابق، من خلال إفساح المجال أمام قوات «قسد» لوصل كانتون عفرين مع كانتونات الادارة الذاتية الأخرى، عبر المرور بقرى ريف الباب الجنوبي. وقد يقوم الجيش بتصعيد ردوده ورسائله على ضوء الانخراط التركي الأخير في معركة حلب ودعمها إعلامياً على الأقل.
ولا شك بأن هذا السيناريو لا يقل خطورة عن سيناريو التماس بين الجيشين، ولكن في السيناريو الثاني ستكون خيارات تركيا محدودة جداً، خصوصاً أنها أدركت من تجربة تل رفعت أنه من غير المسموح لها المساس بـ «قوات سوريا الديموقراطية»، التي تعتبر الحليف البري الأبرز للجيش الأميركي في معاركه ضد «داعش»، وهي القوة الوحيدة التي حسمت واشنطن أمر مشاركتها في معركة الرقة المرتقبة.
أما أخطر ما يمكن أن يحدث فهو إقدام الجيش التركي على تجاهل التهديدات السورية، فيعمد عندها إلى إكمال مغامرته نحو مدينة الباب ضارباً عرض الحائط بمصالح جميع الأطراف الأخرى، بما فيها الطرف الروسي الذي لم يقل كلمته حول الموضوع إلى الآن.
وعليه، فإن جميع السيناريوهات التي تتزاحم في أجواء مدينة الباب تنذر بشرّ مستطير لن يقتصر ضرره على المدينة وحدها، بل سيشمل محافظة حلب بأسرها، خصوصاً في ظل الارتباط الواضح بين تطورات حلب وتطورات الباب، هذا إذا لم يتوسع أكثر من ذلك وتكون له ارتدادات إقليمية إذا خرجت الأمور عن السيطرة.