"فورين أفيرز": زئبقية ترامب تعيق أقوى سلاح أميركي

يتسلّم دونالد ترامب مهامّه الرئاسية في الشهر المقبل، وبين يديه مقاليد القوّة الاقتصادية الأميركية واستمرار الدولار كعملة صرافة دولية، ممّا يمنح واشنطن قدرة فائقة في تعقيد الأعمال التجارية على الخصوم عن طريق العقوبات المالية.

  • الرئيس الأميركي المقبل دونالد ترامب
    الرئيس الأميركي المقبل دونالد ترامب

مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً مطوّلاً للكاتب هنري فاريل، تحدّث فيه عن أداة العقوبات والرفع التعريفات الجمركية الأميركية، وكيف يمكن أن يستخدمها الرئيس المقبل دونالد ترامب، وكيف ستحدث سياسيته الفوضى في الاقتصاد الأميركي.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

يتسلّم دونالد ترامب مهامّه الرئاسية في الشهر المقبل، وبين يديه مقاليد القوّة الاقتصادية الأميركية واستمرار الدولار كعملة صرافة دولية، ممّا يمنح واشنطن قدرة فائقة في تعقيد الأعمال التجارية على الخصوم عن طريق العقوبات المالية، الأداة التي تستخدمها الولايات المتّحدة بتزايد منذ نحو عقدين مستهدفة الأفراد والحكومات والجهات الفاعلة غير الرسمية. هذه الأداة الفريدة الآن بيد رئيس زئبقي.

خلال حملته الانتخابية اعتبر ترامب أنّ العقوبات كانت أداة سيّئة، مقارنة بالتعريفات الجمركية التي يراها أنجع، وتعهّد باستخدامها "بأقلّ قدر ممكن"، خوفاً من أن تؤثّر في الدولار كعملة عالمية، وهي نتيجة سيّئة مثل خسارة الحرب، كما قال. لكن، هناك شكوك تصطدم بإعلان ترامب بناء على مراجعة سجلّه في المنصب خلال ولايته الرئاسية الأولى، حين كان سعيداً بفرض عقوبات على كوريا الشمالية، ومارس أقصى قدر من الضغط على إيران. ومن المرجّح أن يثير تخبّط ترامب في استخدام العقوبات العديد من المقترحين للعمل في إدارته، مثل المرشّح لمنصب وزير الخارجية السناتور ماركو روبيو، المناصر لاستخدام أداة العقوبات، التي تجد من سيرغب التشديد عليها كسلاح رئيسي لقدرة الحكم الاقتصادي الأميركي على الأعداء. وقد يكون آخرون متوتّرين من الإفراط في استخدام العقوبات، كما كان ستيفن منوشين وزير الخزانة في إدارة ترامب الأولى. وقد يكون البعض معادياً نشطاً لقوّة الدولار الأميركي.

كلّ ذلك قد يسبّب الخلافات، التي يمكن أن تعرقل قدرة واشنطن على مراقبة كنوز هائلة من البيانات المالية، وتؤدّي بالأرباح والتكنولوجيا نحو أيدي منافسيها، بسبب الاقتتال الداخلي وميل ترامب إلى تغيير رأيه لمجرّد نزوة، وسياسة الأمن الاقتصادي الأميركية لتصبح ساحة معركة يتنافس فيها صقور الصين ومحاربو التعريفات الجمركية وسكّان وول ستريت و"إخوان البيتكوين" للتأثير في الرئيس الذي يتوصّل إلى قرارته بناء على نصيحة من تحدّث معه آخر مرّة.

اتّضحت العواقب المحتملة لهذا الخلاف من خلال كتابين جديدين عن ولوج الولايات المتّحدة إلى سياسات إتقان فن الإكراه الاقتصادي، وكيفية نجاح هذا التوجّه في المستقبل. الكتاب الأوّل "الدولار والهيمنة"، تشرح فيه ماري بريدغز صحافية الأعمال التي تحوّلت إلى مؤرّخة، بدايات الإمبراطورية المالية الأميركية خلال قرن كامل. الكتاب الثاني "نقاط الاختناق"، قدّمه إدوارد فيشمان الذي عمل في وزارتي الخزانة والخارجية، من ضمن "تكنوقراطي العقوبات"، الذين بنوا هذه البراعة على مدى العقدين الماضيين. لكن، ترامب يعتبر الخبرة التكنوقراطية قيوداً على "الدولة العميقة"، وقد يثبت حساب بريدغز أنّه أكثر صلة في المستقبل القريب، حيث سيعود ترامب إلى النهج المتّبع الأكثر بدائية للقوّة الاقتصادية الأميركية.

اليوم كما في أوائل القرن الماضي، تقوم القوّة الأميركية على مجموعة مصادر وقطاعات مختلفة لما يطلق عليه "دولة الأمن الاقتصادي"، مثل مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة ومكتب الصناعة والأمن التابع لوزارة التجارة وغيرها، التي تكافح في بعض الأحيان لتنسيق نشاطاتها، ما يؤدّي إلى صعوبة بالغة في جمع المعلومات أو صياغة استراتيجية طويلة الأجل. ولا توجد حتّى الآن خطّة واضحة لكيفية ربط كلّ هذه المؤسّسات معاً.

لا شكّ في أنّ عودة ترامب إلى البيت الأبيض، سيفاقم هذه المشكلات أكثر. في وقت تحتاج فيه سياسة الأمن الاقتصادي إلى مزيد من التماسك والتخطيط، لا التخفيف منها. فالعقوبات وضوابط التصدير، تعدّ أقوى الأسلحة في الترسانة الأميركية، لكنّها تدار من قبل آلة بيروقراطية هشّة في تماسكها. ولا توجد مؤسّسة من أجل الأمن الاقتصادي، تعادل البنتاغون في جمع جهود الحكومة الأميركية تحت سقف واحد.

إذا نفّذ ترامب وعده بتهميش موظّفي الخدمة المدنية، فلن يكون هناك ما يكبح شهيّته للفوضى. في الاحتمالات جميعها، ستتأرجح الإدارة الجديدة بشكل غير متوقّع بين سياسات غير متوافقة إلى حدّ كبير، مثل استبدال العقوبات وضوابط التصدير بالتعريفات الجمركية، ونشر العقوبات على نطاق واسع، وربّما ضدّ الحلفاء أيضاً، وحماية المؤسّسات المالية والعملات المشفّرة من السلطة التنظيمية الأميركية. سيكون ذلك فوضى على المدى القصير، وسيضعف قوّة الولايات المتحدة على المدى الطويل، حيث تعزل الدول الأخرى نفسها عن الفوضى من خلال تجنّب النظام الاقتصادي الأميركي قدر المستطاع.

تزايد الآلام

منذ نحو عقدين، استفادت الإدارات الديمقراطية والجمهورية من انتشار الدولار الأميركي في كلّ مكان لتحويل العقوبات المالية إلى سلاح متعدّد الأغراض. فالمصارف الدولية تحتاج إلى الوصول إلى نظام المقاصّة بالدولار لتحويل الأموال، الذي يسيطر عليه المنظّمون الأميركيون. وهذا يلزم المصارف، حتّى تلك الموجودة في الخارج، بالامتثال للعقوبات المالية الأميركية ومتطلّبات الإبلاغ.

كما عملت واشنطن على تجميع وسائل أخرى للإكراه الاقتصادي. ففي فترة ولاية ترامب الأولى، وسّع المسؤولون نطاق سلطة الولايات المتّحدة على سلاسل التوريد العالمية، من خلال تحويل ضوابط التصدير عبر التدابير التي صُمّمت في الأصل لإبقاء التكنولوجيات الأميركية بعيدة عن أيدي الجيوش المعادية، وهي عقوبات بديلة وطريقة أخرى لإلحاق الأذى باقتصاد الخصم. وقد استخدم الرئيس الأميركي جو بايدن الآلية ذاتها لتقييد وصول الاقتصادين الصيني والروسي بالكامل إلى بعض أشباه الموصلات.

 مع أنّ ضوابط التصدير أقلّ فعّالية، ممّا كان يأمله المسؤولون الأميركيون، لأنّ سلاسل التوريد يكتنفها الغموض، ممّا يصعب من السيطرة عليها. لكنّها، عزّزت من الابتكارات لحالة أمنية اقتصادية متنامية، وإن كانت غير منظّمة داخل الحكومة الاتّحادية الأميركية. كذلك، تساعد قطاعات تنظيمية أخرى من الدولة الأميركية أيضاً في هذه الجهود لتعزيز الأمن القومي ولو على نحو غير رسمي. على سبيل المثال، ساعدت جهود لجنة الأوراق المالية والبورصة لتنظيم العملات المشفّرة وزارتي الخزانة والعدل في جعل عالم مالي فوضوي متوافقاً مع القانون الأميركي. ونتيجة لهذا، أصبح الإرهابيون والدول المارقة الآن أمام وضع أكثر صعوبة في التحايل على الضوابط المالية التقليدية.

مع ذلك فإنّ النموّ السريع للدولة الأمنية الاقتصادية الأميركية جاء على حساب التماسك. فالمسؤولون الأميركيون لا يملكون سوى القليل من المبادئ التوجيهية بشأن متى يستخدمون أسلحة اقتصادية معيّنة، وقليل من السبل لضمان عدم تداخلها مع بعضها البعض. وقد فقدت العقوبات وضوابط التصدير وغيرها من الأدوات الاقتصادية بعض قوّتِها، لأنّها استخدمتها بشكل متزايد على الدوام، والآن هو الوقت السيّئ لتدهورها.

 لقد كانت واشنطن ذات يوم تروّج للترابط الاقتصادي العالمي المتبادل، لكنّها تستخدمه اليوم كسلاح علني. حيث أصبحت القواعد التنظيمية المحلّية والدولية متشابكة بشكل متزايد وضرورية للأمن القومي. وإذا لم تتمكّن الولايات المتّحدة من تشكيل الأسواق في الداخل، فلن تكون في وضع يسمح لها بالقيام بذلك في الخارج. وهناك مخاوف أكبر. ففي عالم من التغيّر التكنولوجي السريع، لا تستطيع الولايات المتّحدة أن تأخذ هيمنتها الاقتصادية على محمل الجدّ أو أن تكتفي بأسبقيّتها. وقد لا تعوّض مزاياها في مجال الذكاء الاصطناعي عن خسارة السباق على تقنيّات الطاقة النظيفة التي ستعتمد عليها مراكز خوادم الذكاء الاصطناعي والإلكترونيّات. 

إنّ معالجة هذه المشكلات سوف تتطلّب زيادة هائلة في قدرة الدولة. وتحتاج الولايات المتّحدة إلى أن تصبح أكثر قدرة على التكيّف من خلال تحسين قدرتها على جمع المعلومات، وخوض مجازفات سياسية كبيرة وتعديلها، وهي مهمّة شاقّة بالنسبة لأيّ إدارة، وسوف تكون تحدّياً هائلاً لإدارة لترامب، نظراً لصعوبة تمسّكه بأيّ أهداف طويلة الأجل وعدائه للخبراء وما يسمّى "الدولة العميقة".

"نقاط الاختناق"

في كتاب "نقاط الاختناق"، يقدّم إدوارد فيشمان خبرة شاملة من 500 صفحة تشرح تكنوقراطية العقوبات، ثمّ يمجّد الفضائل البيروقراطية التي تكرهها الإدارة الجديدة، ويشير إلى المسؤولين الذين غالباً ما يتمّ تجاهلهم مع أنّهم بنوا قوّة واشنطن القسرية هذه. وفي العقدين الأخيرين، اكتشفت الولايات المتّحدة أنّ العولمة الاقتصادية خلقت نقاط ضعف أمنية، تمكّن للإرهابيين وغيرهم من الجهات الفاعلة الخبيثة أن ينظّموا أنفسهم على الإنترنت، ويحوّلون الأموال عبر الحدود من دون تعقّب.

ومنذ ذلك الحين أعادت الإدارات الأميركية المتعاقبة تأكيد نفوذها على العالم من خلال السيطرة على "نقاط الاختناق" في بنية الشبكات التي تشكّل النظام المالي العالمي. على سبيل المثال، من خلال نظام "سويفت"، يمكن للمسؤولين الأميركيين معرفة من يرسل الأموال إلى من. كذلك، قد وسّعت إدارة ترامب الأولى نطاق ضوابط التصدير من خلال تطبيق قاعدة المنتجات الأجنبية المباشرة، والتي بموجبها يمكن للحكومة الأميركية إيقاف بيع ليس فقط المنتجات الأميركية، ولكن أيضاً العديد من المنتجات المصنوعة من المعدّات والتكنولوجيا الأميركية، وفي مقدّمتها أشباه الموصلات المتطوّرة. وقد تمّ استخدام هذه القاعدة للمرّة الأولى لاستهداف شركة "هواوي" للاتّصالات الصينية، وبعدها لتنظيم بيع مجموعة متنوّعة من السلع إلى روسيا.

يضيف فيشمان تفاصيل لم تكن معروفة من قبل في كتابه، منها تكديس مسؤول في الاتّحاد الأوروبي مكتبه بالطائرات والقطارات لللعب، إلى الجوهرية منها عن كيفية إقناع وزيرة الخزانة جانيت يلين بتبنّي تدابير تمنع البنك المركزي الروسي من الوصول إلى احتياطاته من العملة الأجنبية. ويزعم فيشمان أيضاً أنّ حكمة وبعد نظر التكنوقراط للعقوبات ولدت "مخطّطات" لنوع جديد من النظام العالمي بقيادة الولايات المتّحدة وحلفائها. ويضيف، عن أنّ إدارة ترامب الأولى تقدّم "قصة تحذيرية" حول كيف يمكن أن تذهب الأحادية إلى أبعد من ذلك. وهي مثال على كيفية التعامل مع تهديد الصين على محمل الجدّ. ويجد فيشمان أنّ التفوّق المالي والتكنولوجي للولايات المتّحدة مكّن "البيروقراطيين الأميركيين والأوروبيين"، من إعادة هيكلة العلاقات بين القوى العالمية. ويتمثّل التحدّي الذي يواجه الولايات المتّحدة وحلفاءها الآن في إدارة "نقاط الاختناق" التحلّي بالحكمة، واستخدام الحرب الاقتصادية للحفاظ على هذا النظام وتجنّب الحروب العسكرية لأطول فترة ممكنة.

ويظهر أنّ كتاب "نقاط الاختناق" يحتفل بالماضي وهو أقلّ من وصفة طبّية للمستقبل، وأنّ إدارة ترامب الأولى كانت نموذجاً أوّليّاً للعالم المقبل. حيث لن يكون هناك نظام تكنوقراطي جديد، بل إعادة تشكيل السياسة الدولية من خلال الفوضى الداخلية لإدارة ترامب الجديدة، والتي من شأنها أن تغذّي فوضى العالم الخارجي، حيث تحاول الشركات والحكومات على حدّ سواء الاستجابة لقوة عظمى لا يمكن التنبّؤ بقرارتها.

الإنسان يخطط والقدر يضحك

إذا أشاد فيشمان بالتكنوقراط في الإمبراطورية، فإنّ الصحافية ماري بريدغز تشرح رؤيته. وتعتبر أنّ استراتيجيات النخب الأميركية للهيمنة ليست سوى نصف القصة، لأن أنظمة القوة العالمية "نادراً ما تتوافق مع مخططات المصممين البعيدين". ومن المستحيل فهم الأنظمة الاقتصادية غير العملية من خلال التركيز على المسؤولين الذين خططوا لها. بدلاً من ذلك، يجب الانتباه إلى استراتيجيات الشركات والأجانب الخاضعين للخطط.

وترسم بريدغز العملية العشوائية التي ظهرت من خلالها هيمنة الدولار الأميركي، وكيف كانت الولايات المتحدة قلقة في أوائل الفائت، من استخدام شركاتها للنظام المالي الذي كانت تهيمن عليه المملكة المتحدة آنذاك. حينها خشي السياسيون الأميركيون والشركات من أن تشارك المصارف الأجنبية معلومات حساسة مع منافسيها، وهو مصدر قلق أدى إلى إنشاء أول بنك متعدد الجنسيات على نطاق واسع في الولايات المتحدة، باسم "المؤسسة المصرفية الدولية".

 ووجدت بريدغز أنّ الجهود المبذولة للوقوف على "المؤسّسة المصرفية الدولية"، لم تكن ناتجة عن استراتيجية متماسكة بقدر ما كانت منشأة متخصّصة، حيث قام قادة الأعمال والمصرفيون بتوحيد بنية تحتيّة فضفاضة للسماح للمستعمرات الأميركية وتوابعها باستخدام الدولار الأميركي، بدلاً من الجنيه الإسترليني، وقد مُوّلت المؤسّسة المصرفية المذكورة من قبل شركات خاصّة لها مصلحة في هيمنة الولايات المتّحدة. وكان الأمر متعثّراً وفوضويّاً وأنانيّاً، بالنسبة لبريطانيا المهتمّة بمساعدة نفسها أكثر من اهتمامها بمساعدة العمّ سام. ومن خلال الصدفة بقدر ما هي نوايا، ساعدت هذه المجموعة من المصرفيين الأميركيين "المرتبكين"، على حدّ تعبير بريدغز في ترسيخ القوّة المالية العالمية للولايات المتّحدة، وتحويل الأدوات المالية الغامضة إلى بنية تحتية لصرف الدولار.

ترى بريدغز أنّ العصر الحالي هو أيضاً عصر متغيّر، حيث تضعف فيه إمبراطوريّات، بينما تتطلّع أخرى إلى الصعود والتوسّع. وكما استاءت الولايات المتّحدة من قبضة المملكة المتّحدة على النظام المالي العالمي في أوائل القرن الماضي، فالصين اليوم مستاءة من سيطرة الولايات المتّحدة، وتحاول بناء أنظمتها المالية البديلة الخاصّة. كذلك، إنّ طبيعة التمويل ذاتها تتغيّر، مع ظهور تقنيّات جديدة مثل العملات المشفّرة والعملات الرقمية للمصارف المركزية. ومن الممكن أن تفقد الولايات المتّحدة هيمنتها التكنولوجية، ربّما من خلال خسارة سباق الطاقة النظيفة. حيث يضاعف الزعيم الصيني شي جين بينغ جهوده في التقنيّات مثل البطاريّات المتقدمة، مراهناً على أنّ القدرة على خلق طاقة وفيرة وآمنة أصبحت على الأبواب.

إنّ نهج شي قد يحظى بدعم الحكومات الأجنبية. ففي حين تستخدم الولايات المتّحدة "نقاط الاختناق" لإبطاء تقدّم خصومها، تتقدّم الصين في تكنولوجيات الطاقة النظيفة التي يمكنها بيعها بثمن بخس إلى بلدان أخرى.

ويكشف كتاب بريدغز عن عالم فوضوي لا يمكن التنبّؤ به، حيث يمكن لدول أخرى ولاعبين صغار على ما يبدو تقويض التصاميم الكبرى للمخطّطين الإمبرياليين. لا يعتمد الإكراه الاقتصادي الأميركي فقط على أولوية الدولار أو السيطرة على أشباه الموصلات، ولكن أيضاً على نظام مترابط واسع النطاق من المصارف والأعمال والقانون، وهو نظام يزداد تعقيداً على الدوام. ولكن، أصبحت الأدوات التي يفضّلها خبراء العقوبات أقلّ فائدة حيث تجد الشركات والخصوم طرقاً للالتفاف عليها. فالصين مثلاً، تبني "نقاط الاختناق" الخاصّة بها. كذلك، يتجنّب الأوليغارشيون وتجّار الأسلحة والإرهابيون العقوبات من خلال العملات المشفّرة.

الفوضى المقبلة

كانت سياسة الأمن الاقتصادي التي انتهجتها إدارة ترامب الأولى أشبه برحلة مجنونة، حيث خاض أشخاص مرتبطون بالتمويل وول ستريت، مثل ستيفن منوشين، معارك مع صقور الصين، مثل مستشار الأمن القومي جون بولتون، وعشّاق التعريفات الجمركية، مثل الممثّل التجاري الأميركي روبرت لايتهايزر. وكانت القرارات حينها اعتماداً على من يحظى باهتمام الرئيس في تلك اللحظة.

لقد بدأت واشنطن تشعر بضعف قوّتها. وإنّ ضوابط التصدير حتّى عندما يتمّ تعزيزها بقاعدة المنتج الأجنبي المباشر، تبقى أقلّ نجاحاً في التطبيق ممّا كانت تأمل إدارة بايدن. لا يوجد ما يعادل نظام "سويفت"، الذي يزوّد المسؤولين الأميركيين ببيانات عن سلاسل التوريد، وكانت شركات أشباه الموصلات الأميركية على استعداد للسير حتّى حافّة ما هو مسموح به للحفاظ على الوصول إلى السوق الصينية. ومع اقتراب نهاية ولاية بايدن، بدأ المسؤولون الأميركيون في العودة إلى العقوبات المالية عندما اكتشفوا مدى صعوبة فرض ضوابط التصدير على المنتجات ذات سلاسل التوريد المعقّدة. ستكون مثل هذه المشكلات صعبة بما يكفي للتعامل معها إذا كان خبراء العقوبات لا يزالون في السلطة. ولكن إذا كان هناك شخص واحد ليس لديه أيّ ميل تكنوقراطي على الإطلاق، فلن يكون سوى ترامب.

ولكن في بحر هذه الفوضى، حافظت بعض القطاعات القائمة على استقرار ها. وقام مسؤولو الأمن الاقتصادي من المستوى المتوسّط ​​بأداء وظائفهم بأفضل ما في وسعهم. وعاشوا في خوف من أنّ تغريدة رئاسية مفاجئة قد تعيد صياغة السياسات التي كان من المفترض أن يديروها بالكامل، ولكنّ العديد من مجالات السياسة كانت مملّة وفنّية للغاية بحيث لا يهتمّ بِها ترامب.

إنّ إدارة ترامب الثانية ستكون مختلفة. فهناك قوى جديدة في اللعبة، وقد تخترق الفوضى حتّى تلك المستويات الحكومية التي نجت من ولايته الأولى من دون أن يلحق بها أذى نسبياً. والآن يريد أصحاب رؤوس الأموال المغامرين وروّاد الأعمال في مجال العملات المشفّرة الذين دعموا ترامب تحصيل مكافأتهم. وبعضهم لديه معتقدات سياسية مذهلة. على سبيل المثال، بالاجي سرينيفاسان، الذي طرح كرئيس محتمل لإدارة الغذاء والدواء في عهد ترامب، يريد أن يكتسح النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتّحِدَةُ لأنّه يراه "متدهوراً".

يريد المستثمرون المغامرون في العملات المشفّرة الذين دعموا ترامب الآن الحصول على مكافأتهم. ولن تقتصر المعارك الداخلية على تحرير القطاع المالي. وسوف يرغب صقور الأمن القومي من التقليديين، في مضاعفة العقوبات وضوابط التصدير، من دون أيّ شعور واضح بالمكان الذي يجب أن يتوقّفوا عنده. وسوف يطبّق المؤيّدون للرسوم الجمركية وهي المجموعة التي تضمّ ترامب حاليّاً، وهي مخصّصة لمعالجة انعدام الأمن الاقتصادي، وكلّ ما يعيب الولايات المتحدة. لكنّهم، سوف يكتشفون في نهاية المطاف حدود وتكاليف الرسوم الجمركية، ربّما ليس في وقت قريب بما فيه الكفاية. وسوف تدعو الشركات ذات العلاقات الجيّدة مع السلطة إلى تدابير أكثر تقليدية وصديقة للأعمال التجارية، بالتوازي مع الصفقات المربحة والامتيازات لها ولأصدقائها. وسوف تتسبّب التحالفات المتوتّرة وسياسات قصر النظر وطعنات الظلام، مع أهواء ترامب في اهتزاز سياسة الأمن الاقتصادي.

إنّ المجال الوحيد الذي يظهر فيه ترامب تصميماً ثابتاً هو عداؤه للخبرة الفنّية، وجهوده الموعودة لطرد "الفاعلين الفاسدين" في أجهزة الأمن والاستخبارات الوطنية فوراً سيؤدي إلى سنوات من الدعاوى القضائية المتبادلة. ولكن حتّى لو لم تنجح هذه الجهود بشكل تامّ، فإنّها سوف تعيق قدرة الدولة الأمنية الاقتصادية على إنجاز الأمور، وسوف يتساءل المسؤولون الأمنيّون الاقتصاديون الذين يتمتّعون بخبرة تمتدّ لعقود من الزمن عمّا إذا كانوا يريدون البقاء في مكان عمل لا يمكن التنبّؤ بمستقبله.

الواقع أنّ الشركات والحكومات المتحالفة والخصوم، سوف يحاولون فهم ما يحدث داخل إدارة فوضوية، وسوف يسعى الحلفاء إلى حماية أنفسهم من رئيس دولة عظمى لا يمكن التنبّؤ بتصرّفاته، وغير قادر على ممارسة السيطرة كما يعتقد. وسوف تعمل الشركات الأجنبية والمحلّية ورأسماليو العملات المشفّرة على إعادة توصيل البنية الأساسية للاقتصاد العالمي لكسب المزيد من المال، تماماً كما فعل أسلافهم في الأيّام الأولى للإمبراطورية الأميركية، عندما كانت الدولة متخلّفة. وقد يستولي البعض على جزر من إدارة ترامب، ويتمّ تحويل القوّة الأميركية نحو مصلحتهم الخاصّة. وسوف يسعى الخصوم إلى الاستفادة من نقاط ضعف أميركا، ممّا يؤدّي إلى مزيد من الفوضى.

ذات يوم، ومنذ وقت ليس ببعيد، كان من الممكن للنخب الأميركية أن تعتقد أنّ التكنوقراطيين يستطيعون تنظيم العالم بما يخدم مصالحهم، ويجعلونه آمناً وقابلاً للتنبّؤ. وقد تمسّكت هذه النخبة بالأمل في أن تكون فترة ولاية ترامب الأولى مجرّد انحراف مؤقّت. والآن بات من الواضح أنّ الأمر لم يكن كذلك، وأنّ هؤلاء الذين يفرضون العقوبات، هم من التقليديّين عموماً، ومن المؤكّد أن القوّة الاقتصادية الأميركية سوف تعاني بسبب ذلك.

نقله إلى العربية: حسين قطايا