"Tricontinental": أفريقيا تنادي "اخرجي يا فرنسا"
لن تتسامح فرنسا مع استقلال أفريقيا، لكن شعوب أفريقيا لن تتسامح مع الهيمنة الفرنسية. ولا يزال هذا الحماس للسيادة الأفريقية على حاله. "يا فرنسا، اخرجي" كان الشعار آنذاك، ولا يزال هو الشعار الآن، من السنغال إلى النيجر.
-
متظاهرون أفريقيون يطالبون برحيل فرنسا من بلادهم
مجلة "Tricontinental" التي تُعنى بالأبحاث الاجتماعية، تنشر مقالاً للكاتب فيجاي براشاد، يتناول فيه السياسة الاستعمارية الفرنسية في أفريقيا، وحركة الاستقلال والتغيير التي يخوضها الأفريقيون، وشرح فيه موجة الانقلابات في منطقة الساحل والحماسة للسيادة الأفريقية في المنطقة.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
منذ زمن طويل والسعي الفرنسي لتقويض سيادة واستقلال دول القارة الأفريقية لا ينضب، ويستمر من القرن الماضي وحتى يومنا هذا. فالدولة الاستعمارية لم تتسامح مع تطلعات شعوب القارة السمراء في التحرر الوطني، كذلك، أفريقيا بدورها لم تتسامح مع الهيمنة الفرنسية آنذاك، ولن تتسامح معها الآن.
ولا بد من فهم أفضل لموجة المتغيرات في منطقة الساحل والحماس للسيادة الأفريقية في المنطقة لا يزال حاضراً بقوة تحت شعار وطني جامع، "فرنسا، ارحلي"، بصرخة واحدة من السنغال إلى النيجر. ولفهم التطورات الأخيرة في هذا الصراع بشكل أفضل، تقدّم منظّمتا "لا حرب باردة"، و"شعوب غرب أفريقيا"، إحاطة تحليلية ومعلوماتية تجلي حقيقة الأحداث بأبعادها التاريخية وسياقها المستقبلي في منطقة الساحل الأفريقي.
في العام 1958، أعلنت غينيا استقلالها عن فرنسا، بعد مواجهة بين رئيسها أحمد سيكو توري مع الرئيس الفرنسي شارل ديغول، الذي قام بتسليح ميليشيات معارضة لاستقلال البلاد وملتزمة بأجندة المستعمر الفرنسي. وكان توريه قد رفض حينها خطة "الاندماج الديغولية" بين فرنسا وغينيا، وهي حيلة من المستعمر لحرف مشروع الاستقلال عن سياقه. ورد توريه آنذاك على تهديدات ديغول: "غينيا تفضّل الفقر في الحرية على الثراء في العبودية".
وفي العام 1960 حاكت الحكومة الفرنسية عملية سرية تسمّى عملية "برسيل" لتقويض استقلال غينيا الفتي والإطاحة بزعيم البلاد. سمّيت العملية على اسم منظّف غسيل الملابس بإشارة واضحة إلى الموقف الفرنسي تجاه حكومة توريه الوطنية. شحنات الأسلحة الفرنسية إلى جماعات المعارضة في غينيا والمنتشرة في السنغال تم ضبطها، حينها قال رئيسها مامادو ديا، لن تتسامح فرنسا مع الاستقلال الأفريقي، لكن شعوب أفريقيا لن تتسامح مع الهيمنة الفرنسية أبداً.
الساحل الأفريقي والسعي الدؤوب إلى السيادة
"فرنسا، ارحلي"، صرخة ضد إرث الاستعمار الفرنسي يتردّد صداها منذ مدة طويلة في جميع أنحاء غرب أفريقيا. وفي السنوات الأخيرة، وصلت هذه الدعوة إلى درجة جديدة من الكثافة، ظهرت بعدة مستويات في السنوات الأخيرة، من الحراك الشعبي والسياسي في العام 2018 في السنغال، تحت وعد الرئيس المنتخب حديثاً باسيرو ديوماي فاي، بتحرير بلاده من النظام النقدي، إلى الانقلابات العسكرية المدعومة شعبياً في مالي وبوركينا فاسو والنيجر وطرد القوات العسكرية الفرنسية من عموم هذه البلدان بين عامي 2021 و2023.
وقد اتخذت الحكومات التي يقودها الجيش في دول الساحل الأوسط مالي وبوركينا فاسو والنيجر، خطوات لانتزاع سيادتها السياسية والاقتصادية، من الاحتكارات الغربية للسلع إلى قوانين وعقود التعدين إلى طرد الجيوش الأجنبية وإنشاء منصات تعاون إقليمية جديدة. وفي العام الماضي، وقّعت حكومات بوركينا فاسو ومالي والنيجر ميثاق اتفاق دفاع مشترك ثلاثي بمواجهة تهديدات بالتدخّل العسكري والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) على النيجر في أعقاب الانقلاب الشعبي الذي وقع في العام الماضي.
وبعد بضعة أشهر من التوصل إلى اتفاق التعاون الدفاعي هذا، انسحبت الدول الثلاث من الكتلة الإقليمية للجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا. وقد زعم بعض المعلّقين السياسيين أنّ هذه الأحداث تشكّل إلى جانب طرد القوات العسكرية الفرنسية من المنطقة، "تسبّب المتاعب" للأمن الاجتماعي الإقليمي والتنمية الاقتصادية والاستقرار السياسي والتكامل الإقليمي. فماذا وراء موجة المد التي تجتاح منطقة الساحل، وماذا تعني بالنسبة للمنطقة؟
إرث الاستعمار الفرنسي
تختمر المشاعر المناهضة للاستعمار الإمبريالي في منطقة الساحل منذ سنوات. وحالة النيجر، التي ترمز إلى موجة المقاومة في المنطقة، ظهرت مع خروج جموع الناس إلى الشوارع مؤيدة الانقلاب العسكري ضد مخلّفات الاستعمار الفرنسي الذي هو جذر الفساد الهيكلي المستشري، وحرم قطاعات كبيرة من السكان من قوتها ورزقها.
الكثير من هذا الفساد يتمركز في قطاع التعدين في النيجر، والذي يمثّل أحد أكبر رواسب اليورانيوم الأعلى جودة في العالم. على سبيل المثال، في عام 2014، قبل الانقلاب، خفض الرئيس النيجري آنذاك محمد إيسوفو الضرائب على أنشطة التعدين التي استفادت منها الاحتكارات الفرنسية بشكل مباشر، وتلقّى مدفوعات غير مباشرة في المقابل. وفي الوقت نفسه، عمل الجيش الفرنسي في النيجر كدركيّ لشركات التعدين وضد أولئك الذين يسعون إلى الهجرة إلى أوروبا.
وتعدّ شركة مناجم "آير سومير" وهي "مشروع مشترك" مزعوم بين النيجر وفرنسا في صناعة اليورانيوم، مثالاً آخر على استمرار النفوذ الفرنسي في المنطقة وفي القارة. وفي حين تمتلك هيئة الطاقة الذرية الفرنسية وشركتان فرنسيتان 85% من الشركة، فإن حكومة النيجر تمتلك 15% فقط. ويعيش ما يقرب من نصف سكان النيجر تحت خط الفقر و90% يعيشون من دون كهرباء مع أن اليورانيوم من النيجر يضيء 1 من كل 3 مصابيح كهربائية في فرنسا. ولا ينبغي أن يكون مفاجئاً أنّه بعد وقت قصير من انقلاب عام 2023، استولى المواطنون النيجريون على السفارة الفرنسية والقاعدة العسكرية في العاصمة نيامي، بعد طرد القوات العسكرية الفرنسية بوقت قصير.
السيادة والأمن والإرهاب
في العام 2024، ألغت حكومة النيجر اتفاقاً عسكرياً عمره عقد من الزمن مع الولايات المتحدة، وذلك بعد يومين فقط من اجتماع وفد أميركي مع السلطات المحلية للإبلاغ عن مخاوفهم بشأن شراكات النيجر الاقتصادية مع روسيا وإيران. وفي بيان عام، أدانت حكومة النيجر بشدة الموقف المتعالي المصحوب بالتهديد بالانتقام الأميركي من حكومة النيجر وشعبها. وأضاف البيان أنّ "النيجر تأسف لنية الوفد الأميركي حرمان الشعب النيجري صاحب السيادة من الحق في اختيار شركائه وأنواع الشراكات القادرة على مساعدته حقاً في مكافحة الإرهاب، في وقت قررت فيه الولايات المتحدة الأميركية من جانب واحد تعليق كل التعاون". كما أشارت الحكومة إلى أسباب لإلغاء الاتفاقية مع الولايات المتحدة: التكلفة التي ألحقتها بدافعي الضرائب النيجريين، ونقص التواصل حول العمليات المحلية وأنشطة القواعد العسكرية الأميركية، وتحرّكات الطائرات غير المصرّح بها، وعدم فعّالية ما يسمى بعملها في مكافحة الإرهاب.
أنشأت الولايات المتحدة أكبر وجود عسكري أجنبي في القارة الأفريقية، بدءاً من "مبادرة عموم الساحل" في العام 2002، وما أعقبها من تشكيل "أفريكوم" في عام 2007، أي القيادة المركزية لأفريقيا التي نشرت شبكة كبيرة من القواعد العسكرية الأميركية في عموم منطقة الساحل بينها 9 في النيجر لوحدها، و2 في مالي وأخرى في بوركينا فاسو.
الهدف الاستراتيجي لـ "أفريكوم" ليس ما يزعم لصدّ الإرهاب العابر للحدود الوطنية، لأنه في الأساس هو محاولة لإقامة حصن من المعوّقات بمواجهة من يناهض المصالح الإمبريالية الغربية في أفريقيا، ومنها صد شهية الصين للنفط والمعادن والأخشاب في القارة. كذلك تتيح تنظيم علاقة "أفريكوم" مع الدول أن تبقي أعمالها غير مرئية إلى حد كبير وبقيد السرية حتى في البلدان والمجتمعات المضيفة لها.
في أعقاب حرب حلف شمال الأطلسي على ليبيا بقيادة فرنسا والولايات المتحدة، تورّطت منطقة الساحل في صراعات أكثرها مدفوع بأشكال ناشئة من الأنشطة المسلحة للإرهابيين وعصابات تهريب البضائع التجارية، وقد استخدمت فرنسا والولايات المتحدة هذه الصراعات كذريعة لزيادة تدخّلاتهما العسكرية في جميع أنحاء المنطقة. وفي عام 2014، أنشأت فرنسا في منطقة الساحل ترتيباً عسكرياً شمل بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر، ووسّعت أو فتحت قواعد عسكرية جديدة في مالي وتشاد والنيجر وبوركينا فاسو. وفي عام 2019، بدأت الولايات المتحدة في شنّ غارات بطائرات من دون طيار، وبمراقبة جوية عبر منطقة الساحل والصحراء الكبرى من قاعدتها الجوية 201 خارج أغادير النيجر، وهي أكبر بناء لقاعدة جوية أميركية خارج الولايات المتحدة.
يجد مؤشر الإرهاب العالمي أنّ منطقة الساحل كانت الأكثر تأثّراً بالإرهاب في عام 2023، بحصيلة نصف أعداد الضحايا المرتبطة بالإرهاب، وربع عدد الحوادث الإرهابية في جميع أنحاء العالم. وقد صُنّفت كلّ من بوركينا فاسو ومالي والنيجر بين البلدان العشرة الأولى الأكثر تأثّراً بالإرهاب، وهي حقيقة غالباً ما تدل على فشل الحكومات الجديدة التي يقودها الجيش.
بين عام 2011 "عام حرب الناتو على ليبيا"، وعام 2021 "عام أول موجة من الانقلابات الساحلية الأخيرة في مالي"، ارتفعت بوركينا فاسو ومالي والنيجر من المراكز 114 و40 و50 على التوالي على مؤشر البلدان الأكثر تأثراً بالإرهاب إلى 4 و7 و8. من الواضح أنّ الحرب على الإرهاب التي شنتها الولايات المتحدة وفرنسا لم تفعل شيئاً يذكر لتحسين الأمن في المنطقة، بل كان لها في الواقع تأثير معاكس.
البحث عن شركاء ومسارات جديدة
خاب أمل شعوب الساحل ليس فقط من الاستراتيجيات العسكرية للغرب، كما يتضح من اتفاقيات التعاون الأمني المتزايدة مع البلدان الأخرى، ولكن أيضاً من السياسات الاقتصادية الغربية التي لم تسفر إلّا عن القليل من التنمية الاجتماعية. على الرغم من موارد الطاقة الوفيرة في المنطقة، بما فيها احتياطيات اليورانيوم الضخمة في النيجر، مع ذلك تعاني منطقة الساحل من أدنى مستويات توليد الطاقة والوصول إليها في العالم، حيث لا يستطيع ما لا يقل عن 51% من السكان الحصول على الكهرباء.
وعلى الرغم من أنّ تحالف دول الساحل بدأ كميثاق دفاعي، إلا أنّ الاستقلال السياسي والتنمية الاقتصادية هما محور التركيز الأساسي. ويشمل ذلك، على سبيل المثال، متابعة مشاريع الطاقة المشتركة واستكشاف إمكانية إنشاء مبادرات إقليمية للطاقة النووية المدنية. وقد وقّعت بوركينا فاسو بالفعل، اتفاقيات مع شركة "روساتوم" وهي شركة روسية مملوكة للدولة لبناء محطات طاقة جديدة، في حين تعمل مالي على تطوير تطبيقها للطاقة الذرية من خلال البرنامج النووي الوطني.
وفي نهاية المطاف، يمثّل تحالف دول الساحل محاولة لدعم مطالب السيادة والحق في تقرير المصير وهي الأجندة التي تدفّقت عليها شعوب النيجر وبوركينا فاسو ومالي إلى الشوارع لدعمها.
تتكشّف الأحداث في منطقة الساحل بوتيرة سريعة، ولكن كما كتبت الروائية عائشة فوفانا في كتابها "عش النمل" في عام 2006، "لقد كنا دائما كرماء، والصبر ضروري، والتغيير مقبل، لكن بوتيرة أفريقيا الخاصة".
نقله إلى العربية: حسين قطايا