"The Nation": نشهد ولادة يهودية جديدة
إنّ مستقبل شعبنا يُكتب في الجامعات والشوارع. آلاف اليهود من جميع الأعمار يكتبون تاريخاً لليهودية أفضل من ذاك الذي ورثناه.
مجلة "The Nation" الأميركية تنشر مقالاً للكاتب ويل الدن، يقول فيه إنّ اليهود الذين ينادون بالسلام وبتحرير فلسطين يسطّرون ولادة هوية جديدة لليهودية.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
مساء الجمعة الماضي، ووسط حالة من الهلع الجماهيري نتيجة التظاهرات التي تشهدها الجامعات تضامناً مع غزة، التقيتُ زملائي اليهود في وسط مدينة لوس أنجلوس للاحتفال بيوم السبت اليهودي، واستمعنا إلى الكلمات التي أُلقيت، وتشاركنا الترانيم والصلوات.
لقد كان اجتماعنا يوم السبت مُلحاً بعد أسبوع تعرّض خلاله الطلاب في مدينتنا لمعاملة وحشية بسبب الإعلان عن رؤيتهم للعالم؛ فقبل شروق شمس اليوم السابق، قامت الشرطة، التي أطلقت الرصاص المطاطي والقنابل الصوتية، بإزالة الخيم التي تم نصبها في حرم جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، واعتقلت عدداً من الطلاب ومن أعضاء هيئة التدريس. وفي محاولة لتبرير هذه المداهمة، أشار المستشار جين بلوك إلى الهجوم الدموي الذي استمر لساعات من قبل حشد من المتظاهرين المؤيدين لـ"إسرائيل" في الليلة السابقة.
إنّ ملاحقة مخيّمات الطلاب في جميع أنحاء البلاد باسم سلامة اليهود هي أمر مهين جداً لليهود الذين تدعوهم هويتهم اليهودية إلى التضامن مع القضية الفلسطينية. فسلامة اليهود موضوع لا يحتاج إلى التعريف به، والمجموعات المتنوعة من الطلاب الجادّين الذين يحاولون خلق مستقبل أكثر عدلاً لا تثير قلقنا، وما يحصل هو بمنزلة رد فعل استبدادي يعرّض الناس من جميع الخلفيات للخطر، وما يبدو كأنه يستهدف اليهود لحمايتهم يعمل على عزلنا عن حلفائنا الطبيعيين.
وفي تلك الأماكن التي يزدهر فيها التضامن، ينمو تقليد يهودي جديد؛ فوسط البشاعة والموت، وبينما تتمسك مؤسساتنا بالفكرة الخاطئة القائلة إن سلامتنا تأتي من خلال الممارسات الوحشية لسلطة الدولة، تتم كتابة مستقبل شعبنا في الجامعات والشوارع. آلاف اليهود من جميع الأعمار يكتبون تاريخاً أفضل من ذاك الذي ورثناه. إنّ تقليدنا اليهودي الجديد يعطي الأولوية لقول الحقيقة وللعدالة. وبناء عليه، فإنّ التقليد اليهودي القديم هو الذي أعطانا جميع الأدوات التي نستخدمها اليوم.
لقد قمت بزيارة مخيم جامعة كاليفورنيا ليلة الأربعاء من الأسبوع الماضي قبل ساعات من تفكيك الشرطة له. كان الجو العام مضطرباً. وقد تمركزت تشكيلات كبيرة من الضباط في الخارج مباشرةً، فيما كانت المروحيات تحلق بشكل صاخب في سماء المنطقة. في المقابل، كانت هناك عشرات الخيام الملتصقة ببعضها البعض ومئات الأشخاص الذين يتسكعون أو يقومون بأعمال مختلفة، بما في ذلك توزيع الوجبات الخفيفة ونقل الإمدادات وتحصين المحيط وتسليط ضوء قوي على رجال الشرطة الذين يحدقون إلينا من نوافذ قاعة "رويس".
ربما يعتمد مستوى راحتك في مثل هذه المساحة على مستوى صدى الهتافات الصادحة على إيقاع الطبول، ومع جداريات يسارية مكتوبة على جدران واجهة رومانسكية فخمة. يتطلب المخيم جواً من الثقة والاهتمام المتبادل، كما يتطلب شجاعة، نظراً إلى الطريقة التي واصل بها المناهضون ترويع المتظاهرين من دون أن تتصدّى لهم الجامعة.
ومع تنامي المساحة التي احتلها الطلّاب لمدة أسبوع، والتي عادة ما تزين الكتيبات، تضمّن المخيم مكتبة شعبية واجتماعات لمناقشة المواضيع ذات الصلة ومشاريع فنية وعرضاً لفيلم "معركة الجزائر"، إضافة إلى إحياء مناسبة عيد الفصح (مع إضافة الزيتون والفراولة والبطيخ إلى الطقوس التي ترمز إلى التضامن مع فلسطين وغزة).
وكان في السبت اليهودي الذي أقيم في وسط المدينة مسلمون جالسون مع اليهود، وكذلك مسيحيون. وفي الوقت نفسه، كان المسلمون يؤدون صلاتهم، وظهرت صلوات الإسلام اليومية إلى جانب الطقوس اليهودية على الأجندة.
لقد عاش الكثيرون نوعاً من الحداد بعد تدمير المخيم. وبعد ظهر يوم الخميس، التقيت طالبين من جامعة كاليفورنيا خارج سجن "توين تاورز"، كانا قد توجها إلى هناك لدعم الطلاب الذين تم القبض عليهم في وقت سابق من ذلك اليوم، وقد تملّكهما الحزن والغضب وكانا ينهاران أحياناً في أحضان بعضهما البعض.
لقد بدوا كأنهما صديقان منذ فترة طويلة، لكنهما أخبراني بأنهما بالكاد كانا يعرفان بعضهما بعضاً قبل أن يقضيا اليوم السابق في بناء تحصينات خشبية في أعقاب الهجوم الغوغائي الذي نفذه مؤيدو "إسرائيل". وأخبرتني إحداهن، وتُدعى إيزابيل، بأنّ روح التعاون التي سادت المخيم كانت "واحدة من أروع الأشياء التي رأيتها على الإطلاق. وفي الوقت نفسه، كانت هناك بعض أفظع الأشياء التي رأيتها على الإطلاق. وأعتقد بأن السوط ربما كان الجزء الأصعب والأكثر إيلاماً".
في كتاب "Freedom Dreams: The Black Radical Imagination"، ذكر روبن دي جي كيلي أنّ أفضل الحركات الاجتماعية "تقوم بما تفعله الأشعار العظيمة دائماً، فهي تنقلنا إلى مكان آخر، وتُجبرنا على استعادة الذكريات المرعبة، والأهم من ذلك أنّها تمكّننا من تخيّل مجتمع جديد".
كيلي هو أستاذ متخصص في مادة تاريخ الولايات المتحدة في جامعة كاليفورنيا وعضو مؤسس في كلية العدل في فلسطين التابعة للجامعة؛ وقد وصف مخيم الطلاب بـ"النجاح الباهر" خلال اتصال هاتفيّ معه بعد دهم الشرطة للمخيّم. وقال لي: "سبق أن شاركت في الحركة المناهضة للفصل العنصري في الثمانينيات في جامعة كاليفورنيا، إلّا أننا لم نشهد هذا النوع من التضامن والتضافر المجتمعي من قبل. لقد كان هؤلاء الطلاب أكثر تقدماً".
إنّ مطالب الطلّاب، التي تشمل الكشف عن أصول الجامعة وسحب استثماراتها من الشركات "الشريكة" في الجرائم التي ترتكبها "إسرائيل"، لن تتحقق بسهولة. علاوة على ذلك، قد يبدو غريباً الحديث عن "النجاح" في سياق هذه الحركة التي تهدف في نهاية المطاف إلى وقف الإبادة الجماعية المستمرة.
أنشر الكثير في صفحتي في "إنستغرام" في مثل هذه الأوقات. لا أنشر الصور والعناوين العريضة فحسب، بل مقالات صغيرة أيضاً، كما لو كنت أحمل مكبر الصوت مرة أخرى. ربما أحاول استعادة الشعور بالقوة أو أحاول تحقيق إنجاز ما في هذا العالم؛ كتغيير رأي أحدهم! أشعر بأننا أدّينا عملنا، لكن لم يتغير شيء؛ إذ يستمر قتل الأطفال في غزّة بشكل مروّع.
إنّ الهدف الذي نسعى إلى تحقيقه واضح، ويتمثل في إنهاء هذه الحرب المدعومة من الولايات المتحدة وتأمين الحرية والعدالة للفلسطينيين. ومع ذلك، فإن سعينا في حد ذاته له قيمة. وفي مقال نشر في موسم سابق من احتجاجات ربيع عام 1968، وصف الناقد جون بيرغر هذا العمل بأنه "تبرير مناسب" للقول إنّ التظاهرات تهدف إلى الضغط على الأشخاص الموجودين في السلطة. ووفقاً لبيرغر، فإنّ "التظاهرات الحاشدة تُعدّ بمنزلة تدريبات على الثورة؛ وهي ليست تدريبات استراتيجية أو حتى تكتيكية، بل تدريبات على الوعي الثوري".
إنّ حقيقة وجود مخيمات تضامن مع غزة تشكل تحدياً للوضع الراهن ومصدراً للأمل في غزة التي دُمّرت كل جامعاتها. كما أنّ حقيقة التضامن بين الفلسطينيين واليهود، وهو تضامن واسع وغريب ومتعدد الأعراق والقدرات وبين مختلف الطبقات يتضمن صراعات مترابطة ضمن إطاره، تمثل تحدياً يبدو أنه يرعب المؤسسة اليهودية الأميركية. وكانت الجماعات اليهودية الرئيسة، بما في ذلك المجلس الإسرائيلي الأميركي والاتحاد اليهودي في لوس أنجلوس، هي المسؤولة عن تنظيم تظاهرة كبيرة مؤيدة لـ"إسرائيل" في جامعة كاليفورنيا يوم الأحد بعد إنشاء المخيّم، وقبل أيام فقط من قيام المتظاهرين المناهضين بشن هجومهم الليلي.
وكان رفاقي الذين يرتدون قمصاناً سوداً تحمل عبارة "ليس باسمنا" موجودين أيضاً في جامعة كاليفورنيا في ذلك الأحد، وسط حشد من المتظاهرين الداعمين لمخيم الطلاب. وتُظهر مقاطع الفيديو من ذلك اليوم الجانب المؤيد لـ"إسرائيل" وهو يطلق الشتائم والإهانات، ويبصق على المتظاهرين، ويستخدم الترهيب الجسدي والعنف.
وقالت ميليسا فينيل، وهي مخرجة وأستاذة في جامعة كاليفورنيا، في وقت لاحق خلال قداس يوم السبت اليهودي الذي أقيم في وسط المدينة إنّ "الكراهية والانتقادات اللاذعة التي تلقيناها يوم الأحد، عندما عرّفنا عن أنفسنا بأننا يهود ننتقد "إسرائيل" وندعم حرية الفلسطينيين، لم تكن مثل أي موقف شهدته من قبل. ولم يقتصر الأمر على شتمنا والصراخ علينا بأننا يجب أن نخجل، وأننا لسنا يهوداً حقيقيين، ونفخ أبواق الهواء بقوّة في آذاننا واتهامنا بدعم حماس، بل كانت إحدى أصعب اللحظات بالنسبة إلي عندما صرخت امرأة يهودية في أذني واتهمتني بالرغبة في قتل أطفالها".
شعرت في بعض الأحيان بالقلق عند ارتداء القميص الخاص بي الذي يحمل عبارة "ليس باسمنا / اليهود يطالبون بوقف إطلاق النار الآن" أثناء المشي بمفردي للعثور على حمّام أو لركوب سيارة بعد حدث ما، وخصوصاً لأن الجزء الخلفي من القميص يتضمن عبارة "يهودي"، وليس الجزء الأمامي منه.
لقد تم نعتي بالإرهابي أو وصفي بمعادٍ للسامية عندما كنت مجتمعاً برفاقي خلال مسيرة حاشدة. وخلال حفل عيد الفصح الذي أُقيم في الهواء الطلق في جامعة جنوب كاليفورنيا، والذي نظمه ناشطو منظمة الصوت اليهودي من أجل السلام، مر رجل أبيض، ويفترض أنه غير يهودي، قرب تجمعنا، وصرخ حرفياً: "اللعنة عليكم أيها اليهود. ارجعوا إلى بلدكم! فهذه أميركا". عندها، لم أستطع منع نفسي من التفكير في كيفية توافق منطقه المؤيد لسيادة العرق الأبيض مع منطق الصهيونية، والفكرة القائلة إن موطننا الحقيقي موجود في مكان آخر.
إنّها لحظة غريبة؛ إذ ينتابني في الوقت نفسه شعور بالخجل من زملائي اليهود وشعور بالامتنان أكثر من أي وقت مضى لكوني يهودياً، فاليهودية تبدو كأنها مشروع يشرفني أن أعمل عليه إلى جانب أصدقائي والكتّاب والحاخامات والعلماء والناشطين الذين نحبهم. كما أنّها تشبه القصر القديم الذي يحتاج إلى عمليات تجديد وإصلاح تحويلية.
أعلم أنّ الكثير منا يشعر بخيانة معابدنا ومؤسساتنا الرئيسة عند احتشاده لدعم هذه الحرب. وما تقدمه مجموعات مثل حركة "إن لم يكن الآن" ومنظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام" ليس مجرد مجتمع للناشطين، بل هو شيء يشبه تجمعاً، وسيتعين على قادة التجمعات الحالية توخي الحذر في حال عدم رغبتهم في خسارة الأجيال القادمة من الأعضاء.
وتشير تقديرات حركة "إن لم يكن الآن" إلى أنّ العضوية الوطنية في المجموعة تضاعفت منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر. وقد أخبرتني نوا كاتلر كوبيتز، وهي المنظِمة في منطقة الساحل الغربي، أنها قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر تلقت ما بين 10 و15 طلباً لحضور اجتماعاتها. أمّا في اجتماعها الأخير، فقد تلقت 300 طلب للحضور.
وفي يوم السبت اليهودي الذي أُقيم خارج مبنى "City Hall"، تحدثت ساشا بيري، وهي طالبة حاخامية وناشطة مجتمعية، عن شعورها "بالحزن"، لأن الأمر استغرق إبادة جماعية "لدفع الناس إلى التحرّك" من أجل تحرير فلسطين.
نقلته إلى العربية: زينب منعم