تحقيق لـ"نيويورك تايمز": جريمة من دون عقاب.. كيف استولى المتطرفون على "إسرائيل"؟
تحقيق من 3 أجزاء يوثق الفشل الذريع في "إسرائيل" في الحد من أعمال العنف والإرهاب التي يمارسها الإسرائيليون ضد الفلسطينيين، وكيف بات الخروج عن القانون هو القانون نفسه.
صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تنشر تحقيقاً مطولاً من 3 أجزاء للكاتبين والصحافيين رونين بيرجمان الإسرائيلي، ومارك مازيتي الأميركي، سردا فيه قضية الاستيطان الإسرائيلي تاريخياً، والحملة الإرهابية المستمرة ضد الفلسطينيين، وسيطرة اليمين المتطرف على "إسرائيل".
أدناه نص التحقيق منقولاً إلى العربية بتصرف:
بعد 50 عاماً من الفشل الذريع في الحد من أعمال العنف والإرهاب التي يمارسها الإسرائيليون ضد الفلسطينيين، بات الخروج عن القانون هو القانون نفسه.
يتوزّع هذا التحقيق على 3 أجزاء. يوثق الجزء الأول النظام القانوني غير المتكافئ الذي نشأ حول المستوطنات الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية، بينما يُظهر الجزء الثاني استهداف الإسرائيليين للفلسطينيين والمسؤولين الإسرائيليين الذين يحاولون صنع "السلام" على حدّ سواء. أما الجزء الثالث، فيكشف كيف تمكنت هذه الحركة من السيطرة على "إسرائيل" نفسها. وجميع هذه الأجزاء تروي كيفية انتقال أيديولوجيا متطرفة من أطراف السلطة السياسية في "إسرائيل" إلى داخلها.
الجزء الأول: الإفلات من العقاب
مع نهاية تشرين الأول/أكتوبر، كان واضحاً أنّ أحداً لن يساعد سكان "خربة زنوتا"، القرية الفلسطينية الصغيرة التي يسكنها نحو 150 شخصاً وتتربع على تلة مرتفعة في الضفة الغربية بالقرب من مدينة الخليل، والتي لطالما واجهت تهديدات المستوطنين الإسرائيليين الذين حاصروها بطريقة مُحكمة. إلّا أنّ المضايقات وعمليات التخريب العرضية تحوّلت في الأيام التي تلت 7 أكتوبر إلى اعتداء بالضرب وتهديد بالقتل. وقد وجّه القرويون نداءات متتالية إلى الشرطة الإسرائيلية و"الجيش" الإسرائيلي الموجود دائماً في المكان، لكن معظم نداءاتهم من أجل الحصول على حماية ذهبت أدراج الرياح، وتواصلت الهجمات من دون حساب. ونتيجة لذلك، حزم القرويون ما استطاعوا من أمتعتهم ووضعوا عائلاتهم في شاحنات واختفوا.
لا تزال هوية من دمّر القرية موضع خلاف. فـ "الجيش" الإسرائيلي يدّعي أنّ المستوطنين هم من أقدموا على تدمير القرية، في حين يتهم ضابط كبير في الشرطة الإسرائيلية "الجيش" بفعل ذلك. وفي كلتا الحالتين، بعد وقت قصير من مغادرة القرويين، لم يبق من خربة زنوتا سوى بعض من أنقاض عيادة ومدرسة ابتدائية. وكان أحد جدران العيادة المائل جانبياً يحمل لافتة تفيد بأنّ هذه العيادة قد تمّ تمويلها من قبل وكالة تابعة للاتحاد الأوروبي تقدم "الدعم الإنساني للفلسطينيين المعرضين لخطر التهجير القسري في الضفة الغربية". وبالقرب من المدرسة، نصب أحدهم علم "إسرائيل" للإعلان عن أنّ هذه أرض باتت لليهود الآن.
إنّ هذا العنف الذي يمارس منذ عقود في مناطق مثل خربة زنوتا موثق جيداً. لكن حماية الأشخاص الذين ينفذونه تُعدّ السر الغامض في "إسرائيل". وتقترن دوامة المضايقات والاعتداءات وعمليات قتل الفلسطينيين على يد المستوطنين بتاريخ مظلم مليء بالصمت والتحريض من قبل المسؤولين الإسرائيليين. وبالنسبة للكثير من هؤلاء، فإنّ "الإرهاب" الفلسطيني هو أكثر ما يهدد "إسرائيل". ولكن خلال مقابلات مع أكثر من 100 شخص، من ضمنهم ضباط حاليون وسابقون في "الجيش" الإسرائيلي والشرطة الإسرائيلية، وجهاز الأمن الداخلي "الشاباك" ومسؤولون سياسيون إسرائيليون رفيعو المستوى، بما في ذلك أربعة رؤساء وزراء سابقين؛ وقادة وناشطون فلسطينيون وحقوقيون إسرائيليون، وجدنا تهديداً مختلفاً ربما يكون أكثر زعزعة للاستقرار.
وفقاً لعدد من هؤلاء المسؤولين، فإنّ "التاريخ الطويل من الجرائم التي تمر من دون عقاب لا يهدد الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة فحسب، بل يهدد أيضاً الكيان الإسرائيلي نفسه".
ولم يقتصر حديث أولئك المسؤولين، الذين أجرينا معهم مقابلات وتحدّث بعضهم من دون الكشف عن هويته والبعض الآخر تحدث على الملأ للمرة الأولى، فحسب عن العنف الذي يمارسه الإسرائيليون ضد الفلسطينيين والذي يعود تاريخه إلى عقود خلت، بل عن الكيان الإسرائيلي الذي تجاهل هذا العنف بشكل منهجي ومتزايد أيضاً. وهذا سرد لحركة إجرامية سُمح لها بالعمل مع الإفلات من العقاب، ووصف لكيفية إسكات الأصوات داخل الحكومة الإسرائيلية التي اعترضت على التغاضي عن عنف المستوطنين.
وتكشف هذه المقابلات، إلى جانب الوثائق السرية المكتوبة في الأشهر الأخيرة، عن وجود حكومة تصارع نفسها. وتذكر إحدى الوثائق اجتماعاً عقد في شهر آذار/مارس، قدّم في خلاله اللواء يهودا فوكس، رئيس القيادة المركزية لـ "الجيش" الإسرائيلي والمسؤول عن الضفة الغربية، وصفاً ساخراً للجهود التي بذلها بتسلئيل سموتريتش، الزعيم اليميني المتطرف والمسؤول في حكومة بنيامين نتنياهو والمشرف على الضفة الغربية، لتقويض تطبيق القانون في الأراضي المحتلة. وكتب فوكس أنّه "منذ تولّي سموتريتش منصبه، تضاءلت الجهود المبذولة لقمع بناء المستوطنات غير القانونية إلى النقطة التي تلاشت فيها". علاوة على ذلك، قال فوكس، إنّ سموتريتش وحلفاءه كانوا يحبطون نفس الإجراءات الرامية إلى تطبيق القانون الذي وعدت الحكومة المحاكم الإسرائيلية بإقراره.
هذه الرواية، التي تم تجميع فصولها وسردها كاملة للمرة الأولى، تخترق العمق الإسرائيلي؛ لكنها تبدأ في الضفة الغربية، في مناطق مثل خربة زنوتا. ومن داخل القرية الفارغة والمهدّمة، يظهر عبر الوادي موقع استيطاني إسرائيلي صغير يسمى "مزرعة ميتاريم". بنيت هذه المزرعة عام 2021، وأصبحت قاعدة عمليات لهجمات المستوطنين بقيادة ينون ليفي، صاحب المزرعة. وكغيرها من البؤر الاستيطانية الإسرائيلية الكثيرة التي تم إنشاؤها في جميع أنحاء الضفة الغربية في السنوات الأخيرة، تُعد مزرعة ميتاريم غير قانونية بموجب القانون الدولي، الذي يقول معظم خبرائه إنّه لا يعترف بالمستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة؛ وغير قانونية أيضاً بموجب القانون الإسرائيلي، كمعظم المستوطنات التي بنيت منذ التسعينيات.
ولم تُبذل جهود كافية لوقف عمليات بناء هذه البؤر الاستيطانية أو أعمال العنف المنبثقة من داخلها. في الواقع، لقد كانت إحدى وظائف ليفي اليومية هي إدارة شركة لأعمال الحفر، وقد عمل مع القوات الإسرائيلية لهدم قرية فلسطينية واحدة على الأقل في الضفة الغربية. أما ضحايا ذلك العنف، فهم يواجهون نظاماً مُلتبساً ومنهزماً عندما يحاولون الاستنجاد به. وعادةً ما يتعين على القرويين الذين يطلبون المساعدة من الشرطة أن يقدموا بلاغاً شخصياً إلى مركز الشرطة الإسرائيلية، الذي يقع حصرياً في الضفة الغربية داخل المستوطنات نفسها. وبعد تفتيشهم والوصول إلى مركز الشرطة، ينتظرون أحياناً لساعات حتى يأتي مترجم عربي، ليُقال لهم إنهم لا يملكون الأوراق الصحيحة أو الأدلة الكافية لتقديم بلاغ. وكما أخبرنا أحد كبار المسؤولين العسكريين الإسرائيليين، فإنّ الشرطة "تهدد الفلسطينيين لثنيهم عن تقديم الشكوى".
ومع ذلك، في تشرين الثاني/نوفمبر، ومن دون حماية من الشرطة أو "الجيش"، اختار السكان السابقون لقرية خربة زنوتا وخمس قرى مجاورة اختبار العدالة في "إسرائيل" من خلال تقديم استئناف مباشر أمام المحكمة العليا فيها. وأفاد محامو القرويين التابعون لمؤسسة "حقل" الإسرائيلية التي تُعنى بحقوق الإنسان، في التماس مقدّم للمحكمة، إنه بعد أيام من هجوم حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، قامت مجموعة تضم مستوطنين وجنوداً إسرائيليين بالاعتداء على سكان القرية وتهديدهم بالقتل وتدمير الممتلكات في جميع أنحاء القرية. وذكروا أنّ الهجوم كان جزءاً من خطة "التهجير الجماعي للمجتمعات الفلسطينية القديمة"، حيث يستغل المستوطنون الذين يعملون إلى جانب الجنود الحرب الحالية في غزة لتحقيق الهدف الأطول أمداً المتمثل في "تطهير" أجزاء من الضفة الغربية.
وقد وافقت المحكمة العليا على النظر في القضية؛ إلا أنّ المساعدة التي يسعى القرويون للحصول عليها والمتمثلة في تطبيق القانون لن تتحقق على ما يبدو.
نظامان قضائيان منفصلان وغير متساويين
تُظهر عينة من 30 قضية في الأشهر التي تلت 7 أكتوبر الانحطاط الكبير الذي وصل إليه النظام القانوني الإسرائيلي. وفي جميع القضايا، التي تنطوي على جرائم متنوعة مثل سرقة الماشية والاعتداء والإحراق المتعمد، لم يتم اتهام أي مشتبه به بارتكاب جريمة؛ وفي إحدى الحالات، أطلق مستوطن النار على فلسطيني في بطنه بينما كان جندي من "الجيش" الإسرائيلي ينظر؛ ومع ذلك، استجوبت الشرطة مطلق النار لمدة 20 دقيقة فقط، ولم يكن مشتبهاً به، وفقاً لمذكرة عسكرية إسرائيلية داخلية.
وخلال مراجعتنا للقضايا، استمعنا إلى تسجيلات لنشطاء حقوقيين إسرائيليين وهم يطلبون الشرطة للإبلاغ عن جرائم مختلفة ضد الفلسطينيين. وفي بعض التسجيلات، رفضت الشرطة الحضور إلى مكان الحادث، بحجة أنّها لا تعرف المكان؛ وفي إحدى الحالات، سخرت من الناشطين ووصفتهم بـ"مثيري الفوضى" ورفض متحدث باسم الشرطة الإسرائيلية الرد على الاستفسارات المتكررة حول النتائج التي توصلنا إليها.
إنّ العنف والإفلات من العقاب الذين أظهرتهما هذه الحالات كان موجوداً قبل 7 أكتوبر بفترة طويلة. ففي كل شهر تقريباً قبل تشرين الأول/ أكتوبر، كان معدل حوادث العنف أعلى مما كان عليه في نفس الشهر من العام السابق. وأفادت منظمة "يش دين"، وهي منظمة حقوقية إسرائيلية، نظرت في أكثر من 1600 حالة من حالات عنف المستوطنين في الضفة الغربية بين عامي 2005 و2023، أنّ 3% فقط منها انتهت بالإدانة.
ويقول عامي أيالون، رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي "الشاباك" من عام 1996 إلى عام 2000، الذي يتحدث الآن بسبب قلقه من فشل "إسرائيل" المنهجي في تطبيق القانون، إنّ غياب المحاسبة يعكس حالة اللامبالاة التي أصابت القيادة الإسرائيلية منذ سنوات خلت. ويضيف أنّ "مجلس الوزراء ورئيسه يوجهان رسالة إلى الشاباك مفادها أنّه إذا قُتل يهودي، فهذا أمر فظيع. أمّا إذا قُتل عربي، فهذا أمر سيء، لكنه ليس نهاية العالم".
وقد كرّر عدد من المسؤولين الآخرين الذين أجرينا معهم مقابلات تقييم أيالون؛ ومن ضمنهم مارك شوارتز، وهو جنرال أميركي متقاعد برتبة ثلاث نجوم وقائد عسكري كبير خدم في سفارة الولايات المتحدة في القدس في الفترة من عام 2019 وحتى عام 2021، وأشرف على جهود الدعم الدولي المبذولة لتحقيق التوافق بين "إسرائيل" والسلطة الفلسطينية. وفي حديثه عن التاريخ الطويل لجرائم المستوطنين والعمليات الإسرائيلية الثقيلة في الضفة الغربية، يقول: "لا توجد أي محاسبة! وهذا يؤدي إلى تدمير الثقة ويُخّل بأمن إسرائيل والأراضي الفلسطينية واستقرارهما في نهاية المطاف. وهذا أمر لا يمكن إنكاره".
ووفقاً لمسؤول إسرائيلي كبير، فمنذ 7 أكتوبر، استدعى "الجيش" الإسرائيلي نحو 7000 من جنود الاحتياط من المستوطنين، وألبسهم الزي الرسمي وسلّحهم وأمرهم بحماية المستوطنات. وقد أعطيت لهم أوامر محددة تمنعهم من مغادرة المستوطنات، وتغطية وجوههم، وإقامة حواجز طرق غير مصرح بها. ومع ذلك، غادر عدد منهم المستوطنات بالزي العسكري وارتدوا الأقنعة وأقاموا حواجز على الطرق وقاموا بمضايقة الفلسطينيين.
إنّ نصف قرن من السلوك غير القانوني الذي مر من دون عقاب إلى حد كبير، دفع شكلاً راديكالياً من القومية المتطرفة إلى التربع على عرش السياسة الإسرائيلية. هذا هو التاريخ الذي يُروى هنا في ثلاثة أجزاء. في الجزء الأول، نصِفُ أصول الحركة الدينية التي أنشأت المستوطنات اليهودية في الأراضي التي تم الاستيلاء عليها حديثاً في غزة والضفة الغربية خلال السبعينيات. وفي الجزء الثاني، نروي كيف بدأت العناصر الأكثر تطرفاً في حركة الاستيطان باستهداف ليس الفلسطينيين فحسب، بل أيضاً القادة الإسرائيليين الذين حاولوا صنع السلام معهم. وفي الجزء الثالث نوضح كيف أنّ أعضاء اليمين المتطرف في "إسرائيل"، الذين لم يُعاقبوا على جرائمهم، استحوذوا على السلطة السياسية.
لقد ولّد الخلاف حول كيفية التعامل مع الأراضي المحتلة وسكانها نظاماً معقداً ومبهماً في بعض الأحيان لإنفاذ القانون. وبرز في داخلها نظامان قضائيان منفصلان وغير متساويين، أحدهما لليهود والآخر للفلسطينيين.
وتخضع الضفة الغربية لقيادة "الجيش" الإسرائيلي، ما يعني أنّ الفلسطينيين يخضعون لقانون عسكري يمنح هذا "الجيش" والشاباك سلطة كبيرة. ويمكنهم احتجاز المشتبه بهم لفترات طويلة من دون محاكمة أو الوصول إلى محام أو الحصول على أدلة ضدهم. ويمكنهم التنصت على المكالمات الهاتفية وإجراء مراقبة سرية واختراق قواعد البيانات وجمع المعلومات الاستخبارية عن أي عربي يعيش في الأراضي المحتلة مع قيود قليلة. ويخضع الفلسطينيون لمحاكم عسكرية - وليست مدنية - وهي محاكم أكثر تشدداً في العقوبات.
هذا ويخضع جميع المستوطنين في الضفة الغربية من الناحية النظرية لنفس القانون العسكري الذي ينطبق على السكان الفلسطينيين. لكن من الناحية العملية، يتم التعامل معهم وفقاً للقانون المدني، الذي ينطبق رسمياً على الأراضي المحتلة.
وبالنسبة للفلسطيني، فإنّ مجرد اعترافه بالانتماء إلى "حماس" يعتبر عملاً إرهابياً يسمح للسلطات الإسرائيلية باستخدام أساليب استجواب وحشية واعتقاله لفترة طويلة. علاوة على ذلك، يتم تصنيف معظم أعمال العنف التي يرتكبها العرب ضد اليهود على أنها هجوم "إرهابي"، ما يمنح الشاباك والأجهزة الأخرى ترخيصاً لاستخدام أقسى الأساليب المتاحة لهم.
في المقابل، معظم حوادث العنف التي يرتكبها المستوطنون، من إحراق للمركبات وقطع لأشجار الزيتون، تقع ضمن نطاق عمل الشرطة التي تميل إلى تجاهلها. وعندما يقوم القسم اليهودي في "الشاباك" بالتحقيق في تهديدات إرهابية أكثر خطورة، تتم عرقلة عمله منذ البداية في أغلب الأحيان، ويتم حتى تقويض نجاحاته في بعض الأحيان من قبل القضاة والسياسيين المتعاطفين مع قضية المستوطنين. وقد سمح هذا النظام، بثغراته وعوائقه، لمؤسسي الجماعات التي تدعو إلى العنف المتطرف خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي بالتصرف من دون أي محاسبة. وساهم اليوم في بناء شرنقة وقائية حول أحفادهم الأيديولوجيين.
بعض هؤلاء الأحفاد يتولون زمام السلطة في "إسرائيل" اليوم. ففي عام 2022، وبعد 18 شهراً فقط من خسارته رئاسة الوزراء، استعاد بنيامين نتنياهو السلطة من خلال تحالفه مع قادة اليمين المتطرف من حزب "الصهيونية الدينية" وحزب "القوة اليهودية". فكان هذا التصرّف عملاً سياسياً يائساً من قبل نتنياهو عبّد طريق الوصول إلى السلطة أمام بعض الشخصيات المتطرفة بالفعل، أمثال سموتريتش وإيتمار بن غفير؛ التي أمضت عقوداً تتعهد بانتزاع الضفة الغربية وقطاع غزة من أيدي العرب.
وكان كل من بن غفير، وزير الأمن القومي الإسرائيلي، وسموتريتش، وزير المالية الإسرائيلي، مكلفين بالإشراف على الكثير من أنشطة الحكومة الإسرائيلية في الضفة الغربية. في كانون الأول/ديسمبر 2022، وقبل يوم واحد من أداء الحكومة الجديدة اليمين الدستورية، أصدر نتنياهو قائمة بأهداف حكومته الجديدة وأولوياتها، ومن ضمنها بيان واضح يفيد بأن الأيديولوجية القومية لحلفائه الجدد أصبحت الآن النجم المرشد للحكومة، جاء فيه: "يمتلك الشعب اليهودي حقاً حصرياً ومطلقاً في كل جزء من أرض إسرائيل".
وبعد شهرين من ذلك، قُتل مستوطنان إسرائيليان في هجوم شنّه فلسطينيون بالقرب من قرية حوارة في الضفة الغربية. وأصبحت الدعوات واسعة النطاق للانتقام، تصدر الآن من داخل حكومة نتنياهو الجديدة. وأوضح سموتريتش أنّه "لا بدّ من محو قرية حوارة عن بكرة أبيها، ويجب على إسرائيل القيام بذلك".
نشوء حركة سياسية دينية جديدة
ضاعفت "إسرائيل" مساحة الأراضي التي كانت تسيطر عليها، واستولت على أراضٍ جديدة في الضفة الغربية وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان والقدس الشرقية. واليوم بات أمامها خيار: هل تصبح الأرض المحتلة الجديدة جزءاً من "إسرائيل" أم يتم التفاوض عليها كجزء من الدولة الفلسطينية المستقبلية؟ بالنسبة لكادر من الشباب الإسرائيلي المشبع بالحماسة اليهودية، كان الجواب واضحاً. فقد أدى الاستيلاء على الأراضي إلى نشوء حركة سياسية دينية، وهي "غوش إيمونيم" أو "كتلة المؤمنين"، التي كانت مصممة على استيطان الأراضي التي تم احتلالها حديثاً.
اعتقد أتباع "غوش إيمونيم" أنّ المسيح سيأتي أسرع في حال قام اليهود باستيطان الأراضي المحتلة حديثاً بدلاً من دراسة الكتب المقدسة من الصباح إلى المساء. كما اعتقدوا أنّ هذه الأرض كانت أرض "إسرائيل الكبرى"، واعتبروا أنفسهم نسل الصهاينة الأوائل، الذين بنوا المزارع والكيبوتسات بالقرب من القرى الفلسطينية خلال الجزء الأول من القرن العشرين، عندما كانت الأرض تحت السيطرة البريطانية. وفي حين كانت الصهيونية في الفترة السابقة علمانية واشتراكية إلى حد كبير، اعتقد المستوطنون الجدد أنّهم كانوا يتقدمون بأجندة من الرب.
وكانت شرعية هذه الأجندة محلّ تساؤل. إذ تحظر اتفاقيات جنيف، التي وقّعت عليها "إسرائيل"، على قوى الاحتلال تهجير أو نقل "أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها".
إنّ الصدمة المتبقية من حرب أكتوبر في عام 1973، عندما فاجأت القوات المصرية والسورية "إسرائيل"، هزّت ثقة المواطنين في قادتهم وأكسبت حركات مثل "غوش إيمونيم"، التي تتحدى السلطة بشكل مباشر زخماً وسط تراجع حزب العمل. وهذا بدوره أدى إلى تنشيط اليمين السياسي في "إسرائيل".
وفي أواخر السبعينيات، أخذ عدد المستوطنين الذين يتمتعون بدعم سياسي بالازدياد. ويستذكر كارمي جيلون، الذي انضم إلى جهاز الشاباك في عام 1972 وترقى بحلول منتصف التسعينيات ليصبح مديراً له، المناقشات الداخلية الناشئة. على من تقع مسؤولية التعامل مع المستوطنين؟ وهل يتعين على جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي الذي يتبجح به أن يطبق القانون في مواجهة أعمال الاستيطان غير القانونية بشكل واضح؟ وقال في أول مقابلة له من أجل هذا المقال في عام 2016: "عندما أدركنا أن حركة غوش إيمونيم تحظى بدعم الكثير من السياسيين، عرفنا أنه لا ينبغي لنا التعرّض لها".
ومع ذلك، سيكون من الصعب تجاهل أحد قادة الحركة اليمينية المتطرفة. مائير كاهانا، حاخام يميني متطرف من فلاتبوش، بروكلين، أسس رابطة الدفاع اليهودية المتشددة في عام 1968 في نيويورك. ولم يخفِ اعتقاده بأن العنف ضروري في بعض الأحيان لتحقيق حلمه بقيام "إسرائيل الكبرى"، بل وتحدث عن خطط لشراء بنادق من عيار 22 لليهود للدفاع عن أنفسهم. وأعلن أنّ "شعار حملتنا سيكون: لكل يهودي بندقية من عيار 22". وفي عام 1971، حُكم عليه بالسجن مع وقف التنفيذ بتهمة صنع القنابل، وفي سن التاسعة والثلاثين انتقل إلى "إسرائيل" لبدء حياة جديدة. ومن فندق في ميدان صهيون في القدس، أنشأ مدرسة وحزباً سياسياً، عُرف فيما بعد بحزب "كاخ"، واجتذب أتباعه بخطاباته النارية.
وأعلن كاهانا عن رغبته في إعادة كتابة الصورة النمطية لليهود كضحايا، وقال، بعبارات واضحة في كثير من الأحيان، أنّ الصهيونية والديمقراطية يشهدان توتراً. وخلال مقابلة له مع صحيفة "التايمز" عام 1985، أيّ قبل 5 سنوات من اغتياله على يد مسلّح في نيويورك، قال كاهانا: "لقد نشأت الحركة الصهيونية بهدف تأسيس دولة يهودية. توضح الصهيونية أنّه ستكون هناك دولة يهودية ذات أغلبية يهودية، مهما حدث. وتقول الديمقراطية: لا، إذا كان العرب هم الأغلبية، فمن حقهم أن يقرروا مصيرهم. لذا فإنّ الصهيونية والديمقراطية تتعارضان. وأقول بصراحة إنني أدعم الصهيونية".
اقرأ أيضاً: "لو موند دبلوماتيك": "الهاسبارا".. وسيلة مضلّلة لتحريف وقائع الحرب
تقرير مدفون
في عام 1977، قاد حزب الليكود ائتلافاً نجح، لأول مرة في تاريخ "إسرائيل"، في تأمين أغلبية يمينية في برلمان البلاد المعروف بـ "الكنيست". وترأس الحزب مناحيم بيغن، أحد مؤسسي منظمة "الإرغون"، وهي منظمة شبه عسكرية نفذت هجمات ضد العرب والانتداب البريطاني على فلسطين، الكيان الاستعماري البريطاني الذي سبق إنشاء "إسرائيل". وكان حزب "الليكود"، وهو الاسم العبري لكلمة "التحالف"، في حد ذاته عبارة عن مزيج من عدة أحزاب سياسية. وكان حزب "كاخ" لا يزال خارج المعادلة وبقي كذلك. لكن أفكاره وطموحاته المتطرفة كانت تقترب من الاتجاه السائد. وجاء انتصار حزب "الليكود" بعد 10 سنوات من الحرب التي أمّنت لـ"إسرائيل" مساحات شاسعة من الأراضي الجديدة، لكن مسألة مصير الأراضي المحتلة لم تكن قد حُلّت بعد. وباعتباره رئيس الوزراء الجديد، كان بيغن يدرك أنّ معالجة هذه المسألة تعني معالجة مسألة المستوطنات. فهل هناك أي أساس قانوني لأخذ الأرض؟ أو أي عمل يسمح للمستوطنات بالتوسع بدعم كامل من الحكومة؟
وحدها بليا ألبيك، التي كانت آنذاك بيروقراطية غير معروفة إلى حد كبير في وزارة العدل الإسرائيلية، من وجدت الإجابة على تساؤلات بيغن. فمن خلال البحث في أنظمة الإمبراطورية العثمانية، التي حكمت فلسطين في السنوات التي سبقت الانتداب البريطاني، سلّطت الضوء على قانون الأراضي العثماني الصادر عام 1858، الذي يُعد بداية برنامج منهجي لإصلاح الأراضي خلال فترة التنظيم. ومن بين أحكام أخرى، مكّن القانون السلطان من الاستيلاء على أي أرض لم يزرعها أصحابها منذ عدة سنوات ولم تكن "على مسافة قريبة" من آخر منزل في القرية. ولم يفعل هذا القانون سوى القليل لمعالجة أحكام اتفاقية جنيف، لكنه كان، بالنسبة لإدارتها، سابقة كافية. وبسرعة استقلت ألبيك مروحية عسكرية، ورسمت خرائط الضفة الغربية وحددت قطع الأراضي التي قد تستوفي معايير القانون العثماني. وعليه، حل الكيان الإسرائيلي محل السلطان، لكن التأثير بقي نفسه. وأدى تفسير ألبيك القانوني "الإبداعي" إلى بناء أكثر من 100 مستوطنة يهودية جديدة، أشارت إليها باسم "أطفالي".
وفي الوقت نفسه، كان بيغن يحضّر بهدوء لاتفاق سلام مع الرئيس المصري أنور السادات في الولايات المتحدة في كامب ديفيد. وقد أعاد الاتفاق الذي تفاوضوا عليه شبه جزيرة سيناء إلى مصر ووعد بمنح قدر أكبر من الحكم الذاتي للفلسطينيين في الأراضي المحتلة مقابل تطبيع العلاقات مع "إسرائيل". وفي النهاية، فاز الزعيمان بجائزة نوبل للسلام المشتركة. لكن حركة "غوش إيمونيم" وجماعات يمينية أخرى اعتبرت هذه الاتفاقيات بمثابة انقلاب صادم. فانفجر بركان من الغضب وانبثقت منه حملة جديدة من الترهيب. وقد أعلن الحاخام موشيه لفينغر، أحد قادة "غوش إيمونيم" ومؤسس المستوطنة في قلب مدينة الخليل، أهداف الحركة على شاشة التلفزيون الإسرائيلي، قائلًا: "لا يجوز السماح للعرب برفع رؤوسهم".
ونتيجة لذلك، برز فرع عسكري تابعة لحركة "غوش إيمونيم" يُسمى الحركة السرية اليهودية. وقد نفذت أولى عملياتها المرتقبة في الثاني من حزيران/يونيو 1980، حيث تم تفخيخ سيارات كجزء من مؤامرة اغتيال معقدة ضد شخصيات سياسية فلسطينية بارزة في الضفة الغربية. وأدى الهجوم إلى بتر ساقي بسام الشكا، رئيس بلدية نابلس؛ واضطر كريم خلف، رئيس بلدية رام الله، إلى بتر قدمه. أمّا كاهانا، الذي أعلن في الأيام التي سبقت الهجوم خلال مؤتمر صحفي أنّ على الحكومة الإسرائيلية أن تشكل "جماعة إرهابية يهودية" من شأنها "رمي القذائف والقنابل اليدوية لقتل العرب"، فأشاد بالهجمات، كما فعل الحاخام حاييم دروكمان، أحد قادة حركة "غوش إيمونيم" الذي كان يعمل في الكنيست، وغيرهما من داخل الحركة وخارجها. وعلّق الجنرال بنيامين بن إليعازر، والقائد الأعلى لـ "الجيش" الإسرائيلي في الضفة الغربية، في إشارة إلى الإصابات التي لحقت برؤساء البلديات الفلسطينيين الذين يخضعون لمراقبته: "من المؤسف أنّهم لم يقضوا عليهم". بدأ التحقيق، ومرت سنوات قبل أن تصدر أي نتائج. وأصبح بن إليعازر زعيماً لحزب العمل ووزيراً للدفاع.
إنّ التهديد الذي تشكله الهجمات غير المقيّدة على المؤسسات وحواجز حماية الديمقراطية اليهودية لم يغب عن ذهن بعض أعضاء النخبة الإسرائيلية. ومع انتشار أعمال العنف، بعثت مجموعة من الأساتذة في جامعة تل أبيب والجامعة العبرية في القدس برسالة إلى يتزاك زامير، المدعي العام الإسرائيلي، يعربون من خلالها عن قلقهم من أنّ "ممارسات الشرطة الخاصة" وغير القانونية ضد الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة تشكل "تهديداً لسيادة القانون في البلاد". وأشار الأساتذة إلى احتمال وجود تواطؤ بين المستوطنين والسلطات. وقال الموقعون على الرسالة: "هناك شك في أنّ جرائم مماثلة لا يتم التعامل معها بنفس الطريقة وأنّ بعض المجرمين يتلقون معاملة تفضيلية على الآخرين. وهذا الشك يتطلب بحثاً جوهرياً".
صدمت الرسالة زامير، الذي يعرف بعض هؤلاء الأساتذة جيّداً. كما كان يدرك أنّ الأدلة على تطبيق القانون بشكل انتقائي، قانون للفلسطينيين وآخر للمستوطنين، من شأنها أن تدحض ادّعاء الحكومة الإسرائيلية بتطبيق القانون على الجميع بشكل عادل وتتسبب في حدوث فضيحة محلية ودولية على حد سواء. وطلب زامير من جوديث كارب، نائبة المدعي العام الإسرائيلي آنذاك للمهام الخاصة، ترؤس لجنة للبحث في هذه القضية. وكانت كارب مسؤولة عن التعامل مع القضايا الأكثر حساسية التي تواجه وزارة العدل، إلّا أنّ هذه القضية كان تتطلّب قدراً أكبر من السرية.
وتقول كارب إنّه أثناء قيام فريقها بالتحقيق، "اتضح لي سريعاً أنّ ما ورد في الرسالة لا يقارن بما يحصل فعلياً على أرض الواقع". وشهدت هي ولجنة التحقيق التي ترأستها حالات مختلفة من التعدي على ممتلكات الغير والابتزاز والاعتداء والقتل، لم تحرّك الشرطة أي ساكن لمنعها ولم تجر سوى تحقيقات افتراضية لم تسفر عن شيء. وتشير كارب إلى أنّ "الشرطة والجيش الإسرائيليين، سواء في تحركهما أو تقاعسهما، كانا متعاونين بالفعل مع المستوطنين المخرّبين. وتصرّفا كما لو أنهما لا يهتمان بالتحقيق عند ورود شكاوى إليهما، وفعلا كل ما في وسعهما لردع الفلسطينيين حتى عن تقديمها".
وفي أيار/مايو 1982، قدمت كارب واللجنة التي ترأسها تقريراً من 33 صفحة، ذكرت فيه أنّ عشرات الجرائم لم يتم التحقيق فيها بشكل كافٍ. كما أشارت اللجنة إلى أنّ الشرطة زودتها أثناء قيامها بالأبحاث بمعلومات ناقصة ومتناقضة ومضلّلة في كثير من الأحيان. وخلصت إلى أنّ نحو نصف التحقيقات المفتوحة ضد المستوطنين أُغلقت من دون أن تجري الشرطة حتى تحقيقاً أولياً. وفي الحالات القليلة التي صادف أنّ أجرت فيها تحقيقاً، وجدت اللجنة أن هذا التحقيق يتضمن "ثغرات كثيرة". وفي بعض الحالات، شهدت الشرطة الجرائم ولم تحرّك ساكناً. وفي حالات أخرى، كان الجنود على استعداد للإدلاء بشهادتهم ضد المستوطنين، لكن شهاداتهم وغيرها من الأدلة تم دفنها. وسرعان ما اتضح لكارب أنّ الحكومة ستقوم بدفن التقرير.
وتستذكر الآن قائلة: "لقد كنا ساذجين للغاية". وتقول إنّ زامير قد ضمن مناقشة مجلس الوزراء للنتائج الخطيرة التي توصّلت إليها اللجنة وطالب بالحفاظ على السرية التامة. ودعا وزير الداخلية آنذاك، يوسف بورغ، كارب إلى منزله لإجراء ما تذكر أنه وصفه بـ"محادثة شخصية". وكان بورغ، زعيم الحزب القومي الديني المؤيد للمستوطنين، قد شغل في ذلك الوقت منصب وزير في الحكومة وتسلّم عدة حقائب وزارية لأكثر من 30 عاماً. افترضت كارب أنّه يريد معرفة المزيد عن عملها، الأمر الذي قد يكون له من الناحية النظرية أصداء مهمة على اليمين الديني. وتقول: "لكن دُهشت عندما بدأ يوبخني بلغة قاسية بشأن ما كنا نفعله. لقد فهمت أنه يريد منا أن نتوقف عند هذا الحد".
أعلنت كارب استقالتها من لجنة التحقيق. وقالت في هذا الإطار: "يمكن وصف الوضع الذي اكتشفناه بالعجز التام". وحين تسرب خبر وجود التقرير (وليس محتواه) إلى الجمهور، نفى بورغ معرفته بوجود هكذا تحقيق. وعندما تم أخيراً نشر كامل محتوى التقرير في عام 1984، قال متحدث باسم وزارة العدل إنّ اللجنة قد تم حلها وإنّ الوزارة لم تعد تتابع هذه المسألة.
موجة من العنف
في 11 نيسان/أبريل 1982، قام آلان هاري غودمان، وهو جندي في "الجيش" الإسرائيلي يرتدي بدلته العسكرية بإطلاق النار على مسجد قبة الصخرة في القدس، وهو أحد أكثر المواقع قدسية لدى المسلمين في جميع أنحاء العالم. كان يحمل بندقية "إم 16"، وهي سلاح عادي في "الجيش" الإسرائيلي، فقتل اثنين من العرب وأصاب عدداً منهم. وعندما فتّش المحققون شقة غودمان، عثروا على ملصقات لحزب "كاخ"؛ وقال المتحدث باسم المجموعة إنّها لا تتغاضى عن الهجوم. وأدان رئيس الوزراء بيغن الهجوم، لكنه انتقد أيضاً الزعماء المسلمين الذين دعوا إلى القيام بإضراب عام رداً على ما فعله الجندي، وهو ما اعتبره محاولة "لاستغلال الحادثة".
وفي العام التالي، فتح يهود ملثّمون النار على طلاب في الكلية الإسلامية في الخليل، ما أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة 33 آخرين. فأدانت السلطات الإسرائيلية المجزرة، لكنها لم تكشف هوية المتسببين في هذه الجريمة. وقال الجنرال أوري أور، قائد القوات الإسرائيلية في المنطقة، عبر الراديو إنّه سيتم اتباع كافة السبل لكشف ملابسات هذا الحادث. لكنّه أضاف: "لا نملك أي وصف لما جرى ولا نعرف عمن نبحث".
لطالما وجد القسم اليهودي في "الشاباك" نفسه مقصراً في جهوده للتصدي للهجمات. ولكن في نيسان/أبريل 1984، أحرز تقدماً ملحوظاً تجسّد في إحباط عملائه مخططاً يهودياً سرياً لتفجير 5 حافلات مليئة بالفلسطينيين، واعتقال 20 من أعضاء الحركة السرية اليهودية الذين شاركوا في الهجوم الذي تعرّضت له الكلية الإسلامية والتفجيرات التي استهدفت رؤساء البلديات الفلسطينيين في عام 1980. إلّا أنه وبعد أسابيع من التحقيق مع المشتبه بهم، علم جهاز الشاباك أن الحركة السرية اليهودية كانت تعمل على تطوير مخطط لتفجير مسجد قبة الصخرة. وتضمن المخطط عشرات الرحلات إلى جبل الهيكل لجمع المعلومات وتقييم الكمية الدقيقة من المتفجرات المطلوبة لتنفيذ العملية ومكان وضعها. وقد هدف هذا المخطط إلى جر منطقة الشرق الأوسط برمتها إلى الحرب، وهو ما اعتبرته الحركة السرية اليهودية شرطاً أساسياً لقدوم المسيح.
ويقول كارمي غيلون، رئيس القسم اليهودي في جهاز الشاباك في ذلك الوقت، إنّ حقيقة أنّ الشاباك لم يعلم بمؤامرة شارك فيها عدد كبير من الأشخاص وبمثل هذا المخطط الطموح في وقت سابق شكّلت "فشلاً استخباراتياً ذريعاً". ويشير إلى أنّ الشاباك لم يكن هو الذي منع المؤامرة من أن تؤتي ثمارها، بل كانت الحركة السرية اليهودية نفسها. و"لحسن حظنا جميعاً، قررت التخلي عن الخطة لأنها شعرت بأن الشعب اليهودي لم يكن مستعداً بعد".
الجزء الثاني: التحذيرات
قال عامي أيالون، مدير جهاز الشاباك السابق، وهو يميل إلى التأكيد: "عليكم أن تفهموا لما كل ما يحدث الآن مهم. فنحن لا نناقش الإرهاب اليهودي، بل نناقش فشل إسرائيل الذريع".
كان أيالون متحفظاً بشأن عمله السابق ويصر على أنّ جهاز الشاباك، على الرغم من بعض إخفاقاته، يمتلك دائماً المعلومات والموارد اللازمة لردع إرهاب اليمين في "إسرائيل" وملاحقته، ويمتلك الإرادة لفعل ذلك. وأشار إلى أنّ "السؤال الذي يجب أن يُطرح هو لماذا لا يفعل أي شيء حيال ما يجري؟ والجواب بسيط للغاية. لا يمكنه الوقوف في وجه محاكمنا. إذ تجد الأوساط القضائية أنه يستحيل مواجهة المجتمع السياسي المدعوم من الشارع. وبالتالي، فإنّ كل شيء يبدأ بالشارع".
وبحلول الثمانينيات، بدأت حركة المستوطنين تكتسب بعض الزخم داخل الكنيست، لكنها ظلت بعيدة عن الاتجاه السائد. وعندما تم انتخاب كاهانا عضواً في الكنيست عام 1984، كان أعضاء الأحزاب الأخرى، بما في ذلك حزب "الليكود"، يستديرون ويغادرون الغرفة عندما يقف لإلقاء خطابه. ومن أهم القضايا التي أصبحت مصدر إزعاج في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، كانت قضية التوسع المستمر للمستوطنات. وخلال رحلة قام بها بيغن إلى واشنطن عام 1982، عقد رئيس الوزراء اجتماعاً مغلقاً مع لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ لمناقشة الغزو الإسرائيلي للبنان في ذلك العام، في محاولة لإجبار منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تعاني من خسائر فادحة في صفوف المدنيين، على الخروج منه. ووفقاً لصحيفة "التايمز" التي غطت هذه الجلسة، فقد تجادل السيناتور جوزيف آر بايدن جونيور، من ولاية ديلاوير، الذي كان آنذاك في ولايته الثانية، مع بيغن حول مسألة الضفة الغربية، وأخبره بأنّ "إسرائيل" تفقد الدعم في هذا البلد بسبب سياسة الاستيطان التي تنتهجها.
لكن المسؤولين الإسرائيليين أدركوا أنّ الأميركيين كانوا راضين بشكل عام بالتنفيس عن غضبهم بشأن هذه القضية من دون اتخاذ إجراءات فعّالة، مثل فرض قيود على المساعدات العسكرية لـ"إسرائيل"، والتي كانت في ذلك الوقت، كما هو الحال الآن، محورية في الترتيبات الأمنية للبلاد. وبعد تقديم المتآمرين من الحركة السرية اليهودية، الذين نفذوا التفجيرات التي استهدفت رؤساء بلديات الضفة الغربية وغيرها من الهجمات، إلى المحاكمة في عام 1984، أُدينوا وصدرت بحقهم أحكام تتراوح مدتها بين بضعة أشهر والسجن مدى الحياة. ومع ذلك، لم يُظهر المتآمرون ندمهم، وتوسعت الحملة الشعبية للمطالبة بالعفو عنهم. كما دعا وزير الخارجية يتسحاق شامير إلى العفو عنهم، قائلًا: "إنهم أناس طيبون وصالحون وقد أضلوا طريقهم". واقترح شامير أن الرأفة بهم ستمنع تكرار الإرهاب اليهودي.
وفي النهاية، وقّع الرئيس حاييم هرتسوغ، خلافاً لتوصيات جهاز الشاباك ووزارة العدل، على سلسلة استثنائية من قرارات العفو والتخفيف عن المتآمرين. وتم إطلاق سراحهم واستقبلهم مجتمع المستوطنين استقبال الأبطال، وارتقى بعضهم إلى مناصب بارزة في الحكومة ووسائل الإعلام الإسرائيلية. ومن بين هؤلاء عوزي شرباف، الذي أصبح زعيماً لحركة الاستيطان، وكان من بين المتحدثين في مؤتمر عُقد مؤخراً لدعم عودة المستوطنين إلى غزة.
في الواقع، حصل معظم اليهود المتورطين في الهجمات الإرهابية ضد العرب خلال العقود الماضية على تخفيضات كبيرة في مدة السجن. ويتذكر غيلون، الذي كان رئيساً للقسم اليهودي عندما تم القبض على بعض هؤلاء الأشخاص، "الإحساس العميق بالظلم" الذي شعر به عندما تم إطلاق سراحهم. والأهم من ذلك، كما يقول، هو "السؤال عن الرسالة التي ينقلها العفو إلى الجمهور وإلى أي شخص يفكر في تنفيذ أعمال إرهابية ضد العرب".
الإخفاقات العملياتية لجهاز الشاباك
في عام 1987، أدّت سلسلة من الصراعات التي شهدها قطاع غزة إلى نشوء انتفاضة فلسطينية مستمرة في جميع أنحاء الأراضي المحتلة و"إسرائيل". وكانت الانتفاضة الأولى، كما أصبحت معروفة، مدفوعة بالغضب من الاحتلال، الذي كان حينها يدخل عقده الثالث؛ ليتأجج الوضع في السنوات الستة اللاحقة مع مهاجمة الفلسطينيين للإسرائيليين بالحجارة والزجاجات الحارقة وشنهم سلسلة من الإضرابات والمقاطعات. ونتيجة لذلك، نشرت "إسرائيل" آلاف الجنود لقمع هذه الانتفاضة.
وفي الأراضي المحتلة، باتت الهجمات الانتقامية بين المستوطنين والفلسطينيين مشكلة متفاقمة. وتمددت حركة "غوش إيمونيم" وانقسمت إلى مجموعات مختلفة، مما صعّب على جهاز الشاباك دمج عدد كافٍ من المخبرين مع المستوطنين. إلا أنّه كان لدى الجهاز مخبر رئيس واحد، وهو رجل يُطلق عليه اسم شاؤول. كان شاؤول شخصية تحظى بثقة المستوطنين وقد ترقى ليصبح مساعداً مقرباً للحاخام موشيه ليفنغر، زعيم "غوش إيمونيم" الذي أسس المستوطنة في مدينة الخليل.
تم استجواب لفينغر عدة مرات للاشتباه بمشاركته في عدة هجمات عنيفة وقعت، لكن شاؤول قال لعملاء الشاباك إنّهم لا يرون سوى جزء صغير من الصورة الكاملة. وأخبرهم عن الهجمات التي وقعت في السابق وتلك المخطط لها؛ وعن قيام المستوطنين باقتحام القرى العربية وتخريب المنازل وإحراق عشرات السيارات. وأمره العملاء بالمشاركة في هذه الهجمات لئلا يلفت الانتباه إليه. وقد التقط أحد مصوري الصحف في مدينة الخليل عام 1985 صورة لشاؤول وهو يحطم جدار سوق عربي بمطرقة ثقيلة. وكما كانت السياسة المعتادة، أمره جهاز الشاباك بالمشاركة في أي نشاط لا يضر بحياة الأفراد، إلا أنّ معرفة أي من الأنشطة التي لن تتجاوز هذا الخط ازدادت صعوبة. وقال شاؤول: "لقد كان أغلب النشطاء مجانين وهمج رعاع، وكان من الصعب للغاية التأكد من أنهم لن يؤذوا الناس وأنهم سيدمرون الممتلكات فحسب". (وقد قدم شاؤول، الذي لا تزال هويته الحقيقية سرية، هذه الاقتباسات في مقابلة أجراها عام 2015 مع بيرغمان لصحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية الناطقة بالعبرية. ويتم نشر بعض من روايته هنا لأول مرة).
في أيلول/سبتمبر 1988، كان الحاخام ليفنغر، المسؤول عن شاؤول، يقود سيارته عبر الخليل عندما بدأ الفلسطينيون، كما قال في وقت لاحق في المحكمة، برشق سيارته بالحجارة ومحاصرته. فأشهر ليفنغر مسدسه وأطلق النار بصورة عشوائية على المتاجر القريبة. وقال المحققون إنّه قتل صاحب متجر يُدعى كايد صلاح (42 عاماً)، الذي كان يُغلق الباب الفولاذي لمتجر الأحذية الذي يملكه، وأصاب رجلاً آخر. وادّعى ليفنغر أنّه كان يدافع عن نفسه، ولم يكن نادماً على الإطلاق. وأثناء محاكمته، قال: "أعلم أنني بريء، ولم أحظ بشرف قتل العربي".
عقد الإدعاء صفقة مع ليفنغر. فأُدين بارتكاب جريمة قتل غير متعمد، وحُكم عليه بالسجن لمدة 5 أشهر وأُطلق سراحه بعد 3 أشهر فقط.
واجه جهاز الشاباك معضلة وكالات الاستخبارات التقليدية: كيف ومتى يسمح لمخبريه بالمشاركة في أعمال العنف التي كان من المفترض أن يضع حداً لها. كان هناك بعض المنطق في تعامل الشاباك مع شاؤول، لكنه بالتأكيد لم يساعد في ردع أعمال الإرهاب في الضفة الغربية، خاصة مع وجود عدد قليل من أفراد الشرطة في الأراضي المحتلة ووجود مجموعة مصالح قوية تضمن إطلاق سراح كل من اتهم بارتكاب أعمال العنف وحصوله على عقوبة مخففة.
وقال شاؤول إنه على مدى السنوات الطويلة التي قضاها كعميل للشاباك، شهد الكثير من الإخفاقات الاستخباراتية والعملياتية للجهاز. وقال إنّ أحد أسوأ هذه الأحداث كان مقتل 3 فلسطينيين في كانون الأول/ديسمبر 1993 انتقاماً لمقتل زعيم للمستوطنين وابنه. فأثناء عودتهم إلى منازلهم بعد يوم عمل في "إسرائيل"، تم سحب الفلسطينيين الثلاثة، الذين ليس لهم أي علاقة بمقتل المستوطنين، من سيارتهم وقتلهم بالقرب من بلدة ترقوميا بالضفة الغربية.
ويذكر شاؤول كيف أخبره ناشط من المستوطنين بفخر أنه وصديقين له قد ارتكبوا جرائم قتل. فاتصل برؤسائه في الشاباك ليخبرهم بما سمعه. وقال شاؤول: "وفجأة رأيت أنهم فقدوا الاهتمام"، ولم يعرف السبب إلا لاحقاً؛ فقد كان اثنان من مطلقي النار من مخبري الشاباك. ولم يرغب الجهاز في الكشف عن طبيعة عملهما، أو بالأحرى في أن يعاني من تورط اثنين من عناصره في جريمة قتل والتستر عليها.
وقال الشاباك في بيان له إنّ رواية شاؤول للأحداث "مليئة بالتفاصيل غير الصحيحة"، لكنه رفض تحديد التفاصيل التي كانت غير صحيحة. ولم يستجب المدعي العام ولا النائب العام لطلبات التعليق، التي تضمنت رواية شاؤول الكاملة للأحداث والأدلة الإضافية التي تم جمعها على مر السنين.
بالإضافة إلى ذلك، أفاد شاؤول بأنّه قدّم عدداً من التقارير إلى المسؤولين عنه حول أنشطة تابع آخر لمائير كاهانا مولود في بروكلين وينتمي إلى رابطة الدفاع اليهودية وهو الدكتور باروخ غولدشتاين. حصل باروخ على شهادة الطب من كلية ألبرت أينشتاين للطب في برونكس، وفي عام 1983 هاجر إلى "إسرائيل"، حيث عمل بدايةً كطبيب في "الجيش" الإسرائيلي، ثم كطبيب طوارئ في كريات أربع، وهي مستوطنة تقع على مقربة من مدينة الخليل.
وخلال السنوات التي مرت، لفت باروخ انتباه الشاباك بآرائه الإقصائية، بوصفه العرب بـ "النازيين الحاليين" وحرص على زيارة الإرهابي اليهودي عامي بوبر في السجن، الذي كان يقضي عقوبة بالسجن بتهمة قتل 7 فلسطينيين عام 1990 في مدينة ريشون لتسيون في ضاحية تل أبيب. وقال شاؤول إنّه اعتبر غولدشتاين في ذلك الوقت "شخصية مؤثرة وخطيرة للغاية" وحث الشاباك مراراً وتكراراً على مراقبته. وأضاف: "لقد أخبروني أن هذا الأمر ليس من شأني".
في 24 شباط/فبراير 1994، قام غولدشتاين فجأة بطرد سائقه الشخصي. وبحسب شاؤول، فقد اكتشف غولدشتاين أنّ السائق يعمل مخبراً لجهاز الشاباك. وبسبب خوفه من اكتشاف أمره، فر السائق من الضفة الغربية على الفور. وبات غولدشتاين يتحرك من دون مراقبة.
وشهد ذلك المساء بداية عيد المساخر الإسرائيلي. استيقظ غولدشتاين في وقت مبكر من اليوم التالي وارتدى زي "الجيش" الإسرائيلي. وعند الساعة 5:20 صباحاً دخل بزيه العسكري الحرم الإبراهيمي، حاملاً معه بندقيته. وتزامن هذا العيد مع شهر رمضان المبارك؛ وفي ذلك الصباح، احتشد مئات المسلمين في قاعة الحرم لأداء الصلاة. فواجه غولدشتاين المصلين وأمطرهم بنحو 108 رصاصات قبل أن يتم جره وضربه حتى الموت. وأسفرت المجزرة عن مقتل 29 من المصلين المسلمين وإصابة أكثر من 100 آخرين.
وفي أعقاب المجزرة، شُكلت لجنة تحقيق رسمية برئاسة القاضي مائير شيمغار، رئيس المحكمة العليا. وانتقد تقرير اللجنة، الذي نُشر في حزيران/يونيو 1994، بشدة الترتيبات الأمنية في الحرم الإبراهيمي وبحث في ممارسات تطبيق القانون فيما يتعلق بالمستوطنين واليمين المتطرف بشكل عام. وتضمن التقرير ملحقاً سرياً، يحتوي على مواد حساسة للغاية للتداول بين الجمهور، بما في ذلك رسالة مؤرخة في كانون الأول/ديسمبر 1992 من مفوض الشرطة الإسرائيلية، يعترف فيها بعجز الشرطة عن تطبيق القانون.
وأكدت اللجنة الادعاءات التي قدمتها منظمات حقوق الإنسان منذ سنوات وتم تجاهلها من قبل المؤسسة الإسرائيلية. ووجدت اللجنة أنّ تطبيق القانون الإسرائيلي كان "غير فعّال في التعامل مع الشكاوى"، وأنه أخّر إصدار لوائح الاتهام، وأنّه نادراً ما كانت تصدر أوامر مقيّدة ضد المجرمين "المتأصلين" بين المستوطنين الأكثر "التزاماً بأفكارهم".
لعنة الموت
من بين المستوطنين المتطرفين الذي زاروا قبر غولدشتاين بانتظام، مراهق متطرف يُدعى إيتمار بن غفير، الذي كان يجمع أحياناً أتباعاً آخرين لغولدشتاين عند قبره في عيد المساخر للاحتفاء بالقاتل المقتول. وغالباً ما يرتدي المحتفلون بعيد المساخر أزياءً رسمية؛ وفي إحدى هذه المناسبات التي تم تصويرها عبر الفيديو، ارتدى بن غفير زي غولدشتاين، وأكمله بلحية مزيفة وسماعة طبيب.
وعقب مجزرة الحرم الابراهيمي، صبّ جيل جديد من الكاهانيين جامّ غضبهم بشكل مباشر على إسحاق رابين بسبب توقيعه على اتفاقية أوسلو. ويقول هيزي كالو، وهو مسؤول كبير في جهاز الشاباك أشرف على القسم الذي كان يضم القسم اليهودي آنذاك: "إنّ المساعي الدبلوماسية لحكومة رابين لن تمر من دون إراقة الدماء".
وأخيراً التفتت حكومة "إسرائيل" لهذا التهديد، وتحرك قسم منها للتعامل معه. وقام جهاز الشاباك بتوسعة القسم اليهودي، وبدأ بإصدار نوع جديد من التحذيرات تفيد بأن الإرهابيين اليهود لا يشكلون تهديداً للعرب فحسب، بل باتوا مصدر تهديد لليهود أيضاً.
وأشارت التحذيرات إلى أنّ الحاخامات في مستوطنات الضفة الغربية، إلى جانب بعض السياسيين اليمينيين، باتوا يدعون علناً إلى استخدام العنف ضد المسؤولين الحكوميين الإسرائيليين، ولا سيما ضد رابين. كما أصدر الحاخامات المتطرفون فتوى شرعية تقضي بجلد رابين بسياط من نار.
وفي عام 1995، أصدر الشاباك عدداً من التحذيرات. ويستحضر كالو ذاكرته، ويقول بأنّ "الأمر لم يعد مجرد تحريض، بل كان معلومات ملموسة عن نية قتل شخصيات سياسية بارزة، بما في ذلك رابين". وفي تشرين الأول/أكتوبر من ذلك العام، تحدّث بن غفير أمام كاميرات التلفزيون الإسرائيلي وهو يحمل شعار سيارة كاديلاك التي تفاخر بتحطيمها خلال مظاهرات فوضوية مناهضة لاتفاقية أوسلو أمام الكنيست والتي تخص موكب رئيس الوزراء. وقال: "كما وصلنا إلى سيارته، سنصل إليه أيضاً". وفي الشهر التالي مات رابين.
نظريات المؤامرة
لم يكن إيغال عامير، الرجل الذي أطلق النار على رابين وأرداه قتيلاً في تل أبيب بعد مسيرة لدعم اتفاقيات أوسلو في 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1995، مجهولًا لدى القسم اليهودي. كان إيغال طالباً يبلغ من العمر 25 عاماً ويدرس القانون وعلوم الكمبيوتر والتوراة في جامعة بار إيلان بالقرب من تل أبيب. وقد غدا متطرفاً بسبب جهود رابين الساعية لتحقيق السلام مع القادة الفلسطينيين. كما كان على علاقة بأفيشاي رافيف، زعيم جماعة "إيال"، وهي جماعة يمينية متطرفة جديدة مرتبطة بشكل فضفاض بحركة "كاخ". في الواقع، كان رافيف مخبراً يعمل لصالح جهاز الشاباك، واسمه الرمزي شامبانيا. وكان قد سمع عامير وهو يتحدث عن عدالة أحكام قانون "دين رودف"، لكنه لم يخبر مرؤوسيه عنه لأنه لم يعتبر بأنه يشكل خطراً داهماً.
وكان ليئور أكرمان، أول محقق في الشاباك يستجوب عامير في مركز الاعتقال الذي كان محتجزاً فيه بعد تنفيذه عملية الاغتيال. بالطبع، لم يشكك أحد بارتكابه هذه الجريمة، لكن تبادر إلى الأذهان سؤال حول إمكانية وجود مؤامرة. فهل لدى عامير شركاء في هذه الجريمة؟ وهل كانت لديهم خطط أخرى؟ يذكر أكرمان أنّه سأل عامير عن كيفية توفيقه بين الإيمان بالله وقراره بقتل رئيس وزراء "إسرائيل". فيجيبه عامير بأنّ الحاخامات قد برروا قرار قتل رئيس الوزراء من أجل حماية "إسرائيل".
كما يذكر أكرمان أنّ عامير كان شخصاً متعجرفاً، ولم يرد مباشرة على السؤال عن المتواطئين معه في هذه الجريمة. وقال، بحسب أكرمان: "اسمع، لقد نجحت في مهمتي. وتمكنت من القيام بشيء أراده الكثير من الناس ولم يجرؤ أحد على القيام به. لقد أطلقت النار من مسدس كان يحمله الكثير من اليهود، لكنني ضغطت على الزناد لأن أحداً آخر لم يكن يملك الشجاعة للقيام بذلك".
وطالب محققو الشاباك بمعرفة هويات هؤلاء الحاخامات. وفي النهاية تمكّن المحققون من أخذ ما يكفي منه للتعرف على اثنين منهم على الأقل. وتوجّه كالو، رئيس القسم الذي يشرف على القسم اليهودي، إلى النائب العام ليطالب باعتقال الحاخامين على الفور ومحاكمتهما بتهمة التحريض على القتل. إلّا أنّ المدعي العام لم يوافق على ذلك، قائلاً إنّ تشجيع الحاخامات كان تعبيراً عن الرأي ولا يمكن ربطه مباشرة بجريمة القتل. وعليه، لم يتم القبض على أي حاخام.
بعد ذلك بأيام، قامت الشرطة باحتجاز رافيف، مخبر الشاباك المعروف باسم شامبانيا، والتحقيق معه بتهمة التآمر لقتل رابين، ولكن تم إطلاق سراحه بعد فترة وجيزة. وانكشف فيما بعد دور رافيف كمخبر؛ وفي عام 1999، أُلقي القبض عليه لفشله في التصرف بناء على علمه المسبق بعملية الاغتيال. وقد تمت تبرئته من جميع التهم الموجهة إليه، لكنه أصبح منذ ذلك الحين يجسد إحدى نظريات المؤامرة المتطرفة التي تجعل فشله في دق ناقوس الخطر دليلاً على أنّ مقتل رئيس الوزراء لم يكن بسبب الخطاب العنيف لليمين الاستيطاني، أو أحكام الإعدام الصادرة عن الحاخامات، أو التحريض من قبل قادة المعارضة في "إسرائيل"، ولكن للجهود الناجحة للغاية التي قام بها مخبر الشاباك الذي لعب دور المحرّض. وهناك نظرية مؤامرة أكثر تعقيداً وغدراً، ولكنها زائفة، وهي أن الشاباك نفسه هو الذي اغتال رابين أو سمح باغتياله.
استقال غيلون، رئيس الجهاز آنذاك من منصبه، واستمرت التحقيقات والاتهامات والاتهامات المضادة لسنوات. وحتى السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، كان مقتل رئيس الوزراء يُعد أكبر فشل في تاريخ جهاز الشاباك. وحاول كالو إيجاز ما لحق بجهاز الأمن الإسرائيلي من إخفاقات. وكتب في مذكراته عام 2021: "أنّ الإجابة الوحيدة التي يمكن أن نقدمها أصدقائي وأنا لتبرير الفشل هي اللامبالاة. فهم ببساطة لم يصدقوا أنّ أمراً كهذا قد يحدث، وعلى يد يهودي آخر".
تقرير ساسون
في عام 2001، وتزامناً مع إطلاق الانتفاضة الثانية العنان لموجة من العمليات الانتحارية الفلسطينية ضد الإسرائيليين، تولى آرييل شارون منصب رئيس الوزراء. فتوقفت عملية السلام المتعثرة تماماً في ظل تصاعد أعمال العنف، وبدا أنّ صعود شارون في البداية يمثل انتصاراً آخر للمستوطنين. ولكن في عام 2003، وفي واحدة من التحولات الأكثر إثارة للدهشة في التاريخ السياسي الإسرائيلي، أعلن شارون ما أسماه "فك الارتباط" الإسرائيلي عن غزة، مع خطة لإبعاد المستوطنين، بالقوة إذا لزم الأمر، على مدى العامين المقبلين.
وكانت دوافع هذه الخطة معقدة ومحور نقاش واسع. فبالنسبة لشارون، على الأقل، بدا الأمر وكأنه خطوة تكتيكية. وقال كبير مستشاريه دوف فايسغلاس لصحيفة "هآرتس" في ذلك الوقت إنّ "أهمية خطة فك الارتباط تكمن في تجميد عملية السلام. وعندما يتم تجميد هذه العملية، فإنك تمنع بذلك إقامة دولة فلسطينية". إلّا أنّ شارون كان يواجه ضغوطاً كبيرة من الرئيس جورج دبليو بوش لحمله على القيام بشيء حيال المستوطنات غير القانونية الآخذة في التوسع في الضفة الغربية، والتي كانت تشكل عائقاً إضافياً أمام أيّ اتفاقات أمنية إقليمية. وفي تموز/يوليو 2004، طلب شارون من تاليا ساسون، التي تقاعدت مؤخراً من منصبها كرئيسة قسم المهام الخاصة في النيابة العامة، صياغة رأي قانوني حول موضوع "البؤر الاستيطانية غير المرخصة" في الضفة الغربية. وكانت تعليماته واضحة وتقضي بالتحقيق في الوكالات والسلطات الحكومية الإسرائيلية التي شاركت سراً في بناء البؤر الاستيطانية. وقالت ساسون في مقابلة أجريت معها بعد عقدين من الزمن إنّ "شارون لم يتدخل قط في عملي، ولم يفاجأ بالنتائج. ففي النهاية، كان يدرك أفضل من أي شخص آخر كيف هو الوضع على الأرض، ولم يتوقع سوى نتائج خطيرة".
وتساءلت ساسون كيف تم بناء مئات البؤر الاستيطانية في العقد الذي أعقب أمر إسحاق رابين بوقف بناء معظم المستوطنات الجديدة؟ إلاّ أن جهودها للعثور على إجابة قوبلت بالتأخير والتجنب والأكاذيب الواضحة. فاستخدمت في تقريرها النهائي لغة حذرة وحادة في نفس الوقت، قائلةً: "لم يوافق كل من لجأت إليه على التحدث معي. وادعى أحدهم أنه كان مشغولاً لدرجة أنه غير قادر على مقابلتي، بينما حضر آخر الاجتماع لكنه رفض إعطائي أجوبة شافية".
وقد وجدت ساسون أنه في الفترة ما بين كانون الثاني/يناير 2000 وحزيران/يونيو 2003، أصدر قسم في وزارة البناء والإسكان الإسرائيلية 77 عقداً لإنشاء 33 موقعاً في الضفة الغربية، وجميعها غير قانونية. وفي بعض الحالات، دفعت الوزارة حتى تكاليف تعبيد الطرق وبناء المباني في المستوطنات التي أصدرت وزارة الدفاع أوامر بهدمها.
بالإضافة إلى ذلك، أخفى عدد من الوزارات الحكومية حقيقة تحويل الأموال إلى الضفة الغربية، والإبلاغ عنها بموجب بنود الميزانية مثل "التنمية العامة المتنوعة". وكما هو الحال في تقرير "كارب" الذي صدر قبل عقدين من الزمن، اكتشفت ساسون وزملاؤها في وزارة العدل أنّ الضفة الغربية كانت تدار بموجب قوانين منفصلة تماماً، وأن هذه القوانين، كما تقول، "بدت لي غريبة تماماً".
وقد ركز تقرير ساسون بشكل خاص على آفي ماعوز، الذي تولى إدارة وزارة البناء والإسكان خلال معظم هذه الفترة. وماعوز هو ناشط سياسي تحدث علناً في بداية مسيرته المهنية عن طرد جميع العرب من الضفة الغربية، وساعد في تأسيس مستوطنة جنوب القدس خلال التسعينيات وبدأ في بناء تحالف مهني مع بنيامين نتنياهو، الذي كان آنذاك سفير "إسرائيل" لدى الولايات المتحدة وعلى وشك أن يتولى منصب رئيس الوزراء للمرة الأولى. وبعد سنوات، سيكون لماعوز دور فعال في ضمان بقاء نتنياهو السياسي.
وذكرت ساسون في تقريرها أنّ "الصورة التي تظهر في عين الناظر قاسية. فبدلاً من أن تقرر حكومة "إسرائيل" إقامة المستوطنات في أراضي يهودا والسامرة، أخذها آخرون منذ منتصف التسعينات وما بعده. وكتبت أنّ المستوطنين كانوا "القوة المحركة"، إلّا أنه لم يكن من الممكن أن ينجحوا لولا مساعدة "وزراء البناء والإسكان الذين تعاقبوا على الوزارة في الفترات المعنية، وغض بعضهم الطرف عن الموضوع، بينما قدّم آخرون الدعم والتشجيع".
وذكرت ساسون في تقريرها أنّ هذه الشبكة السرية كانت تعمل "بتمويل ضخم من إسرائيل، من دون أدنى قدر من الشفافية العامة والمعايير الإلزامية. إن إقامة البؤر الاستيطانية غير المرخصة تتم بانتهاك الإجراءات السليمة والقواعد الإدارية العامة، وبالانتهاك الصارخ والمستمر للقانون على وجه التحديد".
وحذّرت ساسون من أنّ هذه الانتهاكات صدرت عن الحكومة، قائلةً إنّ "إسرائيل ومعها الهيئات العامة هي من خرقت القانون والقواعد وانتهكت الإجراءات التي حددتها لنفسها". وأشارت إلى أنّ هذا الصراع أدى بشكل فعال إلى تحييد الضوابط والتوازنات الداخلية في "إسرائيل" وشكل تهديداً خطيراً على استقامة الأمة، فالوكالات المعنية بإنفاذ القوانين غير قادرة على التحرّك ضد الإدارات الحكومية التي تنتهك القانون بحد ذاتها".
وكما حدث للتقرير السرّي الذي أعدته جوديث كارب قبل عقود من الزمن، لم يكن لتقرير ساسون، الذي أُتيح للجمهور الاطلاع عليه في آذار/مارس 2005، أي تأثير. وباعتبار أنّها حصلت على تفويض مباشر من رئيس الوزراء، ظنت ساسون أنّ التحقيق الذي تجريه قد يؤدي إلى تفكيك البؤر الاستيطانية غير القانونية التي انتشرت في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية. ولكن حتى شارون نفسه، بمنصبه الرفيع، وجد نفسه عاجزاً أمام الآلية القائمة آنذاك لحماية المستوطنات وتوسيع رقعتها في الضفة الغربية، وهي الآلية نفسها التي ساعدت في بنائها.
كل هذا حدث على خلفية الانسحاب من غزة. وقد أثار هذا الجهد معارضة شديدة ليس من قبل المستوطنين فحسب، بل أيضاً من جزء متنام من المؤسسة السياسية. واتخذ المستوطنون أنفسهم إجراءات أكثر نشاطاً. ففي عام 2005، تلقى القسم اليهودي في جهاز الشاباك معلومات استخباراتية حول مؤامرة لإبطاء الانسحاب الإسرائيلي من غزة باستخدام 700 لتر من البنزين لتفجير المركبات على طريق سريع رئيسي. واستناداً إلى هذا البلاغ، اعتقلت الشرطة 6 رجال في وسط "إسرائيل". وكان أحدهم بتسلئيل سموتريتش، الوزير المشرف على الشؤون المدنية في الضفة الغربية.
وتم احتجاز سموتريتش، الذي كان يبلغ من العمر آنذاك 25 عاماً، واستجوابه لعدة أسابيع. ويقول يتسحاق إيلان، أحد ضباط الشاباك الذين حضروا في التحقيق، إنه ظل "صامتًا مثل السمكة" طوال الوقت "وكأنه مجرم متمرس". وبحسب إيلان، فقد تم إطلاق سراحه من دون توجيه أي اتهامات، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنّ جهاز الشاباك كان يعلم أنّ تقديم سموتريتش للمحاكمة قد يفضح عملاءه المتواجدين داخل الجماعات اليهودية المتطرفة، وإلى اعتقادهم بأن سموتريتش سيتلقى على الأرجح عقوبة مخففة في جميع الأحوال.
وغداة عودته منتصراً كرئيس للوزراء في عام 2009، شرع نتنياهو في الانتقاص من أهمية تقرير تاليا ساسون، الذي اعتبره وحلفاؤه عقبة أمام تسريع وتيرة الحملة الاستيطانية. وقام بتعيين لجنة تحقيق خاصة به، برئاسة القاضي إدموند ليفي من المحكمة العليا، المعروف بدعمه لقضية المستوطنين. لكن تقرير ليفي، الذي اكتمل في عام 2012، لم يقوّض النتائج التي توصل إليها تقرير ساسون، بل عززها في بعض النواحي. ووجدت اللجنة أنّ كبار المسؤولين الإسرائيليين كانوا على علم تام بما يحدث في المناطق، وكانوا ينكرون ذلك ببساطة من أجل المنفعة السياسية.
الجزء الثالث: جيل جديد من الكاهانيين
لم يُفلح وصول نتنياهو، اليميني المتطرف، إلى رئاسة الحكومة، في الحد من انتشار العنف المناهض للحكومة داخل حركة المستوطنين. وكان هناك جيل جديد من الكاهانيين يتخذ منحى أكثر تطرفاً ليس ضد السياسيين الإسرائيليين الذين قد يعارضونهم أو يشجعونهم بشكل غير كاف فحسب، بل ضد فكرة "الدولة الإسرائيلية الديمقراطية" بحد ذاتها. ودعت مجموعة تطلق على نفسها اسم "شباب التلال" إلى القضاء على "الدولة" الصهيونية بالكامل. وكان مائير إيتنغر، الذي يحمل اسم جده مائير كهانا، أحد قادة هذه المجموعة وقد عمل على جعل آراء جده تبدو وسطية.
وقد تمثل هدف المجموعة في هدم المؤسسات الإسرائيلية وإقامة "الحكم اليهودي"، الذي يقضي باختيار ملك وبناء معبد بدلاً من مساجد القدس المقدسة لدى مسلمي العالم أجمع، وفرض نظام ديني على جميع اليهود. وخلال مقابلة له، قال إيهود أولمرت، الذي شغل منصب رئيس الوزراء من عام 2006 إلى عام 2009، إنّ "شباب التلال" "يؤمنون بشدّة وبكل صدق أنّ هذا هو العمل الصحيح الذي ينبغي القيام به من أجل إسرائيل، وأنّ هذا هو الخلاص والضمان الوحيد لمستقبلها".
وتستذكر عضوة سابقة في مجموعة "شباب التلال"، طلبت عدم الكشف عن هويتها خشية أن يؤدي حديثها العلني عن الموضوع إلى تعريض حياتها للخطر، كيف استخدمت هي وأصدقاؤها موقعاً استيطانياً غير قانوني على قمة تل في الضفة الغربية كقاعدة لإلقاء الحجارة على السيارات الفلسطينية، فتقول: "يتصل الفلسطينيون بالشرطة، ونعلم أن لدينا 30 دقيقة على الأقل قبل وصولهم، في حال وصلوا. وفي حال وصلوا، لن يعتقلوا أحداً منا. لقد فعلنا هذا الأمر عشرات المرات". وتضيف أنّ شرطة الضفة الغربية لم تكن مهتمة بالتحقيق في أعمال العنف. فعندما كنت صغيرة، اعتقدت أنني أتفوق على الشرطة لأنني كنت ذكية. ومع الوقت، اتضح لي أنهم إمّا لا يحاولون أو أنهم أغبياء جداً".
وتشير العضوة السابقة في تنظيم "شباب التلال" إلى أنها بدأت في الانسحاب من المجموعة بعد أن أصبحت تكتيكاتها أكثر تطرفاً وبمجرد أنّ بدأ إيتنغر في التحدث علناً عن قتل الفلسطينيين. فعرضت أن تصبح مخبرة للشرطة، وخلال لقاء مع ضباط استخبارات الشرطة في عام 2015، أوضحت خطط المجموعة الرامية إلى ارتكاب جرائم قتل وإيذاء أي يهودي يقف في طريقها. وبحسب روايتها، أخبرت الشرطة عن الجهود المبذولة لاستطلاع منازل الفلسطينيين قبل الاستقرار على الهدف. وتقول إنّ الشرطة كانت قادرة على فتح تحقيق، لكنها لم تكن فضولية بما يكفي لسؤالها عن أسماء الأشخاص الذين خططوا للهجوم.
وفي عام 2013، شكل إيتنغر وأعضاء آخرون في مجموعة "شباب التلال" خلية سرية أطلقت على نفسها اسم "تمرّد"، كانت مصممة للتحريض على التمرد ضد الحكومة التي "تمنعنا من بناء الهيكل، الأمر الذي يعترض طريقنا للوصول إلى الخلاص الحقيقي والمطلق".
وفي أثناء تفتيش أحد المنازل الآمنة التابعة للمجموعة، اكتشف محققو الشاباك الوثائق التأسيسية للخلية السرية "تمرّد". وأوضح أحدهم أنّ "دولة إسرائيل ليس لها الحق في الوجود؛ وبالتالي، فإننا غير ملزمين بقواعد اللعبة". ودعت الوثائق إلى القضاء على "إسرائيل" وأوضحت أنّه في الدولة الجديدة التي ستُقام مكانها، لن يكون هناك أي مكان على الإطلاق لغير اليهود، وللعرب على وجه الخصوص. وبررت ارتكاب أعضائها للجرائم، بالقول: "في حال لم يخرج هؤلاء غير اليهود من أرضنا يجوز لنا قتلهم، من دون التمييز بين النساء والرجال والأطفال".
لم يكن هذا الأمر مجرد كلام فارغ. فقد وضع إيتنغر ورفاقه خطة تضمنت جداول زمنية والخطوات التي يجب اتخاذها في كل مرحلة. حتى أن أحد الأعضاء قام بتأليف كتيّب تدريب يتضمن تعليمات حول كيفية تشكيل خلايا إرهابية وحرق المنازل. ونصح الكتيّب "من أجل منع السكان من الهروب، يمكنك ترك إطارات مشتعلة في مدخل المنزل".
وقد نفذت مجموعة "تمرّد" هجومها الأول في شباط/فبراير 2014، قامت خلاله بإلقاء قنابل حارقة على منزل غير مأهول في قرية عربية صغيرة في الضفة الغربية تسمى سلواد، وتلاه المزيد من هجمات الحرق المتعمد واقتلاع بساتين الزيتون وتدمير مخازن الحبوب الفلسطينية. كما أقدم أعضاء المجموعة على إحراق المساجد والأديرة والكنائس، بما في ذلك كنيسة "تكثير الخبز والسمك" الواقعة على ضفاف بحيرة طبريا. ورصد ضابط شرطة إيتنغر نفسه وهو يهاجم قطيع أغنام يملكه راع عربي. ورجم خروفاً ثم ذبحه أمام الراعي، كما شهد ضابط لاحقاً. وفي معرض تعليقه على ما شهده، قال: "لقد كان الأمر صادماً! كان الجنون يتملكه".
وقد وثق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية 323 حادثة عنف ارتكبها المستوطنون ضد الفلسطينيين في عام 2014؛ وأصيب فلسطينيون في 107 من هذه الحوادث. وبحلول العام التالي، صعّدت مجموعة "تمرّد" أعمال العنف من خلال الدعوة علناً إلى قتل العرب.
وقد حدّد جهاز الشاباك والشرطة أحد أبرز أعضاء حركة "تمرّد"، وهو عميرام بن أوليئيل، وأخضعوه للمراقبة. لكن الجهاز فشل في منع موجة العنف التي أطلقها. وفي ليلة 31 حزيران/يوليو 2015، انطلق بن أوليئيل لتنفيذ عملية قتل في قرية دوما وسط الضفة الغربية. وقام بإعداد حقيبة تحتوي على زجاجتين من السائل الحارق، وخِرق، وقداحة، وعلبة أعواد ثقاب، وقفازات، ورذاذ طلاء أسود. وبحسب ما ورد في التحقيقات، سعى بن أوليئيل لاختيار منزل تدبّ فيه الحياة لضمان احتراق المنزل ومن فيه بالكامل. ووجد أخيراً منزلاً يعود لريهام وسعد دوابشة، وهما أم وأب شابان. ففتح نافذة وألقى زجاجة مولوتوف داخل المنزل ولاذ بالفرار. ونتيجة للحريق الذي أعقب ذلك الهجوم، أصيب الوالدان بجروح بالغة أدت إلى وفاتهما.
ويقول أكيرمان، المسؤول السابق في جهاز الشاباك، إنّه لطالما كان واضحاً أنّ هذه الجماعات المتوحشة ستنتقل من مرحلة التنمر على العرب إلى مرحلة تدمير ممتلكاتهم وبساتينهم وقتلهم في النهاية. ولا يزال إلى اليوم غاضباً بشأن كيفية تعامل الجهاز مع الإرهاب اليهودي، رغم أنّه وبحسب أكيرمان "يعرف كيفية التعامل مع هذه المجموعات من خلال إصدار إجراءات عاجلة ووضع المشتبه فيهم رهن الاعتقال الإداري واستخدام أساليب خاصة في التحقيق تجعلهم يستسلمون". وعلى الرغم من أنّ الجهاز كان مستعداً تماماً لتطبيق هذه الأساليب للتحقيق مع الفلسطينيين، إلّا أنه مقيّداً أكثر في تعامله مع الإرهاب اليهودي. فقد "سمح لهم بالتحريض وانتقلوا إلى المرحلة التالية وبدأوا في إحراق المساجد والكنائس. ولم يردعهم ذلك، فدخلوا دوما وأحرقوا عائلة فيها".
ادعى الشاباك في البداية أنه يواجه صعوبة في تحديد مكان القتلة، على الرغم من أنه كان من المفترض أن يكونوا جميعاً تحت المراقبة المستمرة. وعندما تم القبض على بن أوليئيل وغيره من الجناة، ألقى السياسيون اليمينيون خطابات نارية ضد الشاباك واجتمعوا مع عائلات الجناة لإظهار الدعم لهم. وحُكم على بن أوليئيل بالسجن المؤبد، ووضع إتينغر أخيراً رهن الاعتقال الإداري، وبدأ الخلاف بين الطرفين بالتطور. وفي كانون الأول/ديسمبر 2015، تداول أعضاء "شباب التلال" مقطع فيديو يظهر أعضاء من حركة "تمرد" وهم يرقصون بنشوة بالبنادق والمسدسات، ويرددون أغانٍ تحض على الكراهية للفلسطينيين؛ بينما قام أحدهم بطعن صورة الطفل الصغير المقتول علي دوابشة وحرقها.
الأصدقاء الأميركيون
لطالما كانت مسألة توسيع المستوطنات تشكل مصدر توتر في العلاقات الإسرائيلية-الأميركية، فقد أمضى المسؤولون الأميركيون سنوات وهم يحذرون نتنياهو في الاجتماعات العامة والخاصة على حد سواء بشأن دعمه لهذا المشروع. لكن انتخاب دونالد ترامب في عام 2016 أنهى كل ذلك. إذ كانت سياسة إدارته الجديدة تجاه "إسرائيل" بقيادة صهره، جاريد كوشنر، الذي كانت تربطه علاقة شخصية قديمة مع نتنياهو، صديق والده الذي أقام في منزل عائلته في نيوجيرسي. وكان ترامب، في إطار أجندة إقليمية أوسع تتوافق تماماً مع خطط نتنياهو الخاصة، يأمل أيضاً في إفشال الاتفاق النووي مع إيران الذي تفاوض عليه باراك أوباما ولعب دور الوسيط في اتفاقيات دبلوماسية بين "إسرائيل" والدول العربية التي تركت مسألة الدولة الفلسطينية من دون حل وخارج النقاش.
وإذا كانت هناك أي تساؤلات حول موقف الإدارة الجديدة من المستوطنات، فقد أجاب عنها ترامب بمجرد اختياره سفير بلاده لدى "إسرائيل". فقد اختار ديفيد فريدمان وهو محام متخصص بقضايا الإفلاس، ساعد لسنوات في إدارة منظمة أميركية غير ربحية جمعت ملايين الدولارات لصالح بيت إيل، إحدى مستوطنات "غوش إيمونيم" الأولى في الضفة الغربية والمكان الذي نشأ فيه بتسلئيل سموتريتش وتعلم. وساعدت المنظمة، التي تدعمها عائلة ترامب أيضاً، في تمويل المدارس والمؤسسات الأخرى المتواجدة في مستوطنة بيت إيل. وعقب انتقال ترامب، أشار فريدمان إلى "احتلال إسرائيل المزعوم" للأراضي الفلسطينية وخالف السياسة الأميركية القائمة منذ فترة طويلة بقوله إنّ "المستوطنات تُعد جزءاً من إسرائيل".
وهذا الأمر لم يجعل فريدمان متلقياً ودوداً بشكل خاص للتحذيرات التي يوجهها بانتظام الجنرال مارك شوارتز، ذو الثلاث نجوم الذي وصل عام 2019 إلى السفارة في القدس لتنسيق الأمن بين الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية. ولم يكن شوارتز، الذي ينتمي إلى كتيبة القبعات الخضراء والذي شارك في عمليات انتشار قتالية في أفغانستان والعراق وشغل منصب نائب قائد قيادة العمليات الخاصة المشتركة، وهي فرقة العمل العسكرية التي تتمتع بسلطة على وحدات المهام الخاصة الأميركية لمكافحة الإرهاب، يفتقر إلى الخبرة في الشرق الأوسط.
إلّا أنه صُدم بالمشهد السائد في الضفة الغربية، حيث يرتكب المستوطنون الجرائم من دون عقاب، وتغيب قوات الأمن عن خارج المستوطنات ويؤجج "الجيش" الإسرائيلي التوترات بعملياته الخاصة. ويذكر شوارتز مدى غضبه إزاء ما أسماه تكتيكات "العقاب الجماعي" التي يتبعها "الجيش"، بما في ذلك هدم منازل الفلسطينيين، والتي اعتبرها غير مبررة وتؤدي إلى نتائج عكسية، قائلاً: "قلت: يا شباب، هذه ليست الطريقة التي تتصرف بها الجيوش المحترفة". وكما رأى شوارتز، كان واقع الضفة الغربية في بعض النواحي يشبه واقع الجنوب الأميركي في الستينيات؛ إلّا أنه وفي أي لحظة قد يصبح الوضع أكثر اضطراباً، ما يؤدي إلى اندلاع الانتفاضة التالية.
كان شوارتز دبلوماسياً عندما استذكر علاقته بفريدمان، رئيسه السابق. فيقول عنه إنه كان "مستمعاً جيداً"، لكن عند إثارة المخاوف بشأن المستوطنات، كان فريدمان يتجنب الموضوع. كما ناقش شوارتز مخاوفه بشأن عنف المستوطنين مباشرة مع جهاز الشاباك و"الجيش" الإسرائيلي. وعلى حد علمه، لم يتابع فريدمان الأمر مع القيادة السياسية.
تحالف المستوطنين
إنّ إصرار بنيامين نتنياهو على أن يصبح رئيساً للوزراء لولاية سادسة غير مسبوقة كلّفه التحالف مع حركة كان يتجنبها ذات يوم، لكنها دخلت إلى التيار السياسي الرئيس من خلال انجراف "إسرائيل" المستمر نحو اليمين. وقد فشل نتنياهو، الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة تلقي رشى وتهم فساد أخرى، مراراً في محاولاته لتشكيل ائتلاف بعد أن أعلنت معظم الأحزاب أنها لم تعد مستعدة للانضمام إليه. وقد شارك شخصياً في مفاوضات للتحالف مع حزب "القوة اليهودية" بقيادة إيتمار بن غفير وحزب "الصهيونية الدينية" بقيادة بتسلئيل سموتريتش، ما جعلهما بمنزلة صانعي الملوك لأي شخص يحاول تشكيل حكومة ائتلافية. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2022، أثمر هذا الرهان؛ وبفضل الدعم الحيوي الحالي الذي يقدمه اليمين المتطرف، استرجع نتنياهو منصبه.
وكان الرجلان اللذان وصلا إلى السلطة بموجب هذا الاتفاق من أكثر الشخصيات تطرفاً على الإطلاق التي شغلت مثل هذه المناصب الرفيعة في الحكومة الإسرائيلية. وكان جهاز الشاباك قد راقب بن غفير في السنوات التي تلت مقتل إسحاق رابين، وتم اعتقاله بتهم متعددة بما في ذلك التحريض على العنصرية ودعم منظمة إرهابية. فتمت تبرئته أو اعتباره غير مسؤول في بعض القضايا، لكنه أدين أيضاً عدة مرات وقضى بعض الوقت في السجن. وخلال الانتفاضة الثانية، قاد احتجاجات تدعو إلى اتخاذ إجراءات متطرفة ضد العرب ومضايقة السياسيين الإسرائيليين الذين اعتقد بأنهم ليسوا متشددين بما فيه الكفاية.
بعد ذلك، أجرى بن غفير تغييراً جذرياً تمثل بالالتحاق بكلية الحقوق. كما تولى وظيفة مساعد لميخائيل بن آري، عضو الكنيست من حزب الاتحاد الوطني، الذي استقطب الكثير من أتباع حركة "كاخ". وفي عام 2011، وبعد جدل قانوني كبير حول سجله الجنائي، تم قبوله في نقابة المحامين. وقام بتغيير تسريحة شعره وملابسه ليبدو أكثر قبولاً وبدأ العمل من الداخل. وقال ذات مرة إنّه يمثل "الجنود والمدنيين الذين يجدون أنفسهم في مأزق قانوني بسبب الوضع الأمني في إسرائيل". بالإضافة إلى ذلك، عينه نتنياهو وزيراً للأمن القومي ومنحه سلطة على الشرطة.
كذلك انتقل سموتريتش إلى الحياة العامة بعد اعتقاله عام 2005 من قبل الشاباك بتهمة التخطيط لإغلاق الطرق لوقف الانسحاب الإسرائيلي من غزة. واتخذ من القسم اليهودي في جهاز الشاباك هدفاً متكرراً للانتقاد، واشتكى من أنّه يهدر الوقت والمال في التحقيق في الجرائم التي يرتكبها اليهود، "في حين أنّ الإرهابيين الحقيقيين هم الفلسطينيون".
عام 2022، عينه نتنياهو وزيراً للمالية ووزيراً للدفاع، وجعله مشرفاً على الشؤون المدنية في الضفة الغربية، وواصل الضغط بشكل مطرد للاستيلاء على السلطة في المنطقة من "الجيش". كما جلبت انتخابات 2022 آفي ماعوز إلى الكنيست، المسؤول السابق في وزارة الإسكان الذي وصفته تاليا ساسون ذات مرة بأنه اليد الخفية لدعم الحكومة الإسرائيلية للمستوطنات غير القانونية. ومنذ ذلك الحين، انضم ماعوز إلى حزب "نعوم" اليميني المتطرف، واستخدمه كمنصة لتعزيز السياسات العنصرية والمعادية للمثليين. ولم ينس ولم يسامح ساسون أبداً. وفي "اليوم العالمي لمكافحة الفساد" لعام 2022، صعد ماعوز إلى منبر الكنيست وندد بتقرير ساسون الذي صدر قبل نحو عقدين من الزمن، قائلاً إنه كُتب "كرهاً بالمستوطنات ورغبة في إلحاق الضرر بها". وأشار إلى أن هذا هو "الفساد العام بأعلى مستوياته، ويجب محاكمة أشخاص مثل تاليا ساسون عليه".
وبعد أيام من توليه منصبه الجديد، أمر بن غفير الشرطة بإزالة الأعلام الفلسطينية من الأماكن العامة في "إسرائيل"، قائلاً إنها "تحرض على الإرهاب وتشجعه". من جانبه، أمر سموتريتش بإجراء تخفيضات حادة في المدفوعات المقدمة للسلطة الفلسطينية، وهي الخطوة التي قادت جهاز الشاباك وقسم المخابرات في "الجيش" الإسرائيلي لإثارة المخاوف من أن التخفيضات ستتعارض مع الجهود التي تبذلها السلطة الفلسطينية لضبط العمليات الفلسطينية ومنعها.
وبعد أسابيع من أداء الحكومة الجديدة اليمين الدستورية، قررت فرقة "يهودا والسامرة" في "الجيش" الإسرائيلي توزيع فيديو تعليمي على جنود الوحدة البرية التي ستنتشر في الضفة الغربية. يصور الفيديو الذي يحمل عنوان "التحدي العملياتي: المزارع"، المستوطنين كمزارعين مسالمين يعيشون حياة ريفية ويطعمون الماعز ويرعون الأغنام والأبقار في ظروف خطيرة. وتُعدّ البؤر الاستيطانية غير القانونية التي تتكاثر حول الضفة الغربية "أماكن استيطان صغيرة ومعزولة، تضم كل منها مجموعة صغيرة من السكان، وقليل منهم – أو لا أحد منهم – يحمل أسلحة ووسائل دفاع خفيفة أو غير مُجدية".
وبحسب مقطع الفيديو، فإنّ المستوطنين هم الذين يتعرضون لخطر الهجمات المستمر، سواء كان ذلك عبر "اختراق للمزرعة، أو الهجوم على راعٍ في المراعي، أو افتعال الحرائق المتعمدة" أو "تدمير الممتلكات". ويُظهر الفيديو أن على قائد كل سرية عسكرية تحرس كل مزرعة "التواصل مع الشخص المسؤول عن الأمن والبقاء على اتصال معه". ويُشجع الجنود والضباط على تنمية علاقة وثيقة وحميمة مع المستوطنين. ويُقال للمشاهدين إنّ "الأمور غير الرسمية أهم بكثير من الأمور الرسمية".
ويتناول الفيديو عدداً من المسائل الأمنية، لكنّه لا يتناول مسألة القانون على الإطلاق. وعندما سألنا قائد الفرقة التي أنتجت الفيديو العميد آفي بلوث، عن سبب ترويج "الجيش" للدعم العسكري للمستوطنات التي تعتبر غير قانونية بموجب القانون الإسرائيلي، أكد بشكل مباشر أنّ المزارع قانونية بالفعل وعرض علينا الترتيب للقيام بجولة في بعضها. وفي وقت لاحق، اعتذر متحدث باسم "الجيش" عن تصريحات العميد، واعترف بأنّ المزارع غير قانونية وأعلن أنه لن يتم الترويج للفيديو بعد الآن. وفي شهر أيار/مايو من هذا العام، تمت ترقية بلوث لاحقاً لرئاسة القيادة المركزية الإسرائيلية، المسؤولة عن جميع القوات الإسرائيلية في وسط "إسرائيل" والضفة الغربية.
وفي شهر آب/أغسطس، سيحل بلوث محل اللواء يهودا فوكس، الذي شهد خلال الأشهر الأخيرة من توليه مسؤولية الضفة الغربية انهياراً شبه كامل في تطبيق القانون في منطقة قيادته. وفي أواخر تشرين الأول/أكتوبر، كتب فوكس رسالة إلى رئيسه، وهو رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، قال فيها إنّ تصاعد وتيرة الإرهاب اليهودي الذي جاء انتقاماً لهجمات 7 أكتوبر "يمكن أن يشعل النار في الضفة الغربية". هذا ويُعد "الجيش" أعلى سلطة أمنية في الضفة الغربية، لكن القائد الأعلى للجيش ألقى اللوم بشكل مباشر على الشرطة، التي تخضع في النهاية لسلطة بن غفير. وقال فوكس إنّه أنشأ قوة عمل خاصة للتعامل مع الإرهاب اليهودي، لكن مسألة التحقيق مع الجناة واعتقالهم تقع "في يد الشرطة الإسرائيلية بالكامل"، مضيفاً أنّها لا تؤدي عملها كما يجب.
"طريق واحد للمضي قدماً"
عندما أتى اليوم المنتظر في كانون الثاني/يناير الحالي للوقوف أمام المحكمة العليا من أجل النظر في الدعوى المرفوعة من قبل أهالي خربة زنوتا، وصل القرويون النازحون متأخرين ساعة واحدة. وكانوا قد استحصلوا على تصاريح دخول من مكتب التنسيق الإقليمي لحضور الجلسة، لكن قوات الأمن أخّرتهم قبل الوصول إلى نقطة التفتيش التي تفصل "إسرائيل" عن الضفة الغربية. وأشارت محاميتهم، قمر مشرقي أسعد، إلى أنّ كفاحهم لحضور جلسة الاستماع الخاصة بهم يعكس جوهر التماسهم، وأصرت على أنّ جلسة الاستماع لا يمكن أن تستمر من دونهم، فوافق القضاة على انتظارهم.
وتم اقتياد القرويين أخيراً إلى قاعة المحكمة، وبدأت مشرقي أسعد في عرض القضية أمام المحكمة. لكن المحاكمة أُجريت باللغة العبرية، لذلك لم يتمكن معظم القرويين من متابعة المرافعة التي تصف الرعب اليومي الذي يمارسه المستوطنون والغياب الواضح لأي جهود أمنية لإيقافهم.
ونفى المحامون الذين يمثلون "الجيش" والشرطة مزاعم سوء المعاملة وعدم تطبيق القانون. وعندما سأل أحد القضاة عن الخطوات العملية التي سيتم اتخاذها إذا أراد القرويون العودة، أجاب أحد المحامين أنّ بإمكانهم العودة بالفعل، ولم يكن هناك أمر يمنعهم من القيام بذلك.
وكان المتحدث التالي هو العقيد روي تسفايغ لافي، ضابط مديرية العمليات في القيادة المركزية، الذي ادعى أنّ عدداً من هذه الحوادث تنطوي على ادعاءات كاذبة. ورجّح أن يكون بعض القرويين قد دمّروا منازلهم بسبب "شأن داخلي"، والآن باتوا يلقون اللوم على المستوطنين للهروب من عواقب أفعالهم.
وكانت آراء العقيد تسفايغ لافي بشأن المستوطنات ودوره في حمايتها معروفة للغاية. ففي خطاب ألقاه عام 2022، قال لمجموعة من طلاب المدارس الدينية في الضفة الغربية إنّ "الجيش والمستوطنات متشابهان".
وفي أوائل أيار/مايو، أمرت المحكمة الدولة بتفسير سبب فشل الشرطة في وقف الهجمات، وأعلنت عن حق القرويين في العودة إلى منازلهم. كما أمرت المحكمة الدولة بتقديم تفاصيل حول كيفية ضمان العودة الآمنة للقرويين. وعليه، حان الآن دور الدولة لتقرر كيف ستلتزم بقرار المحكمة أو إذا كانت ستمتثل له.
وفي الوقت الذي أصدرت فيه المحكمة العليا أحكامها، كانت الولايات المتحدة قد اتخذت أخيراً إجراءات للضغط المباشر على حكومة نتنياهو بشأن المستوطنين العنيفين. ففي الأول من شباط/فبراير، أصدر البيت الأبيض قراراً تنفيذياً يقضي بفرض عقوبات على 4 مستوطنين بتهمة "الانخراط في نشاط إرهابي"، من بين أمور أخرى، في الضفة الغربية. وكان من بين هؤلاء الأربعة ينون ليفي، صاحب مزرعة ميتريم القريبة من مدينة الخليل، والرجل الذي يعتقد المسؤولون الأميركيون والإسرائيليون أنه هو الذي دبر حملة العنف والترهيب ضد سكان خربة زنوتا. وأصدرت الحكومة البريطانية عقوباتها الخاصة بعد فترة وجيزة، قائلة في بيان إنّ الحكومة الإسرائيلية خلقت "بيئة حامية للمتطرفين من المستوطنين في الضفة الغربية".
قوبلت خطوة البيت الأبيض ضد المستوطنين الأفراد، وهي الأولى من قبل إدارة أميركية، بمزيج من الغضب والسخرية من قبل الوزراء في حكومة نتنياهو. ووصف سموتريتش مزاعم إدارة بايدن ضد ليفي وآخرين بأنّها "خادعة تماماً"، وقال إنّه سيعمل مع البنوك الإسرائيلية لمقاومة الامتثال للعقوبات. وذكرت إحدى الرسائل التي تم تداولها في قناة "شباب التلال" على تطبيق "واتساب" أنه لن يتم التخلي عن ليفي وعائلته.
ويشعر المسؤولون الأميركيون بالقلق عندما يواجهون مسألة ما إذا كانت تصرفات الحكومة هي مجرد إجراءات رمزية اتخذها رئيس أميركي محاصر يخسر دعم الداخل نتيجة سياسته تجاه "إسرائيل". ويقولون إنّهم لن ينهوا العنف، لكنها إشارة إلى حكومة نتنياهو بشأن موقف الولايات المتحدة وخوفها من أن يتسبب هذا الوضع في غليان الضفة الغربية ومن أن تصبح قريباً أحدث جبهة إقليمية آخذة في الاتساع في منطقة الشرق الأوسط منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر.
إلّا أنّ الحرب قد تكون هي الهدف. فوفقاً لإيهود أولمرت، رئيس الوزراء السابق، إنّ عدداً من أعضاء اليمين المتطرف في "إسرائيل" "يريد الحرب". ويقول: "إنهم يريدون انتفاضة، لأنها الدليل القاطع على أنه لا توجد طريقة لصنع السلام مع الفلسطينيين، وأن هناك طريقاً واحداً للمضي قدماً، وهو تدميرهم".
نقله إلى العربية: زينب منعم