"ZNetwork": مواطنو الاتحاد الأوروبي يدركون تماماً العجز الديمقراطي
عالم الاقتصاد السياسي والمفكر سي جيه بوليكرونيو يتحدث عن مخاطر صعود أحزاب أقصى اليمين على مستقبل الاتحاد الأوروبي، وأزمة اليسار في القارة وسط المتغيرات المتسارعة.
موقع "ZNetwork" ينشر نص حوار أجرته الصحفية المستقلة ألكسندرا بوتري مع عالم الاقتصاد السياسي والمفكر سي جيه بوليكرونيو، تناولت فيه مخاطر صعود أقصى اليمين على مستقبل الاتحاد الأوروبي، وأزمة اليسار في القارة وسط المتغيرات المتسارعة.
أدناه نص الحوار منقولاً إلى العربية:
يقول بوليكرونيو، إنّ الأوروبيين لا يتحمسون لانتخابات المؤسسة الأوروبية بقدر اهتمامهم بالانتخابات الوطنية، ولا صلة أو ارتباط بين الحالتين في كل الدول الأعضاء في نادي بروكسل عاصمة الاتحاد. ولطالما، "كانت المشاركة في انتخابات البرلمان الأوروبي منخفضة على الدوام، باستثناء طفرة المشاركة في انتخابات العام 2019، حيث تجاوزت نسبة المقترعين50% من مواطني الاتحاد في أعلى إقبال منذ 20 عاماً، لكنها في الحقيقة أصوات احتجاجية قليلة بالموازنة مع أعداد الذين لا يشاركون لإدراكهم عمق العجز الديمقراطي الذي تعاني منه المؤسسة الأوروبية، ما يجعلهم لا يأخذون انتخابات البرلمان الأوروبي على محمل الجد".
فرادة البرلمان الأوروبي، تأتي من كونه الهيئة الوحيدة المنتخبة بشكل مباشر في مؤسسة الاتحاد الأوروبي، بيد أنّ سلطته محدودة للغاية، وعلى عكس البرلمانات الوطنية لا يصدر التشريعات، ويكتفي بمناقشة القوانين وقبولها أو رفضها، لأنّ المفوضية الأوروبية تحتكر أمور التشريع والتخطيط وإعداد واقتراح القوانين الجديدة، التي تحال إلى مجلس الاتحاد الأوروبي أيضاً، والذي يتكوّن من وزيري حكومة من بين الدول الأعضاء، وهو غير المجلس الأوروبي الذي يتكوّن من رؤساء الحكومات، ويعدّ أعلى كياناً سياسياً في الاتحاد فيما المفوضية هي الهيئة التنفيذية التابعة له، يعمل داخلها نحو 32 ألف موظف إداري بشكل دائم.
يتابع سي جيه بوليكرونيو: "باختصار، البرلمان الأوروبي ليس هيئة تشريعية عادية، ومن الواضح أنّه الأضعف بين المؤسسات الرئيسة التي تصنع القرار في بروكسل، المثقلة بجماعات الضغط التي تمثل مصالح الشركات، وهناك أكثر من 30 ألف جماعة، يعملون بشكل وثيق للغاية مع البيروقراطيين والسياسيين في الاتحاد ويشاركون على جميع المستويات في صنع القوانين. ومن المؤسف أنّ هناك الكثير مما يمكن قوله عن كون الاتحاد الأوروبي في جوهره كياناً تقوده الشركات وتؤول السلطة إليه من دون انتخاب وغير خاضعة للمساءلة. كذلك، فإنّ دولاً مثل ألمانيا، التي تمتلك قوة اقتصادية وسياسية كبيرة ولديها الكثير من المسؤوليات في نادي بروكسل، لكنها ترفض أن تفكّر بغير طريقتها واعتباراتها المحلية فيما يتعلق بإصلاح الاتحاد الأوروبي، وخاصة إعادة الهيكلة الاقتصادية، والتضامن، والتماسك الاجتماعي، وقد ولدت سياساتها صدعاً كبيراً بين شمال وجنوب أوروبا، الأمر الذي كان له تأثيرات بعيدة المدى في جوهر وجود الاتحاد ومهمته".
هناك شعور عام بأنّ انتخابات الاتحاد الأوروبي هذا العام مختلفة، وهي مهمة بسبب صعود الأيديولوجيا اليمينية المتطرفة في جميع أنحاء أوروبا ما يهدد المؤسسة الأوروبية جذرياً، حسب ما يزعم قادة الدول المتحمسة للاتحاد أكثر من غيره. يقول بوليكرونيو عن ذلك إنّ "ما سمعناه من رؤساء الحكومات المتحمسين للاتحاد الأوروبي بشكل عام، بأنّ انتخابات البرلمان هذا العام حاسمة لأنها مؤثرة في استجابة الاتحاد الأوروبي على التراجع الديمقراطي الخطير في مختلف أنحاء أوروبا. والحديث هنا ليس عن المشتبه بهم المعتادين مثل هنغاريا في عهد فكتور أوربان، بل النظر مرة جديدة إلى الدول التي تسمى بالديمقراطية الأوروبية الليبرالية، مثل ألمانيا، وكيف تعاملت مع المحتجين على عمليات القتل الوحشي والإبادة الجماعية التي ترتكبها "إسرائيل" بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، فعنّفتهم وداهمت منازل الناشطين، ومنعت المتحدثين من دخول البلاد. وفي اليونان، تفاخر رئيس وزرائها اليميني كيرياكوس ميتسوتاكيس علناً بأنّ حكومته لن تتسامح مع إقامة طلاب الجامعات مخيمات تدعم قضية فلسطين، بل ذهب بعيداً بسلوكه الشنيع وحاول ترحيل الطلاب من الأوروبيين الذين يشاركون في التظاهرات السلمية إلى بلدانهم. ومن عجيب المفارقات حقاً ما قاله بعض قادة الدول وهم يحثون مواطنيهم ليس فقط على الإدلاء بأصواتهم، بل أيضاً على التصرف بشكل مسؤول في انتخابات البرلمان الأوروبي هذا العام. فبالنسبة لهم، من الواضح أنّ الديمقراطية لا توجد إلا عندما يقوم المواطنون بمواءمة وجهات نظرهم مع مواقف الحكومات الحالية بشأن السياسات الداخلية والخارجية".
إنّ صعود أقصى اليمين في جميع أنحاء أوروبا "أمر خطير ويهدد استمرار الديمقراطية في كل دولة يوجد فيها بقوة"، يضيف بوليكرونيو. وبحسبه، "يعود ذلك إلى عدة عوامل: أولها الخوف من انعدام الأمن الاقتصادي، بعد التحول الجوهري في العقود الأخيرة إلى أقبح أشكال الوحشية الرأسمالية وانعدام الأمن الناتج من التقصير في السياسات الاجتماعية، وحدوث تلك الفجوات والتفاوت المعيشي المذهل الذي يفاقم مخاوف العامة بشأن مستقبلهم. وعلى هذا النحو يستغل أقصى اليمين ما تستغله الحكومات في الدول الأوروبية ويستثمر بما تستثمر ويستغل انعدام شعور الناس بالأمان، والظلم الاجتماعي اللاحق بهم، ويعدهم بالعودة إلى الماضي الذهبي، ويستخدم لغة قومية عنصرية معادية للأجانب والمهاجرين، مع أنّ بعضها يتبنى برامج سياسية مناهضة للتقشف للإنفاق الحكومي على المساعدات الاجتماعية، في مقدمتها أحزاب أقصى اليمين في فرنسا وإيطاليا وفنلندا، على سبيل المثال، فهي تعادي الإصلاحات النيوليبرالية والتقشف. وفي فرنسا، نجح (حزب التجمع الوطني) بقيادة مارين لوبان، في خلق صورة باعتباره حزب الطبقة العاملة".
العامل الثاني يتمثل بحسب بوليكرونيو في "خيبة الأمل في الاتحاد الأوروبي بالنسبة إلى العديد من الناخبين، حيث تعمل كل الإدارات في بروكسل من ضمنها أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط بشكل مباشر ضد مصالح عامة الناس، ويخدمون بدلاً عن ذلك مصالح القلّة". وهناك عامل آخر "يتمثل بطبيعة الحال في سياسات الهجرة الفاشلة في أوروبا، على الرغم من عدم وجود صلة تقنية بين الهجرة وصعود اليمين المتطرف".
مع ذلك ثمة ما هو شائع وراسخ بأنّ تدفق موجات اللاجئين إلى القارة يقف خلف صعود قوى أقصى اليمين، وعلى الأقل قد تكون هذه حججاً مقنعة في الظاهر. يقول سي جي بوليكرونيو في هذا الشأن إنّ "الهجرة لها تأثير في تصويت أقصى اليمين، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها. لكن المسألة أكثر تعقيداً، وليس من الواضح أنّ الهجرة بحد ذاتها هي ما يحرك الدعم والمؤثر النجع بين الأشخاص ذوي الدخل المنخفض، والذين لديهم فرص تعليمية منخفضة بين جمهور المتطرفين. مثلاً، أظهرت بعض الدراسات أنّ العمال غير المهرة يشعرون بالتهديد من وجود المهاجرين غير المهرة أو ذوي المهارات المنخفضة من خارج أوروبا لمجرد أنهم يشعرون بأنهم غير محميين قانونياً. بينما، المحترفون منهم الذين يتمتعون بمستوى تعليمي جيد لهم تأثير سلبي مضاعف بين أحزاب أقصى اليمين، بالتالي، فإنّ تكوين المشاعر المعادية للهجرة قد يكون مرتبطاً بقدرة طرفي المعادلة على تحقيق الاندماج الاقتصادي والاجتماعي للوافدين. والمفارقة أنّ الاتحاد الأوروبي في حد ذاته ليس لديه سياسة تكامل. وكل ما يقدمه هو استراتيجية لاحتواء المهاجرين، ويفترض التكامل على مزاج الدول، حيث تقوم الحكومات الوطنية بتعريف وتطبيق المصطلح بشكل مناسب لمصالحها. وقد أظهرت دراسات أخرى أنّ بعض العوامل الديموغرافية، من ضمنها الهجرة الداخلية، قد تغذي أيضاً انتشار الأحزاب المتطرفة. ومع مغادرة الشباب البلدات الصغيرة التي ولدوا فيها للحصول على فرص أفضل في المدن الكبرى، تشهد المناطق التي يتركونها وراءهم ارتفاعاً في دعم أحزاب أقصى اليمين، بسبب الآثار السلبية لانخفاض عدد السكان المحليين والتدهور اللاحق لحضور الأحزاب والخيارات الأخرى".
مع ذلك، ينمو أقصى اليمين في أوروبا ويتراجع اليسار بمستوياته الراديكالية والوسطية، مع أنّ الواقع مثالي كي يزدهر في ظل بيئة اجتماعية واقتصادية محبطة، يقول عنها سي جي بوليكرونيو إنّه "من الواضح أنّ تيار اليسار السائد في تراجع. وأعني بذلك الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية والاشتراكية. والسؤال هو ماذا نقصد باليسار الراديكالي، بمعنى هل يمكن إدراج أحزاب مثل سيريزا في اليونان وبوديموس في إسبانيا في معسكر اليسار الراديكالي، أعتقد أنّ هذا سيكون مزحة ساذجة. لا شك في أنّ هناك قوى يسارية مناهضة للحكومات والنظام في اليونان، لكنها صغيرة جداً وممزقة. وهناك العشرات من الأحزاب والمنظمات اليسارية الجذرية، ولكن مع عدد قليل من الأتباع، ومع ذلك فمن المستحيل إقناعهم لتشكيل جبهة موحدة. والظاهرة عينها معممة في العديد من البلدان الأوروبية الأخرى. إنّه وضع محزن ومقلق. إنّ أسباب أزمة اليسار سياسية وأيديولوجية في طبيعتها ونطاقها، وتستحق مناقشة متعمقة لا يمكن القيام بها في مقابلة صحفية. ومع ذلك، أعتقد أنّ هناك سوء فهم حقيقياً لأحزاب اليسار بشأن عدم اليقين الاقتصادي والخيارات السياسية".
ووفقاً له، "وجدت دراسة جديدة أنّ آثار الأزمات في سلوك التصويت يذهب بنسبة عالية نحو أقصى اليمين الذي يستفيد بضراوة من آثار صدمات الاقتصاد الكلي. ويبدو أنّ الناخبين في أوقات الانكماش الاقتصادي يتجهون نحو اليمين، وليس اليسار، سعياً إلى حلّ مشاكلهم. واليوم أصبح هذا الأمر أكثر قابلية للفهم عندما لا يكون لدى اليسار أيّ شيء ملموس يقدمه لمواطني أوروبا. ففي فرنسا مثلاً، يشير الناس إلى التضخم والأمن باعتبارهما همهم الرئيسي، فيما لست متأكداً إلى أي مدى يفهم اليسار سبب فشله في إقناع المواطنين بالأسباب التي تجعلهم يصوتون له، وليس لمصلحة القوى الرجعية".
نقله إلى العربية: حسين قطايا