"Scoop": الولايات المتحدة تطلق النار على نفسها
القوة الحقيقية للولايات المتحدة تكمن في الدولار، ودول مثل إيران والصين وروسيا وغيرها من الدول التي تخضع للعقوبات الأميركية تبحث عن سبل للحد من هيمنة الدولار على اقتصاداتها.
موقع "سكوب" المستقلّ ينشر مقالاً للكاتب يوجين دويل يتحدث فيه عن تراجع هيمنة الدولار الأميركي وقوة الدولار، وإمكانية أن ينقسم العالم إلى نظامين ماليين.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:
لقد أطلقت الولايات المتحدة النار على رأسها بسلاحها "الفريد" والأقوى في ترسانتها من طائرات "إف 16" أو صواريخ "هيمارس" أو أي سلاح تقليدي آخر، فالقوة الحقيقية للولايات المتحدة تكمن في الدولار، واستخدامه كسلاح في تزايد دائم، من خلال السيطرة على أصول النظام التجاري العالمي المقومة معظم مواده الخام وغيرها بالدولار الأميركي. وبذلك، تكون قد ربطت كل تفصيل بالاقتصاد العالمي باقتصادها على مر الزمن.
مع هذه الحالة الكلاسيكية من الغطرسة الإمبراطورية الأميركية، سوف تقوم مجموعة "البريكس" في قمتها المرتقبة في روسيا في شهر تشرين الأول/أكتوبر المقبل بإطلاق مجموعة من التدابير المضادة التي من شأنها أن تغير ميزان القوى العالمية بشكل جذري، لكن هذا لن يحدث هذا بين عشية وضحاها، إلا أنه آتٍ لا محالة كما الليل يتبعه النهار.
نشر الأسلحة المالية مستمر، وهو يتوسَّع في كل جهة في شبه فوضى تبدو فيه الإمبراطورية منحدرة تحت الأرض بعد عقود على تسيد الدولار، الإوزة الذهبية أو البقرة النقدية لأميركا، من خلال نظام "بريتون وودز" الذي أنشئ بعد الحرب العالمية الثانية لجعل الولايات المتحدة الأميركية مصرف العالم المتحكم في العملة الاحتياطية والمسيطر على كل التبعات الاقتصادية الأخرى، مع أنّ الولايات المتحدة زعمت آنذاك التزامها العمل كطرف محايد عندما تضع الشركات والحكومات الأموال بالدولار.
ويشير خبراء الاقتصاد مثل ريتشارد وولف، الأستاذ الفخري في جامعة "ماساتشوستس أمهيرست"، إلى أنّه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومن دون تكلفة وخطر ضئيل من التضخم، طبعت الولايات المتحدة أو ولدت رقمياً تريليونات الدولارات، واشترت منتجات وخدمات العالم في المقابل.
هذا هو الامتياز الذي يأتي مع امتلاك العملة الاحتياطية في العالم. بعدما دُفِع لهم بالدولار الأميركي، يستثمر هؤلاء الشركاء التجاريون أنفسهم الكثير من هذه الدولارات مجدداً في سندات الخزانة الأميركية وغيرها من الأدوات المقوّمة بالدولار. إنّها ميزة فريدة يجب حمايتها مهما كان الثمن، فقد كانت بريطانيا تتمتع بالشيء نفسه في أوج صعودها الإمبراطوري، مع فارق أنّ الولايات المتحدة حوّلت الدولار إلى سلاح يضغط على كل أنظمة التجارة الدولية بالتدابير والإجراءات العقابية والقسرية، ما أفقدها هذه الميزة التنافسية الفريدة التي تمتعت بها طوال الوقت الماضي.
في كتاب "الإمبراطورية السرية.. كيف سلّحت أميركا الاقتصاد العالمي" (نُشر في عام 2023) لمؤلفيه هنري فاريل من "جامعة جون هوبكنز" وأبراهام نيومان من "جامعة جورج تاون"، تتضح الدروس المستفادة لفهم رموز التدابير القسرية لسيطرة الولايات المتحدة على فضاءات الاقتصاد والمال بين الدول والشركات، بتهديدها طرد من تشاء من نظام "سويفت" الدولي لتسوية المدفوعات والاعتمادات التجارية، وإجبار مزودي الإنترنت الرئيسين على تسليم كل أرشيفها المعلوماتي عن المستخدمين إلى المسؤولين الأميركيين، ما يتيح لهم التوسع في أعمال التجسس والبلطجة، واستخدام الملكية الفكرية بقصد الاحتكار، كما أنّ تطبيق قانون إجراءات القرصنة مشكوك فيه أصلاً بقوة.
مع ذلك، الضغط على كوريا الشمالية لوقف برنامجها النووي العسكري باء بالفشل، وتعلّمت منه الولايات المتحدة ما يصقل من "هجومها العدواني" على إيران، وفرضت على اقتصادها المتوسط الوزن الخروج من نظام "سويفت".
بحسب المخطط الأميركي، كان من المفترض أن تشل العقوبات الأميركية روسيا، وتحوّل سيفاستوبول عاصمة شبه جزيرة القرم إلى ميناء لحلف شمال الأطلسي، وتخرج موسكو من صفوف القوى العظمى، وتؤدي إلى تغيير النظام، لكن ما حدث كان عكس ذلك تماماً، فقد ازدهر الاقتصاد الروسي وتجاوز الآن ألمانيا في القوة الشرائية المتكافئة، وهذه أداة للموازنة بين البلدان تستخدمها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والبنك الدولي ومؤسسات أخرى، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين بكل المقاييس، بما فيها الأبحاث الأميركية، أكثر شعبية من أي زعيم في الغرب.
وأعلنت مجموعة السبع هذا الشهر أنّها ستجمع قروضاً بقيمة 50 مليار دولار لأوكرانيا، وتدفع لحاملي السندات فوائد من الأموال الروسية التي سرقتها الدول الغربية كعقاب على حرب أوكرانيا. قد يكون الأمر مبتكراً، لكنه تحذير لكل الآخرين من حاملي احتياطات مالية بالدولار الأميركي وباليورو، وهذه إجراءات تأخذ أيضاً وضع كرة مدمرة للثقة بعملة لم تعد مقنعة، فالانفصال عن الدولار الأميركي يجري بوتيرة لم تكن متوقعة أبداً. وقبل 20 عاماً، كان ما يقارب 70% من الاحتياطيات العالمية التي تحتفظ بها البنوك المركزية بالدولار الأميركي. واليوم، انخفض إلى نحو 50%، وهو مستمر بالانحدار السريع.
الحقيقة هي أنّ أيّ بنك يستولي على أصول طرف آخر يدفع كل المودعين الآخرين إلى الخوف، حتى لو لم يكونوا من مؤيدي عشرات الدول الخاضعة للعقوبات، ومن مصدقي أكاذيب الغرب عن الحرب في أوكرانيا.
تبحث دول مثل إيران، والسعودية، وتركيا، وماليزيا، وفنزويلا، وعدد كبير من بلدان الجنوب العالمي الذي يشكّل القسم الأكبر من التعداد السكاني عن الخروج والابتعاد عن الدولار والحد من مخاطره عليها واستبداله بالذهب وسلّة من العملات الأخرى وابتكار بدائل جذابة بشكل متزايد.
وفي شهر آذار/ مارس في العام الجاري، احتفظت الصين بمبلغ 767 مليار دولار من سندات الخزانة الأميركية، أي نحو 10% من الدين الوطني، لأنّ بكين التي تخضع بالفعل لآلاف العقوبات تدرك أنّ الولايات المتحدة سوف تفعل أي شيء لوقف صعودها العالمي. ووفقاً للرئيس الصيني شي جين بينغ، يتوجّب على بلاده بناء نظام دفع مالي مستقل عن الهيمنة الأميركية، ما يشي بمخاطر حقيقية من أن ينقسم العالم إلى نظامين ماليين.
وفي اجتماع مجموعة "بريكس" في روسيا هذا العام قد يشهد العالم على تحركات كبيرة لإنشاء آلية تداول مالية بديلة للتنافس مع نظام "سويفت"، باعتماد نظام اتصالات عالمي جديد بين البنوك، وبناء مؤسسات تحلّ محل "صندوق النقد الدولي" و"البنك الدولي"، وربما سيعتمد بنك تنمية جديد موسع لمجموعة "البريكس" برأسمال 100 مليار دولار، ودعوة المزيد من البلدان إلى الانضمام إلى المجموعة التي تتضاءل أمامه "مجموعة السبع".
وكان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قد قال: "لقد بدأت هذه العملية في أعقاب القمة الأخيرة لمجموعة بريكس في جوهانسبرغ عاصمة جنوب أفريقيا، حيث اتفق القادة وطلبوا من وزراء ماليتهم وبنوكهم المركزية تقديم توصيات بشأن منصات الدفع البديلة". وبالتالي، العملية جارية، ولا يمكن وقفها.
كذلك، اقترح الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا أن تتطلع الجماعة الاقتصادية لدول أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي إلى المنصة التجارية الجديدة لحماية علاقاتها التجارية والاقتصادية من إساءة استعمال الدولار، في وقت أشارت 30 دولة إلى رغبتها في الانضمام إلى مجموعة "بريكس".
لقد بنت الولايات المتحدة معادلتها الاقتصادية محمية بترسانة نووية، وعليها ألا تُفاجأ الآن حين يفكر الآخرون في الضرب أولاً.
نقله إلى العربية: حسين قطايا