"واشنطن بوست": "إسرائيل" تهدم شمالي غزة وتعزز مواقعها العسكرية
تظهر التحليلات البصرية والمقابلات كيف أُجبر الفلسطينيون على ترك منازلهم في الشمال بينما يقطع "الجيش" الإسرائيلي ممراً جديداً عبر غزة.
صحيفة "واشنطن بوست" تنشر تحقيقاً مطولاً عن العدوان الإسرائيلي على شمالي غزّة، وحملة التدمير والهدم والتهجير القسري الممنهجة، مع ما يتوافق مع "خطة الجنرالات". واستندت الصحيفة، في تحقيقها، إلى بيانات وصور من الأقمار الاصطناعية والمقابلات.
أدناه نص التحقيق منقولاً إلى العربية بتصرف:
تنفذ "إسرائيل" عمليات هدم واسعة النطاق وإقامة تحصينات عسكرية في المناطق السكنية في شمالي غزة، حيث أُجبر عشرات الآلاف من الفلسطينيين على الفرار من منازلهم، وفقاً لصور الأقمار الاصطناعية ومقاطع الفيديو والمقابلات التي تم التحقق منها.
وقالت القوات الإسرائيلية إنها شنت هجوماً جوياً وبرياً في الـ5 من تشرين الأول/أكتوبر في أقصى أجزاء شمالي غزة؛ جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون.
تم تهجير أكثر من 100 ألف فلسطيني من المناطق المتضررة على مدى الأسابيع الـ 11 الماضية، وفقاً للأمم المتحدة، على نحو أدى إلى بقاء ما يقدر بنحو 30-50 ألف شخص في المنطقة، وهو ما يعادل أقل من ثُمن سكان ما قبل الحرب. وتقول المنظمات الإنسانية إنّ المساعدات لم تصل إلى المنطقة منذ بداية تشرين الأول/أكتوبر بسبب القيود الإسرائيلية.
وبينما يتم إخلاء المناطق من الفلسطينيين، قامت القوات الإسرائيلية بهدم أحياء بأكملها، وإقامة تحصينات عسكرية وبناء طرق جديدة، وفقاً لتحليل صحيفة "واشنطن بوست" لصور الأقمار الاصطناعية عالية الدقة. وتُظهر الأدلة المرئية أنّ ما يقرب من نصف مخيم جباليا للاجئين تم هدمه أو تطهيره بين الـ14 من تشرين الأول/أكتوبر والـ15 من كانون الأول/ديسمبر، الأمر الذي يربط طريقاً قائماً في الغرب بمسار مركبات موسع في الشرق، ويؤدي إلى إنشاء محور عسكري يمتد من البحر إلى سياج الحدود مع "إسرائيل".
ويقول المحللون إنّ إنشاء هذا الممر، وتطهير مساحات من الأرض على جانبيه، وبناء مواقع استيطانية محمية على شكل مربع، أمرٌ يشبه تحويل "الجيش" الإسرائيلي لممر نتساريم إلى منطقة عسكرية إسرائيلية استراتيجية في وسط غزة. وفي حين تشق القوات الإسرائيلية ممر نتساريم عبر منطقة زراعية قليلة السكان، إلى حد كبير، فإنّ عمليات "إسرائيل" في الشمال تتركز في الأحياء الحضرية الكثيفة، الأمر الذي يؤدي فعلياً إلى تدمير المدن الفلسطينية الشمالية.
وفي حين لم يقدّم "الجيش" أي تفسير علني لأنشطته في التطهير والتحصين في الشمال، قال محللون إنّ المحور، الذي تم إنشاؤه حديثاً، يمكن أن يفصل أقصى الشمال عن مدينة غزة، الأمر الذي يسمح لـ "إسرائيل" بإنشاء منطقة عازلة لعزل مجتمعاتها التي تعرضت للهجوم في الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر 2023.
وحتى الأول من كانون الأول/ديسمبر، دمّر ثلث جميع المباني في محافظة شمالي غزة منذ بداية الحرب، بما في ذلك أكثر من 5000 مبنىً في جباليا، وأكثر من 3000 مبنىً في بيت لاهيا، وأكثر من 2000 مبنىً في بيت حانون، وفقاً لأحدث البيانات من مركز الأقمار الاصطناعية التابع للأمم المتحدة. وأظهرت البيانات أنّ 60% من الدمار في مخيم جباليا للاجئين وقع بين الـ6 من أيلول/سبتمبر والأول من كانون الأول/ديسمبر، وأن عمليات الهدم والتهجير استمرت في الأسابيع التي تلت ذلك.
وتُظهر صورة التقطتها الأقمار الاصطناعية في الـ15 من كانون الأول/ديسمبر دماراً واسع النطاق في بيت لاهيا وجباليا، حيث تحوّلت السوق والمسجد والمحال التجارية والمنازل إلى أكوام من الخرسانة والغبار. وفي الـ4 من كانون الأول/ديسمبر، أجبر "الجيش" الإسرائيلي 5500 شخص كانوا يحتمون في المدارس في بيت لاهيا على الفرار جنوباً إلى مدينة غزة، وفقاً لمكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية.
وفي وقت سابق من هذا الشهر، قال وزير الأمن الإسرائيلي السابق، موشيه يعلون، لوسائل الإعلام المحلية، في سلسلة من المقابلات، إنّ "الجيش الإسرائيلي كان ينفذ تطهيراً عرقياً في شمالي غزة". وأضاف أنّ "بيت لاهيا لم تعد موجودة، وبيت حانون لم تعد موجودة، والآن يعملون على جباليا".
وفي مقابلات أجريت، عبر الهاتف والرسائل النصية، على مدى عدة أسابيع، وصف عشرة من سكان شمالي غزة لصحيفة "ذا واشنطن بوست" الاستهداف واسع النطاق للأحياء المدنية من جانب القوات الإسرائيلية، وعمليات الإجلاء الجماعي الخطيرة، بحيث تم فصل الرجال والفتيان المراهقين عن النساء والأطفال، فضلاً عن إساءة المعاملة والاحتجاز لبعض الذين يحاولون الفرار بشكل تعسفي. وكانت رواياتهم متسقة مع الصور ومقاطع الفيديو، التي تحققت منها الصحيفة، لعمليات الفحص الجماعي والاعتقالات، فضلاً عن الهجمات على المدنيين.
وقال سعيد كيلاني، 41 عاماً، أحد سكان بيت لاهيا: "في شمالي غزة، لم يتبق شيء يدعم الحياة. لقد تم تدمير كل شيء لإجبار الناس على الرحيل".
هروب يائس
وصف سكان شمالي غزة الأيام، التي أعقبت الخامس من تشرين الأول/أكتوبر 2024، بأنها "يوم القيامة". وقال محمد خضور، أحد سكان جباليا، والبالغ من العمر 30 عاماً، إنّ الغارات الجوية وطائرات القنص كانت بلا هوادة. وقال لصحيفة "واشنطن بوست"، عبر الهاتف: "كانت تلك الأيام هي الأصعب في الحرب".
نزح بالفعل نحو 1.9 مليون شخص، أي ما يعادل نحو 90% من سكان غزة، على مدى أكثر من عام من القتال، وأُجبِرت أغلبيتهم على النزوح إلى الجنوب، خلال الأيام الأولى الفوضوية من الحرب، ومُنعوا من العودة إلى ديارهم.
والآن، أصبح أولئك الذين نجوا من العنف والحرمان في المجتمعات الأقرب إلى الحدود الشمالية مع "إسرائيل" يتعرضون للطرد، بشكل منهجي، حياً تلو الآخر، في واحدة من أكبر عمليات النزوح الجماعي منذ بداية الصراع. وقال السكان لصحيفة "واشنطن بوست" إنّهم لم ينووا قط المغادرة، ولم يفروا إلا عندما شعروا باليقين من أنهم سيموتون أو يُقتلون في منازلهم.
وقال خضور إنّه كان يخشى أن يُطلَق عليه الرصاص إذا غامر بالخروج. لكن الشقة المتضررة، التي كان يقيم بها مع شقيقه موفق وابن أخيه البالغ من العمر عامين، لم توفر له سوى القليل من الحماية. وكان الثلاثة ينتقلون معاً منذ كانون الأول/ديسمبر 2023، عندما أدّت غارة على منزل العائلة إلى تمزيق ذراع موفق وقتل زوجته وابنته.
كانت هذه العملية الثالثة الكبرى للجيش الإسرائيلي في جباليا خلال الحرب، والتي بدأت في الـ7 من أكتوبر 2023. وقتل العدوان الإسرائيلي أكثر من 45000 فلسطيني، وجرح أكثر من 107000، وفقاً لوزارة الصحة في غزة، والتي لا تميز بين المدنيين والمقاتلين، لكنها تقول إنّ أغلبية القتلى من النساء والأطفال.
وفي الأسابيع الثلاثة الأولى من الهجوم الجديد، الذي شنّه الجيش الإسرائيلي في الشمال، قُتِل أكثر من ألف شخص، بحسب تقديرات وزارة الصحة، مضيفةً أنّ هذا ربما يكون تعداداً أقل من العدد الحقيقي، بحيث لا يزال عدد كبير من الجثث في الشوارع، أو مدفوناً تحت الأنقاض. وفي الـ23 من تشرين الأول/أكتوبر، قالت خدمة الدفاع المدني في غزة إنها لم تعد قادرة على العمل بأمان هناك، الأمر الذي ترك المنطقة بلا سيارات إسعاف أو عمال إنقاذ.
في الوقت نفسه، قال السكان إنّ منازل المدنيين والمباني السكنية كانت مستهدَفة بشكل متكرر من جانب القوات الإسرائيلية. وأظهرت الأدلة المرئية، التي تحققت منها صحيفة "ذا واشنطن بوست"، عواقب الضربات على الأشخاص الذين اصطفوا للحصول على المياه وعلى المدارس التي لجأت إليها الأسر النازحة.
ووفقاً لنرمين، البالغة من العمر 24 عاماً، كان مبنى من خمس طبقات في بيت لاهيا يُؤوي عشيرة أبو نصر الموسعة، مع ثلاث عائلات نازحة في كل من شققه العشر.
في وقت مبكر من يوم الـ29 من تشرين الأول/أكتوبر، أدت غارة جوية إسرائيلية إلى انهيار المبنى. كانت نرمين وزوجها محمد وأطفالهما الثلاثة الصغار في الطبقة الأرضية ونجوا. وقالت نرمين إنهم وجدوا "أحباء وأقرباء ممزقين أشلاء". وقُتل أكثر من 125 فرداً من العائلة.
وأضافت نرمين أن الأسرة أمضت يومين في دفن القتلى. والآن لديها 10 أطفال مصابين تحت رعايتها. وقالت: "قررنا المحافظة على العدد الصغير المتبقي من الأسرة، والفرار".
ومع احتدام العنف، ألقى "الجيش" الإسرائيلي منشورات، واتصل بالهواتف، ونشر خرائط عبر الإنترنت، وأرسل طائرات من دون طيار تحمل رسائل مسجّلة تحثّ الناس على المغادرة عبر استخدام طريق إجلاء محدد، كما قال السكان لـ "صحيفة بوست".
وتُظهر صور الأقمار الاصطناعية، من 24 تشرين الأول/أكتوبر، عشرات المركبات العسكرية المتمركزة قرب المستشفى الإندونيسي، أحد المرافق الطبية الرئيسة في المنطقة، على طول الطريق الذي أُمر المدنيون باتباعه، وحول مدرستين قريبتين، من بين المواقع التي قال النازحون إنّ الجنود فصلوا فيها بشكل منهجي الرجال والفتيان المراهقين عن النساء والأطفال للفحص. وتحدث فلسطينيون عن مرورهم أمام الكاميرات التي تقوم بمسح وجوههم.
ووعدت تحذيرات الجيش الإسرائيلي بالمرور الآمن، لكن السكان قالوا إنه لم يكن هناك ملجأ من الهجمات الإسرائيلية.
قال طبيب، يبلغ من العمر 55 عاماً، تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته خوفاً من الانتقام من القوات الإسرائيلية: "لقد مشينا في وسط القصف، وفي وسط إطلاق النار". وأضاف أنّ "الجثث كانت تصطف إلى جانبي الشوارع، في الطريق المؤدي إلى مستشفى كمال عدوان، حيث عمل لمدة أسبوعين. وقال إن المنشأة كانت مكتظة بالمرضى، ونفدت منها الإمدادات الأساسية".
في الـ22 من تشرين الأول/أكتوبر، انضم الطبيب هو وعائلته إلى موكب من آلاف الفلسطينيين متجهين إلى الجنوب. وقال النازحون إنّ العملية استغرقت ساعات، وإنّ النساء والأطفال كان يُسمَح لهم أولاً بالخروج، ولم يُسمح لهم بالانتظار حتى يأتي أفراد الأسرة الذكور.
وبينما كان الطبيب وابنه، البالغ من العمر 16 عاماً، يجلسان في خندق احتجاز، روى أنّه رأى رجالاً جُرّدوا من ملابسهم، وثلاث شاحنات محملة بالمعتقلين معصوبي الأعين في زي أبيض. وتذكر أن ابنه سأله: "هل سيدفنوننا هنا؟".
وخوفاً من نقاط التفتيش، حاول بعض السكان سلوك طرق بديلة للخروج من جباليا. وكان أحد المخارج الغربية يتضمن عبور دوار أبو شرخ، الذي أصبح يُعرف باسم "دوار الموت"، بسبب القناصين الإسرائيليين.
بصمة عسكرية متنامية
إنّ الدمار والتشريد ورفض المساعدات في المنطقة أمر يشبه "خطة الجنرال"، وهي اقتراح حصار قدمه قائد سابق في الجيش الإسرائيلي للحكومة الإسرائيلية، والذي يدعو الجيش إلى السيطرة على الشمال، من خلال تجويع السكان المدنيين ومعاملة أي شخص يبقى كمقاتل.
وبعد أن أعربت الولايات المتحدة عن قلقها العلني بشأن الخطة، كتب وزير الأمن الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، ووزير الشؤون الاستراتيجية، رون ديرمر، في رسالة إلى إدارة بايدن، أنّ التقارير التي تفيد بأن الاستراتيجية قيد التنفيذ "كاذبة تماماً".
لكنّ صور الأقمار الاصطناعية تُظهر أن "الجيش" الإسرائيلي يعيد تشكيل جغرافية منطقة الحدود بشكل كبير من خلال عمليات الهدم والتحصينات بما يتفق مع التكتيكات التي استخدمها لإنشاء مناطق عازلة عسكرية في أجزاء أخرى من القطاع، بما في ذلك ممر نتساريم المركزي وممر فيلادلفيا على طول الحدود مع مصر.
وأظهرت بيانات الأول من كانون الأول/ديسمبر، من مركز الأقمار الاصطناعية التابع للأمم المتحدة، أنّ 5340 مبنى دُمِّرت في جميع أنحاء جباليا منذ بداية الحرب، مع تركيز 40% من الدمار في مخيم اللاجئين في المدينة. كما دُمِّرت أكثر من 3600 مبنىً في بيت لاهيا. وتشير البيانات إلى أنّ وتيرة الدمار بلغت أعلى مستوياتها خلال الهجوم الإسرائيلي الجديد.
وتُظهر صور الأقمار الاصطناعية، من الـ11 من تشرين الأول/أكتوبر فصاعداً، أنّ مساحات كبيرة من هذه المناطق نفسها تم بناؤها الآن بتحصينات عسكرية، بما في ذلك شبكة من السواتر الواقية المرتفعة، والمصنوعة من التربة المقلوبة. وبحلول نهاية تشرين الأول/أكتوبر، كانت هذه السواتر توفر غطاءً لنحو 150 مركبة عسكرية تطوّق جباليا.
وقال ويليام جودهايند، المحلل في مشروع "كونتستيد غراوند"، وهو مشروع بحثي مستقل يتتبع التحركات العسكرية من خلال صور الأقمار الاصطناعية في مناطق الصراع في جميع أنحاء العالم، إنّ هذه السواتر تسمح للقوات الإسرائيلية بـ"التنقل عبر طرق الإمداد الرئيسة، مع تحسن الأمن، وتعطيها بالتالي حرية أكبر".
وتركّزت عمليات التطهير والهدم الجديدة على مدى الشهرين الماضيين في جنوبي جباليا، الأمر الذي أدّى إلى تسوية ما يقرب من نصف المخيم أرضاً، بما في ذلك منطقة السوق الرئيسة، والتي دُمرت بشكل واضح بين الـ24 من تشرين الأول/أكتوبر والـ12 من تشرين الثاني/نوفمبر. وفي أحدث صور الأقمار الاصطناعية من الـ15 كانون الأول/ديسمبر، يمكن رؤية مسار جديد للمركبات يتعرج عبر أنقاض المخيم، ويربط شارع البحر، الذي يمتد غرباً إلى البحر، بطريق تم توسيعه وتحصينه مؤخراً من جانب الجيش الإسرائيلي، يمتد شرقاً إلى الحدود الإسرائيلية.
وقال جودهايند إنّ هذا المحور العسكري الجديد، الذي يخترق قلب المدن الفلسطينية، التي كانت مكتظة بالسكان ذات يوم، "يقسم غزة بشكل فعال، بحيث يمكن بدء عمليات التطهير الأكثر منهجية، بينما تعمل الحدود الفعلية على إغلاق الحركة إلى الجنوب".
وأضاف أنّ "من المرجح أن يكون هذا جزءاً من هدف عسكري أوسع نطاقاً يتمثل بإنشاء خط دفاعي عبر غزة وإخضاع الأراضي الشمالية للسيطرة العسكرية الإسرائيلية".
وقال كاتس إنّ الجيش الإسرائيلي "سيتولى السيطرة الأمنية في غزة" مع "الحرية الكاملة في التصرف"، تماماً كما يفعل في الضفة الغربية المحتلة.
وتُظهر أحدث صور الأقمار الاصطناعية أنّ حملة الهدم الإسرائيلية مستمرة في التوسع. وفي الفترة بين الـ12 تشرين الثاني/نوفمبر والـ15 كانون الأول/ديسمبر، شهدت بلدة بيت لاهيا زيادة هائلة في الدمار، بحيث مرت الآليات العسكرية أجزاء من المقبرة الرئيسة في المدينة.
نقلته إلى العربية: بتول دياب