ملاحظات على هامش اللحظة الدولية الراهنة
من أبرز التحولات أو التطورات الأخيرة في المرحلة المعاصرة، التي تعكس الإرهاصات الأولى أو الأساسية للحظة السياسية والتاريخية الراهنة، الاتجاه أو التحول إلى اليمين، ومنه اليمين المتطرف، في أرجاء وأنحاء الغرب كافة، في أوروبا كما في أميركا.
من أبرز التحولات أو التطورات الأخيرة في المرحلة المعاصرة، التي تعكس الإرهاصات الأولى أو الأساسية للحظة السياسية والتاريخية الراهنة، الاتجاه أو التحول إلى اليمين، ومنه اليمين المتطرف، في أرجاء وأنحاء الغرب كافة، في أوروبا كما في أميركا. هذا المعطى المستجد في أكثر من مكان، وفي أكثر من ميدان أو ساحة سياسية، إنما يدل على تعثر أو حتى فشل تجربة الأوروبيين والأميركيين السياسية في التنمية المستدامة والديموقراطية، طوال السنوات المنصرمة من حقبة ما بعد الحداثة السياسية وزمن العولمة النيوليبرالية، وفي مرحلة ما أمسى يُعرف بثورات الربيع العربي وبعض الصحوة الإسلامية، أو لنقل صراحة الردة أو الرجعية الإسلامية. فصعود اليمين، وليس اليمين التقليدي فحسب، بل اليمين المتطرف أو الراديكالي أيضاً، وكذلك فوزه وانتصاره حتى في العملية الانتخابية، كما في الولايات المتحدة الأميركية أو ربما فرنسا وأوروبا، كخيار سياسي يعبّر عن نفسه ويلقى تأييد الناس أو استحسانهم، المواطنين والناخبين الأميركيين والأوروبيين، يفرض نفسه ويلقي بثقله على السياسة الدولية المعاصرة. هذه العودة الوازنة أو الحاسمة لليمين، أو بالأحرى اليمينين التقليدي وخاصة المتطرف، إلى حلبة الصراع أو التنافس السياسي في الأنظمة الديموقراطية للدول الغربية، ورجحانه في ميزان العملية السياسية واللعبة الداخلية والاستراتيجية الدولية قد يعكسان تبدلاً في المزاج السياسي للرأي العام الغربي، الأوروبي والأميركي، وقد يعبران عن موقف سياسي للمكلفين والناشطين أو الفاعلين السياسيين والمقترعين العاديين في أوروبا وأميركا؛ ولكنهما يكشفان كذلك صعود التيارات الشعبوية القومية، والتي بدأت تضرب أو تكسر الفكرة الكونية لمصلحة النزعة القومية، وربما العصبيات الفئوية، الدينية أو العرقية، بذريعة وربما بحجة الدفاع عن المصلحة القومية أو الوطنية العليا.
هذا التحول نحو اليمين، كخيار سياسي في العديد من أصقاع الغرب وبلدانه للمرحلة الحالية من تاريخه السياسي الحديث والمعاصر، قد يكون، في مكان ما، إضافة إلى كونه ربما نتيجة أو حصيلة الفشل أو التعثر في العملية أو الحياة السياسية وفي الخيارات الاستراتيجية، وليس التكتيكية، على خلفية ظهور وانتشار بل تفشي الأصولية أو الراديكالية الإسلامية في الفكر السياسي، كما في الممارسة، وكذلك في التشكيل أو التنظيم السياسي. وإن كانت الأصولية تختلف عن الراديكالية، إن من زاوية اللغة، أو حتى على صعيد الفكر السياسي، إلا أنهما تتفقان أو تلتقيان في توصيف نفس الحالة العامة، السياسية والثقافية والاجتماعية، التي نرصدها ونقصدها. لقد اجتاحت هذه التيارات السياسية والفكرية الأصولية والراديكالية، وكذلك المنظمات أو المجموعات المنظمة، السياسية والأمنية والعسكرية التي تجسدها، العديد من الأقطار العربية والإسلامية، وكذلك البلدان الغربية. بل هي تسربت إلى داخل مختلف المجتمعات الحديثة والدول الأجنبية، وقد شوهت وضربت الصورة الحقيقية لما يُصطلح على تسميته بنظرية الإسلام السياسي، ونظرته إلى الدولة والسياسة، ورؤيته في مسألة الحكم والسلطة، كما أجهزت على مشروعه الحديث والمعاصر وفكرة أو مقولة الحداثة على الطريقة الإسلامية. لقد أصبحت الأفكار أو الطروحات الأصولية والراديكالية الإسلامية مادة دسمة للخوض والتحليل السياسيين، وذلك في الجامعات ومراكز الأبحاث ومعاهد الدراسات، ولدى دوائر القرار وفي الصالونات السياسية، كما بين النخب الفكرية والمثقفة، حيث إنها تمخضت أو انبثقت من مدرسة أيديولوجية أو فكرية، لها جذورها وامتداداتها التاريخية ومشاربها وأصولها ومصادرها ومبانيها الفكرية والسياسية والمادية، ولكنها تجسيد أو تظهير لاتجاه سياسي وتاريخي وفكري معين، وهو تكفيري وتخريبي وتدميري وإرهابي وإجرامي، إلا أنها تطرح الأسئلة من جديد حول حقيقة انقراض زمن الصراع الفكري والأيديولوجي وحتمية الدخول في طور أو حقبة الصراع المكشوف والمعلن على المصالح أو المكاسب، وتعيد إحياء أو إذكاء النقاش حول هذه الإشكالية والخوض في هذه المسألة.
كانت لظاهرة تصاعد بل تفاقم الأصولية الإسلامية، مترتبات أو تبعات بالغة الأهمية والخطورة على المدى القريب، كما على المدى البعيد والاستراتيجي، إذ أدى انتشارها الكبير والخطير، وقد أصبحت هذه الظاهرة حالة مستشرية ومستفحلة، إلى تصدع وتفكك البنى والمؤسسات والأنظمة في البلدان العربية والإسلامية، وربما تحلل أسس وبنى بعض هذه الدول، وكذلك تدمير الدول نفسها بالكامل، وتدمير اقتصاداتها وجيوشها وقواتها المسلحة، بمعنى تدمير قدراتها الاقتصادية والعسكرية واستنزاف إمكاناتها المادية واللوجستية. وقد عمدت هذه التيارات أو هذه الحركات لضرب الطروحات أو المدارس السياسية الأخرى، الوطنية والقومية العربية والليبرالية والاشتراكية واليسارية والتقدمية، وإسقاطها، بدل نقدها ومنافستها، أو الدفع باتجاه مراجعتها أو تصويب خطابها وسلوكها السياسيين. وهي تمكنت من ذلك، ربما لأسباب عديدة، ومنها الظروف أو العوامل الموضوعية، ما أدى إلى الانهيار السريع والدراماتيكي لتلك الطروحات السياسية والفكرية أو الخيارات الأيديولوجية التي تمثلها. والأخطر والأسوأ من كل ذلك أن هذه الأفكار أو هذه المذاهب الفكرية، الأصولية والراديكالية، والتنظيمات أو حتى المجموعات المسلحة التي تتبعها أو تلتزمها، تمكنت أيضاً من تفتيت الهوية أو الثقافة الوطنية، وبالتالي إشاعة حالة من الفوضى، بعد التخريب والتدمير، وكذلك الضياع والاضطراب في إدراك وتعريف الهوية أو الشخصية الوطنية، فهي ليست مجرد مدارس أو اتجاهات فكرية وأيديولوجية فحسب، بل أبعد وأكثر من ذلك، ذلك أنها من صنع وتدبير بعض الأجهزة الأمنية والمخابراتية أو الاستخبارية الغربية والعربية، الأمر الذي يجعل فرضية المؤامرة صحيحة إلى حد ما، كما فرضيات العجز أو الفشل أو التقصير.
يبقى أن نشير، لدى مقاربة هذه المسألة الاستراتيجية من زاوية الجيوپوليتيك المعاصرة، ومن ثم محاولة استشراف أبعادها الجيوسياسية في المستقبل، سواء في المدى المنظور أو غير المرئي والبعيد، إلى أن الإرهاصات أو المؤشرات الجدية لفرضية انتقال وتفشي هذه الأفكار أو التيارات الفكرية المعسكرة وهذه المجموعات أو المنظمات العقيدية المسلحة، أينما كان وحيثما كان، أخذت تتكاثر وتتكثف طوال السنوات القليلة الماضية، وبخاصة في الفترة الأخيرة، ولا سيما في داخل البلدان أو الدول الغربية، الأوروبية والأميركية. فليس بإمكان أحد، أي أحد، في خضم العولمة، وفي ظل نظامها العالمي المعاصر، منع حركة انتقال الأفراد والمجموعات وضبطها بالكامل، أو التحكم بها وإخضاعها، وكذلك، ومن باب أولى، فإنه ليس بإمكان أحد، أي أحد، الحد من انسياب الأفكار والاتجاهات الفكرية عبر الحدود وبين البلدان وداخل المجتمعات؛ وهنا تكمن خطورة مثل هذا الفكر السياسي، أو بالأحرى هذا النمط من التفكير السياسي بطريقة جذرية، متطرفة ومتشددة ومتعصبة، والذي يغلب عليه، بطبيعة الحال، الطابع أو المظهر الإسلامي. هكذا بدأت حالة الفوضى والهستيريا تنتقل إلى داخل المجتمعات الغربية، وتهدد الدول أو الأنظمة السياسية والاجتماعية الغربية. وما الحوادث الأمنية والأعمال الإرهابية في الغرب سوى دليل قاطع على ذلك، فقد تغلغلت هذه التيارات وهذه التنظيمات في أوروبا وأميركا. بل إن بعض هذه العناصر أو المجموعات هو، في الأساس وفي الأصل، موجود ومقيم في الأوساط الشعبية، الفقيرة والبائسة والمهمشة، للمسلمين والعرب هناك، وقد قدم أو استقدم من حيث هو في الغرب إلى بعض الأماكن الساخنة أو البؤر المتفجرة في الشرق، أو لنقل المشرق. على كل حال، يبدو أن وطأة هذه الظاهرة الخطيرة، وربما المعدية، بالنظر إلى وتيرة ورقعة انتشارها على خريطة الجغرافيا السياسية للعالم المعاصر، والعالم الغربي بالطبع، في إشارة إلى صعود وتصاعد أنشطة الإسلاميين الأصوليين أو الراديكاليين، أو حتى التكفيريين، تشتد وتتزايد باطراد، وتفرض نفسها بشدة وبقوة على أجندات وجداول أعمال الحكومات والنخب السياسية والفكرية ودوائر القرار ومواقع النفوذ وجماعات الضغط والمصالح في أوروبا وأميركا، ولكل حساباته. ولكن تنامي التعصب والتطرف والحقد والكراهية، كما الرهاب الإسلامي أو الإسلاموفوبيا، وبصورة مشتركة، من الإسلام، وليس الإسلام السياسي وحده، أمسى حالة عامة، شائعة ورائجة بين الناس ولدى الرأي العام.
من أبرز المفارقات التي يمكن أن نسجلها وأن نقف عندها، لدى مشاهدة أحداث ومستجدات اللحظة الراهنة من التاريخ أو الزمن السياسي ومحاولة تفسير وإدراك ما يحصل في الحاضر وما يمكن أن يتبع في المستقبل، أننا، في هذه اللحظة السياسية والتاريخية، وفي الوقت نفسه الذي يتجه فيه الكون السياسي كله، الشرق والغرب، كما الشمال والجنوب، نحو المزيد من الانفتاح والتحرير في التجارة والاقتصاد والمال والأسواق والحدود والدول والقوميات، تحت تأثير العولمة النيوليبرالية وفي زمن ما بعد الحداثة، نجد أن الخطاب والسلوك السياسيين، وبالتالي السياسة الدولية والفكر السياسي، تتجه كلها، وذلك في اتجاه مغاير بل معاكس للتيار ومسار الأمور، نحو المزيد من التعصب والتطرف والتمسك بل التشبث بالعصبيات الفئوية، الأولية وربما البدائية والرجعية التي قد سبقت الفكرة الوطنية أو القومية، وكذلك الفكرة الدستورية، للدولة والسيادة والحداثة، ومن بعدها، بطبيعة الحال، الديموقراطية والحكم الرشيد!